ونحن نرى من خلال تأويل تأويل ابن رشد بالبحث في مقاصد رؤيته السياسيّة أنّ فيلسوفنا لم يكن مكتفيا بالمعانى الظاهريّة للنّص الدينيّ، وأنّه كان يبحث عمّا وراءها من معان مخفية ولكنّه لم يكن يكشف عن ذلك بسهولة، وما يرويه ابن عبد الملك المراكشي عن تشكيكه في وجود قوم عاد[1] ضدا على القرآن مهم جدّا هنا، كما أنّ موقفه بخصوص المعجزات يؤدّى الغاية ذاتها. ومن هنا أهميّة فهم موقفه بخصوص التّأويل، لأجل هذا قلنا سابقا أنّ الأمر يتجاوز الإجابة عن سؤال الفصل والوصل بين الدّين والفلسفة إلى الغاية من ترتيب العلاقة بينهما. ومن هنا فإنّنا نفهم قوله عن الشّريعة والحكمة أنّهما أختان بالرّضاعة وأنّ الحقّ لا يضاد الحقّ بل يعاضده ويشهد له بأنّه محاولة لمصالحة الملّة مع الفلسفة، الّتي ينبغي افساح المجال أمامها للتّدخل في تدبير شأنها السياسيّ، وهو ما سيعبّر عن نفسه بوضوح على نحو خاصّ في تلخيص الجمهوريّة بما يعنية ذلك من مركزيّة المسألة السياسيّة في فلسفته وهو ما يمكننا من تحصيل بارديغم مهمّ في قراءة تلك الفلسفة على ضوء تأويل التّأويل المشار إليه. وهذا الّذي نقوله لا نعني به أنّه كان متغافلا عن الفروق الجوهريّة بين الشّريعة والفلسفة، فكلّ واحدة منهما تقف على قاعدة مختلفة عن الأخرى، فالشّريعة تستند إلى القداسة والوحي والتّسليم والطّاعة والإيمان إلخ…بينما تستند الفلسفة إلى العقل والبرهان وتجيز رفض الظّنون والأوهام.
لقد كان ابن رشد فضلا عن علمه وطبّه وفلسفته وفقهه منخرطا في السّياسة مثلما كان أباه وجده، فهو ينحدر من عائلة تقلّدت مناصب سياسيّة أقرب إلى وظيفتي الوزارة والسفارة، فالجدّ كان قاضي القضاة لفترة من الزّمن خلال الحكم المرابطي، وهي الوظيفة ذاتها الّتي تقلّدها الأب مثلما تقلّدها ابن رشد نفسه، الّذي فكّر في السّياسة من موقع المكتوي بنارها فقد عانى من اضطراب الوقت ودعا إلى إنقاذ ما غلا ثمنه وتبرّم من الفرق الكلاميّة وصراعاتها الّتي مزّقت الأمّة. ومن هنا رغبته في وقف الاشتباك بين الفلسفة والدّين لصالح وحدة الأمة [2] وإدراكه أهميّة العودة إلى الأصول الدينيّة في نقائها وبساطتها، كما العودة لأصول الفلسفة فذلك لازم حتّى تتدبّر الأمّة أمرها بالعقل والرويّة والبرهان، وأيضا بالخيال والوحي والرؤيا، ضمن توافق حول الغاية السياسيّة المطلوبة، لكن هذا المسعى سيصطدم بالفشل في حينه، حيث يذهب مونك وكوربان إلى القول إنّ فيلسوف قرطبة ترك السّياسة في شيخوخته ويئس من الاصلاح، ربّما في الوقت الّذي بدأت فيه نُذر نكبته تلوح في الأفق. ولا شكّ أنّ شخصيّة مثل هذه تكون على بيّنة من أنّ تطويع العامّة لتوجيهها ضدّ الفيلسوف فيه مخاطر كبرى، فالعامّة تتبع الغالب كما يقول ابن خلدون، الّذي يتمكّن من تطويعها شيئا فشيئا، وهو الّذي يمتلك من الوسائل الضّخمة ما يساعده على ذلك وما كان يثير سخريتها ونفورها واستهجانها قبل وقت قصير، يصبح مسلما به لتعبيره عن حقائق مطلقة الصّدق جرّاء التَّطويع المذكور.
لقد مهّد ابن رشد للقطع مع التّوظيف السّياسيّ للدّين من طرف المتكلمين، ومعه نجد بواكير تحييد السّلطة الدينيّة وإبعادها عن المجال السياسيّ بالالتفاف حول أطروحاتها عبر التّأويل العقليّ للنّص المقدّس، وفي ثنايا ذلك ترتيب العلاقة بين الفلسفة والدّين، فابن رشد كلّما وجد تضييقا من قبل النّص الدينيّ لجأ إلى التّأويل طالما أنّ للقرآن ظاهرا وباطنا كما ذكرنا، وترتيب العلاقة إنّما يعني هنا رسم الحدود والتّخوم فبدا كما لو أنّ هناك صراعا بين الفلسفة والدين، موضوعه السّيطرة على المجال السياسيّ.
وذلك التّرتيب يصبح مدار الانشغال فيه كيف ننظّم العلاقة بين الفلسفة باعتبارها عقلا، وبين الدّين باعتباره نقلا ومتخيّلا، واتجاه أبي الوليد ناحية توظيف الدّين يعني التزامه بإصلاح المدينة الواقعيّة لا المتخيّلة، فقد كان بإمكانه الاكتفاء بشرح أرسطو[3] وهي المهمّة الّتي ندبه الأمير للقيام بها ولكنّه التفت إلى المدينة لإصلاح شأنها وكان لابدّ من الاشتباك مع السلطتين الدينيّة والسياسيّة، فضلا عن تعريض نفسه لردّ فعل الجمهور، فكأنّما كان يحاول وقف الاشتباك بين الفلسفة والدّين في فضاء الملّة باعتباره غاية مطلوبة متوسّلا في ذلك اشتباكه مع القيمين على المحافظة على ديمومة ذلك الإشتباك. وهو ما يدلّل على إدراكه لأهميّة استثمار المتخيّل العام وإعادة النّظر في سبل استثماره السياسيّ، إذ كان يعرف أنّه محرّك ودافع للجموع فالأفراد، خاصّة خلال الأزمات يبحثون عن أوهام ومتخيّلات ويوتوبيا، ويفتشون عن ملّة أو جماعة أو قبيلة أو عشيرة، تحميهم، وهذه لها أساطيرها ورموزها ولابدّ من الأخذ بها والتّماهي معها في بعض الحالات.
والسّؤال الّذي يطرح نفسه هنا هو هل تمرّد ابن رشد على الملّة أم لا؟ والإجابة هي نعم ولا!! فقد تمرّد عليها فلسفيّا ولكنّه عقديّا كان مندمجا معها، لكن لا باعتبارها أمرا واقعا وإنّما باعتبارها هويّة يجب إعادة تشكيلها، فهو يحاول المرور بالملّة من واقع “العقائد” المتعدّدة إلى “العقيدة” الواحدة ومن هنا اعتناؤه بالكشف عن مناهج الأدلّة في عقائد الملّة وتعريف ما وقع فيها بحسب التّأويل من الشُبه المُزيفة والبدع المُضلّة، فالاختلاف هنا ليس رحمة وإنّما لعنة، وهو ما يتيح لنا استنتاج أنّه لم يكن مدافعا عن وضع إيديولوجيّ وسياسيّ سائد من بوابة المحافظة فلسفيّا عليه وإنّما على العكس تماما، فقد كان معنيا بنقده وخلخلة بناه في اتّجاه تأسيس وضع آخر يقوم بديلا عنه، لذلك فإنّ عودته إلى الأصل كما قلنا هي في جوهرها من أجل وثبة في اتّجاه المستقبل. فما يريده برأينا ليس وقف الاشتباك بين الفلسفة والدّين فحسب وإنّما أيضا تجاوزه في اتّجاه تدبير المدينة، على نحو يقوم فيه العقل بدوره والخيال أيضا. ولكن كلّ في مجاله على أن تحترم تلك الحدود بين المجالات المختلفة بما يحقّق وحدة الملّة.
وفي حال تمّ الأخذ بهذا الحلّ تكون المدينة العربيّة قد تجاوزت أزمتها التاريخيّة الّتي ظلّت تعيش معها في حلّها وترحالها مشرقا ومغربا. فطالما كان السّبب الحقيقي للاشتباك بين الدّين والفلسفة هو الصراع على المجال السياسيّ فإنّ الحلّ يوجد في ذلك المجال بالذّات وهو الّذي يحتاجه أكثر من غيره.
غير أنّ هناك مشكلة عويصة تواجه ابن رشد هنا فإذا كانت السّياسة علما فكيف تسمج للخيال بأن يتداخل معها في تدبير المدينة؟ لحلّ هذه المشكلة نعود إلى تفريق ابن رشد بين “الخاصّة” و”العامّة” من جهة وبين “حاضر” المدينة و”مستقبلها” البعيد، فالخاصّة لا تحتاج غير العلم في تدبير المدينة ولكنّها إذا ما قُيض لها يوما أن تكون في قيادة دفّة السّلطة فإنّها في حاجة إلى استثارة خيال العامّة كما ذكرنا والمستقبل البعيد لا يمكن إدراكه دون المرور بالوقائع العنيدة في بؤسها وانحطاطها.
وفي المقابل فإنّ الفلاسفة إذا ما أخذتهم النّقاشات حول صحة أو عدم صحة المبادئ الأولى للأديان والمعجزات وصدق النّبوات إلخ… فإنّهم لن يجلبوا على المدينة غير الانقسام مثلهم في ذلك مثل المتكلمين لذلك أجاز اعتبارهم “زنادقة” توجّب التخلص منهم. وهو ما يعني أنّ ابن رشد يقف قبالة الرازي الفيلسوف على هذا الصّعيد مثلا وهو الّذي لم يدرك هذا الجانب في الفلسفة فأضحت لديه مجرّد مماحكة حول صحة مبادئ العقيدة أو خطئها، وهو ما يحاول ابن رشد نحت رؤية مضادّة له، فالفيلسوف معني بالسّياسة وبالتّالي باختراق الفضاء العامّ الّذي يعيش فيه أوسع النّاس لا الاكتفاء بمناقشة مبادئ الأديان في صومعته مع قلّة من تلامذته، كما أنّ الفلسفة معنيّة بوحدة الملّة لذلك فإنّها حذرة في تعاطيها مع خيال الأمّة فهي تستعمله لصالحها دون أن تتورّط في السّخرية منه بما يجلب الأذى على الفلسفة ويطردها نهائيّا من مجال السّياسة. ومن هنا فإنّ الفلسفة معنية برسم الحدود أمام تدخلها في السّياسة بنفسها كما رسم حدود تدخل الدّين وإلّا فإنّ السّياسة ستنفصل عن الفلسفة وقد يسيطر على فضائها أعداء الفلسفة من الزّائغين من أهل الملّة فتتفاقم الأزمة، فابن رشد مسكون بهاجس شقّ طريق للفلسفة كي تستوطن السّياسة. وهو مدرك لهشاشة منزلتها قياسا إلى منزلة الدّين في الملّة.