16 سبتمبر 2014 بقلم
محمد أبرهموش قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:”... أن تكون مؤرخًا يجب عليك في أول الأمر أن تكون مؤرخ نفسك...“ لوسيان فيفر، معارك من أجل التاريخ.
يعد مجلد "لوسيان فيفر يعيش التاريخ" "LUCIEN FEBVRE vivre l’histoire"، من أهم الكتابات الإسطوغرافية الفاعلة في التاريخ ومناهجه؛ إذ يكفينا أن نشير إلى دور لوسيان فيفر، في إعادة التفكير في الكتابة التاريخية الفرنسية بصفة خاصة، والتاريخ العالمي بصفة عامة، إذ أخذ على عاتقه البحث في مجالات تاريخية أغفلها المؤرخ "التقليدي"، من خلال تركيزه على التاريخ السياسي القائم على إبراز الجانب "النخبوي" في التاريخ مغفلاً طبقات اجتماعية أخرى كانت تعيش على هامش "النظام".
يعد لوسيان فيفر lucien Fevbre (1878 ـ 1956) من أبرز المؤرخين في القرن العشرين، عانق طموحاته المعرفية التاريخية، بعيدًا كل البعد عن التاريخ الدبلوماسي والوقائعي والحدثي، وفق تصور جديد للتاريخ معزز بالعلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، من خلال فتح أوراش جديدة من قبيل: تاريخ الأغذية، وتاريخ الأحاسيس، وتاريخ الجسد، والتمثلات الذهنية أو ما أطلق حينها بالمخيال.
بدأ لوسيان فيفر مشروعه في المعرفة التاريخية منذ ولوجه الجامعة طالبًا بشعبة الآداب بجامعة نانسي، ثم المدرسة العليا للأساتذة بباريس والسوربون، حتى حصل على شهادة الدكتوراه حول إقليم "الفرنش كونتي"، بعدها عيّن أستاذًا بستراسبورغ سنة 1919، ثم أستاذًا بكوليج دوفرنس سنة 1933. كما شكلت مشاركته في الحرب العالمية الأولى طفرة مهمة في حياته، كتب بعدها تصورات مهمة حول الحرب. وقد أسس لوسيان فيفر مجلة الحوليات بمعية رفيقه مارك بلوك Marc Bloch سنة 1929، بهدف بناء وجهة إعلامية رصينة، تكون بمثابة قناة للتواصل بين كل المهتمين بالعلوم الإنسانية، فاستطاع بذلك أن يمهد لسجالات علمية تمحورت حول الحدود الإبستمولوجية بين العلوم الإنسانية وإمكانية تحقيق الشمولية في ما بينها، ودون أن ننسى الإشارة إلى بعض مقالاته ذات النزعة الاشتراكية بين 1907 و1909.
[2]وقد شهدت حياته أعمالاً كثيرة تنم عن ولعه بالتاريخ، لدرجة يصعب الإحاطة بها، ومن بينها:
ـ فيليب الثاني والفرنش كونتي: دراسة في التاريخ السياسي والديني والاجتماعي.(1911)
ـ تاريخ الفرانش كونتي (1912).
ـ الأرض والتطور البشري: مدخل جغرافي إلى التاريخ (1922).
ـ المصير: مارتن لوثر (1928).
ـ الراين: مشاكل في التاريخ والاقتصاد (1935).
ـ مشكلة "الإلحاد" في القرن السادس عشر: ديانة رابليه (1942).
ـ ميشليه 1798 ـ 1874: ميشليه أو الحرية الأخلاقية (1946).
ـ معارك من أجل التاريخ (1953).
كما نُشرت بعض أعماله بعد وفاته، ومن أبرزها: كتاب "في قلب تدين القرن السادس عشر" (1957)، ومؤلفه "من أجل التاريخ الشمولي" (1962).
هكذا ظل لوسيان فيفر مكافحًا من أجل التاريخ، إلى أن توفي سنة 1956، تاركًا وراءه إرثًا معرفيًا مهمًا، يمكننا فهم أسسه من "بيانه" الأخير الذي يقول فيه: "...أتمنى في المستقبل لكل مجهوداتي بأن تعانق هذه الدروب، وتملأ هذه المجاري..."
[3]تقديم الكتاب:
يتكون هذا المجلد "لوسيان فيفر يعيش التاريخ" من 4011 صفحة موزعة إلى فصول أو مباحث، حاولت أن تقدم لوسيان فيفر على شكل مؤرخ يعشق التاريخ إلى درجة يقتحم فيها أغوار معارك فكرية، كانت قائمة على قدم وساق بداية القرن العشرين، بهدف الرقي بتمثلات المجتمع حول التاريخ علماً قائماً بذاته، عن طريق فتح قضايا منهجية ومعرفية للنقاش، ورفعها من مستوى المسلمات المعرفية إلى درجة "وجهة نظر".
وكانت هذه الكتابات حول لوسيان فيفر فاعلة في هذا المجلد الذي تكلفت بجمعه brigitté Mazon، وهي مهندسة للبحوث، حاصلة على شهادة دكتوراه الدولة تحت إشراف فرنسوا فريت Furet، في حين قام Bertand Muller بتصميم الغلاف، وهو أستاذ محاضر في "تاريخ التاريخ" بجنيف. تضمن هذا المجلد بعض المقالات حول حياة لوسيان فيفر وعلاقته بالتاريخ بالإضافة إلى بعض الدراسات التي خلفها لوسيان فيفر عند تأطيره وبنائه لمنهجية تاريخية نسقية تستمد بعض مكانيزماتها من العلوم الاجتماعية الأخرى، في شكل أفكار نسبية تحتاج إلى إعادة البحث وتنويع مصادر البحث التاريخي، إيمانًا منه أن النص التاريخي لا يستقيم إذا لم يأخذ في الحسبان درجة تعقد الظاهرة الإنسانية؛ فجاء تصميم متن هذا المجلد على الشكل التالي:
- Bertand Muller: كلاسيكية؟ لوسيان فيفر- Brigitte Mazon: لوسيان فيفر: المعارك والمصير
- Lucien Febvre: معارك من أجل التاريخ
- Lucien Febvre: من أجل تاريخ شمولي
- Henri Febvre: أبي، لوسيان فيفر
بالإضافة إلى لوحة كرنولوجيا حول لوسيان فيفر، تتضمن حياته العملية والشخصية وفق تسلسل تاريخي محكم.
لوسيان فيفر والتاريخ الشمولي الإشكالي:
إننا في هذا الكتاب أمام فسحة تاريخية تجعل من ولجها في غبطة معرفية تجسدها صورة لوسيان فيفر على غلاف الكتاب التي تعبر عن نظرة عميقة وأفق تأملي معرفي مهم؛ إذ يدرك القارئ من الصفحة الأولى لتقديم الكتاب أنه أمام كتاب مهم ومختلف، يعبر عن نفسه بوضوح دون غموض بدءاً من العنوان: "لوسيان فيفر يعيش التاريخ" الذي يفصح عن زخم معرفي وإبستمولوجي، قعّد له الجيل الأول من "مدرسة" الحوليات.
يستهل Bertand Muller هذا المجلد بسؤال معرفي يضع لوسيان فيفر أمام تساؤلات تاريخية، تحاول رصد المجالات التي فعَلها لوسيان فيفر مع جملة من المؤرخين في بداية القرن العشرين. هكذا يًقدم لوسيان فيفر عملاقًا للتاريخ، يفتح واجهات متعددة لعلها تسهم في تطوير الكتابة التاريخية، "باعتبار المؤرخ مفيد في الحياة، إنه حاجة أساسية في المجتمع، (تسهم) في فهم الإشكاليات العميقة المرتبطة بالحياة."
[4]استطاع لوسيان فيفر بمعية رفيق دربه مارك بلوك أن يؤسسا لمنهجية تاريخية جديدة، عبرت عن نفسها من خلال مجلة الحوليات قناةً للتواصل بين المهتمين بالتاريخ وباقي العلوم الاجتماعية، فأبدع فيفر الملامح الأولى للتاريخ الجديد المتمثلة في تاريخ العقليات والعادات، والتشوف لإسقاط الجدران العازلة التي تجاوزها الزمن وأصبحت في ضفة الأفكار المسبقة
[5]. وهكذا يجيب مولر Mullerعن شق من سؤاله حول لوسيان فيفر: "هل تعرفون لوسيان فيفر؟ بالتأكيد، إنه كلاسيكي: مؤسس مدرسة الحوليات مع مارك بلوك، ومبدع تاريخ العقليات وتاريخ الذاكرة"
[6]، إذ قام ببعث جوانب مهمة من منهجية جون ميشليه، وكلاسيكية عصر الأنوار أو "التاريخ المغمور"، بعدما تم إبعاده من اهتمامات مؤرخي المدرسة المنهجية.
ويتكون كتاب: "معارك من أجل التاريخ" من مقالات ودراسات على شكل سجال فكري إبستمولوجي حول المعرفة التاريخية، كتبت ما بين 1906 و1952. وقد توجت بشكل واضح في افتتاحية العدد الأول من مجلة الحوليات، عندما تم التركيز على تجاوز المنهجية التخصصية، وتكسير الحواجز الإبستمولوجية بين كل العلوم الإنسانية والاجتماعية، لملامسة بعض البنيات التاريخية الأخرى الاقتصادية والاجتماعية، والتركيز على إبداع إشكاليات وتصور جديد للتاريخ. فهل يمكننا القول مع مارتن هيرفي Hervé Matin وبوردي كي Guy Bourd: "إن كل من مارك بلوك ولوسيان فيفر لم يكتشفا شيئًا جديدًا، ولكنهما أتاحا الفرصة لمقاربة عصرية للتاريخ".
[7]حاول لوسيان فيفر في مقدمة كتابه ( معارك من أجل التاريخ)، أن يحيط القارئ بسياق تدوين متن مؤلفه المتميز، عند قوله: "إننا أمام بعض المقالات المكتوبة التي أثرت... طول نصف قرن... لنشر الأفكار التي نعتقدها دائماً مفيدة وضرورية.... (لهذا) إننا مجبرون بألا نضيف لهذه النصوص تغيرات على مستوى الشكل، لإخضاعها للتعديلات الظرفية."
[8]ويقول لوسيان فيفر: "...وأنا أجمع هذه المقالات عن غيرها، بدأت أتساءل مع نفسي أي نصب تذكارية هاته... فأبحث عن عنوان مخالف لها، هذا ما أنجزته وما سأتم إنجازه طيلة حياتي، بعض الأدوات التي تؤثث التاريخ، وبعض القشور المنحوتة من قصر "كليو"... هذه المجموعة من أجل أصدقائي... والعنوان الذي اخترته يذكر بالكفاح الدائم... أكيد لم أكافح يومًا من أجلي أو من أجل شيء آخر أو من أجل أحد، لكن معاركي كانت من أجل التاريخ، نعم من أجل التاريخ كافحت كل حياتي..."
[9]. إنها نظرة تركيبية عن ظروف جمع هذا الكتاب ونشره.
يحاول لوسيان فيفر في هذا السياق، أن يتتبع مسار التاريخ في كوليج دو فرانس، خاصة تلك التحولات التي شهدها كرسي التاريخ بعد وفاة الفريد مورتي Alfred Maurty سنة 1892، وما أحدثه هذا الأمر من تجاذبات وتهميش لموقع التاريخ في بعض المراحل التاريخية الممتدة إلى سنة 1933، إذ سيشهد علم التاريخ طفرة نوعية بعد تأسيس كرسي "التاريخ العام والمنهجية التاريخية التطبيقية في الفترة الحديثة"، تحت اسم "تاريخ الحضارة الحديثة". ويشير لوسيان فيفر إلى أنه لا يمكننا تتبع مسار الوعي بالتاريخ وإدراكه في المرحلة ما بين(1892 ـ 1933) دون العودة إلى بعض الأفكار والمنهجيات التي تأثرت بها المعرفة التاريخية في هذه الفترة. إنه تعبير مجازي عن انعكاسات المدرسة المنهجية على البحث التاريخي الفرنسي، حيث كانت تؤمن بالوثيقة المكتوبة، إذ "لا تاريخ بدون وثائق".
وبالتالي ظلت الدراسات التاريخية مرتبطة بمراجعة وقراءة النصوص وتحقيقها، فكانت "شكلاً فكريًا لثقافة قائمة على النصوص ودراساتها ثم شرحها... متقوقعة على نفسها في الثانويات والجامعات، لا تتجاوز المكاتب والأوراق، والنوافذ المغلقة ذات الستائر..."
[10] بعيدة كل البعد عن بعض الأنساق العلمية الأخرى، كالتاريخ الاقتصادي، الذي ظهرت بوادره مع فرنسوا سيمون Francois Simand، ثم الجغرافية البشرية مع فيدال دولابلاش Vidal De La Blache، مما وجه ذكاء وفكر شباب هذه المرحلة، نحو الدراسات الحقيقية والملموسة لكشف علاقة الإنسان بالمجال.
ناقش لوسيان فيفر نوع من الأسطوغرافية الفرنسية التي تهدف إلى بناء الهوية "الوطنية" من خلال التاريخ السياسي، وذلك في كتاب شارل سنيبوس "التاريخ الصادق للآمة الفرنسية"، وكتاب "السلم المسلح" روبو A.Roubaud، مشيرًا في ذلك إلى دور المجال في نسج بعض "المكانيزمات الهوياتية" التي أغفلها المؤرخ التقليدي، فقدم "الراين" مجالاً جغرافيًا مهمًا ساهم في بناء الهوية الفرنسية. وحسب لوسيان فيفر، يرتبط التاريخ ارتباطًا كبيرًا بالوثائق، لكن ما هي الوثائق التي يجب علينا الارتكان إليها دون غيرها أثناء ممارسة البحث والكتابة التاريخية؟ إنها كل الوثائق بمعناها الشمولي، فكل شيء مصدر، حيث يجب على المؤرخ ألّا يقتصر على الوثائق الأرشيفية، بل المصادر التاريخية المكتوبة وغير المكتوبة كلها، والاعتماد على مناهج العلوم الأخرى، إذ سيسهم في كتابة التاريخ اللغوي والأدبي والجغرافي والقانوني، وعالم الأجناس...إلخ.
وفي الإطار نفسه ودفاعًا عن التاريخ قدم لوسيان فيفر درسًا مهمًا تحت عنوان "ليحيا التاريخ" لطلبته في افتتاح سنة 1941، بيّن فيه، بما لا يدع مجالاً للشك، حبه وولعه بالتاريخ، مستحضرًا في ذلك مراحل مهمة من حياته المعرفية، عندما ولج عوالم الجامعة طالبًا في شعبة الآداب.
[11] والمثير في هذا الدرس الافتتاحي محاولة رصده لتلك التفاعلات المنهجية والمفاهيمية بين التاريخ الاجتماعي والتاريخ الاقتصادي،
[12] على شكل ترابطات إبستمولوجية، تؤكد شمولية التاريخ الاجتماعي وارتكانه على الجانب الاقتصادي، إذ ليس هناك تاريخ اجتماعي وآخر اقتصادي، بل هناك تاريخ اجتماعي كلي شمولي ينطلق من إشكالية الإنسان موضوعًا للتاريخ.
وإذا كانت المدرسة المنهجية قد قزمت موضوع التاريخ في الكشف عن الحدث في الماضي، فإن لوسيان فيفر يرى: "أن التاريخ يدرس الحياة في الماضي"، وهكذا دخل في نقاشات وسجالات إبستمولوجية مع العلوم الأخرى بهدف بناء وحدة علمية إنسانية، والدفاع عن مكانة التاريخ في منظومة العلوم الإنسانية، والتفكير، ربما، بقيادة جوقة العلوم الإنسانية، بهدف تسخيرها لخدمة البحث التاريخي الشمولي. ويظل المطلب الأساسي هو ذلك النداء "من أجل تاريخ معمق وكلي"، يحطم هذا التاريخ الفقير المنحط المزيف والمتخفي تحت قشرة مضللة، لهذا كان لوسيان فيفر يمقت التاريخ الدبلوماسي، لأنه عبارة عن واجهة تخفي الدور الحقيقي للتاريخ، المتواجد في البنى الخفية التي يتوجب الكشف عنها وتحليلها وتفسيرها."
[13] والأمر نفسه ينسحب على التاريخ الحدثي والفردي المتقوقع في وصف المعارك والأسر والجيوش وحياة البلاط، مغفلاً جوانب أخرى مهمة في التاريخ، ماهو مرتبط بالأحاسيس والمعتقدات ثم التمثلات على وجه الخصوص، وهي المجالات الفكرية الأسطوغرافية التي فعلها لوسيان فيفر بقوة، عندما تخصص في البنية الذهنية للقرن السادس عشر في أوروبا، قرن النهضة والتحولات الفكرية والدينية في مجموعة من روائعه سواء، مع "مارثن لوثر" أو "رابليه" أو "مارغريت دي نافار"، "... ففي كتبه الأساسية، اهتم بالسير، وهي نوع تقليدي، إلا أنه يجعل بطله يواجه مجتمع عصره. إنه يتحول بالتدريج من تحليل شخصية بارزة إلى استكشاف العقليات الجماعية..."
[14]. وما يحسب للوسيان فيفر في هذا المجال هو اكتشافه لمفهوم الآليات الذهنية
[15]، ومفهوم الإحساس، مما سيشكل صرحًا قويًا لتاريخ العقليات مع الجيل الثالث من الحوليات.
لوسيان فيفر والعلوم الإنسانية:
حاول لوسيان فيفر في إطار مشروعه الفكري المتمثل في بناء تاريخ شمولي أو كلي، أن يفتح ورشة "سجالية تواصلية" بين التاريخ والعلوم الإنسانية مركزًا على دورها في صناعة التاريخ "المنشود"، مغازلاً لها في بعض الأحيان وناقدًا لها في أحيان أخرى، إيمانًا منه بمهنة المؤرخ التي قاد معارك قوية من أجلها. وقد قدم في هذا الصدد توضيحًا مهمًا حول التحولات، التي عرفها الاسم الفرعي لمجلة الحوليات بيانًا يوضح أفقه في البحث التاريخي، والذي يرتشف من الأبحاث الجماعية حول علاقة الإنسان بالمجال لخلق مستقبل جديد للتاريخ.
وقدم لوسيان فيفر مثالاً على التاريخ الدبلوماسي الذي يمقته، إنه "تاريخ روسيا" الذي درس بنزعة سياسية أفقدته روح التاريخ والحياة. ألم يقل يومًا عن الكتاب الجماعي: "تاريخ روسيا"، الذي ألفه كل من شارل سنيبوس وEisenmann وMilioukov: "... فالتاريخ هو الذي لم أجده في تاريخ روسيا هذا، فقد ولد ميتًا...
[16]"، ولتجاوز هذا النفق، كتب لوسيان فيفر سنة 1933 رسالة ضد روح التخصص في العلوم الإنسانية، داعيًا إلى تكسير تلك الحواجز الإبستمولوجية بين العلوم الإنسانية، لبناء تصور شمولي حول الإنسان والتاريخ.
وفي سياق المعارك الفكرية التي نهجها لوسيان فيفر دفاعًا عن التاريخ، وجه نقدًا علميًا للدراسات الحضارية التي قدمها فيلسوف الحضارات "سبنجلر وتوينبي" حول تاريخ البشرية، لأنها كانت انتقائية للماضي، تتميز بالغموض في تفسير تاريخ تشكل الحضارات
[17]، والاعتماد على منهج فلسفي تأملي، لكن لا يعني هذا أن لوسيان فيفر لم يكن يمتلك فلسفة معينة حول التاريخ، بل كان حاملاً لفلسفة تاريخية، يمكن أن تقرأ من خلال المفاهيم التأسيسية لمنهجه التاريخي.
[18] وإذا كان لوسيان فيفر يؤمن بالطرح الشمولي الموجه للتاريخ، فإنه قد رصد بعض العلوم الإنسانية التي ستسهم في بناء المعرفة التاريخية، أخص مجال اللسانيات ومساهمتها في توضيح بعض الإشكاليات العالقة في المتون التاريخية، بعد ميلاد "الجغرافية اللسانية" واقتحام علم اللغة لمواضيع ذات طبيعة تاريخية، لكنها ظلت متناثرة لا تحقق البرنامج "الفيفري"، نظرًا للجهل السائد بين العلوم الإنسانية في ما بينها، آملاً في إيجاد خيط رابط بين التاريخ والآداب والفلسفة ثم الفن، من خلال رصد "التموجات" الذهنية اعتمادًا على نصوص أدبية تحمل تيمات مهمة حول النسق الإنساني، خصوصًا ما هو مرتبط بالاعتقادات، نموذج: "رابليه" الذي صنفته بعض الكتابات شخصًا لا دينيًا يمثل "لا دينية" القرن السادس عشر.
لا يركن لوسيان فيفر إلى الطرح السابق، بل يعتبر رابلي مفكرًا حرًا، لا يمكننا الحكم عليه من خلال البنية اللادينية، إذ لم تتجاوز العقلية السائدة في هذا القرن الإطار الديني، وهي مراجعة تأويلية للقرن السادس عشر، القرن الذي تخصص فيه لوسيان فيفر، حين انطلق من فرد معين (رابلي ـ لوثر...) للكشف عن البنية الذهنية الجماعية عن طريق مفاهيم لها أصول متينة في علم النفس، فكتب سنة (1938) دراسة حول التاريخ وعلم النفس توجت بورش مهم حول تاريخ الأحاسيس، إنه علاقة جدلية دينامية بين ما هو جماعي وآخر فردي. وفي الإطار نفسه انطلق لوسيان فيفر من كتابات رايموند نافي Raymands Naves حول الذوق والحياة عند فولتير، ليؤكد دور الدراسات الأدبية المساهمة في كتابة التاريخ الإنساني المتجاوز لتاريخ "النخبة"، دون أن يغفل الإشادة بهنري بير Henri Berr، "منظر" التاريخ الإشكالي التركيبي، والمساهم الفعلي في ميلاد الحوليات. وهكذا "... استفادت مدرسة الحوليات من مكانيزم... ظاهرة التركيز الضخم أو مبدأ القديس ماتيو Matthien... الذي يقوم على نسبة اختراعات علماء عددين إلى عدد قليل منهم فقط...".
[19]ولعبت مجلة التركيب أو التوليف التاريخي دورًا فعالاً في المسار الفكري للوسيان فيفر،
[20] لكن أفكارها ظلت أسيرة النقاشات الفكرية متوغلة في الصراعات الإبسمتولوجية العقيمة التي يكرهها لوسيان فيفر، لأنه كان يؤمن بالممارسة المتجاوزة للمكاتب، المختبرات والصالونات المكيفة، والانخراط في مختبر الحياة. وقد توج لوسيان فيفر هذه المعارك التاريخية، بكتاب مهم هو "من أجل تاريخ شمولي" الحامل لجملة من النظريات والممارسات، أشار إليها لوسيان فيفر أثناء رصده "لتاريخه" المنفتح على كل العلوم الإنسانية، وتكلف فرناند بروديل بكتابة كلمة افتتاحية لهذا الكتاب، فجاء على شكل ملف لمقالات تم جمعها في مؤلف نشر سنة 1962 بعد وفاة لوسيان فيفر.
ويقارب كتاب "من أجل تاريخ شمولي" في معظم أجزائه علاقة التاريخ بالعلوم الاجتماعية الأخرى، مركزًا على دور الجغرافيا في تمثل الحدث التاريخي، الأمر الذي عبر عنه لوسيان فيفر بقوة في كتابه: "الأرض والتطور البشري"، و"مشكلة الراين". كما حاول رصد بعض الكتابات الجغرافية التي تشربت مفهوم الزمن، فوظفته في متونها التحليلية، مما حتم عليه كشف تلك التداخلات الإبستمولوجية بين الجغرافية البشرية والجغرافية التاريخية.
لقد جاء هذا الكتاب مفعماً بروح نقدية حاولت ملامسة كل الجوانب الإنسانية، سواء في شقها الاقتصادي، المتمثل بالإقطاع والرأسمالية، أو الحضاري، المتمثل بالحضارة المادية والفلكلور والتاريخ والتقنيات والتاريخ الفكري...إلخ، خاتمًا إياه بمقال مهم حول تاريخ الأحاسيس، حاجةً ملحة للأمن الاجتماعي، الذي يطرح نفسه بإلحاح على المؤرخ، أمام التحولات والأزمات التي شهدها القرن العشرين على وجه الخصوص.
[21]قد يموت المؤلف بيولوجيًا، لكن إنتاجاته العلمية لا تموت، بل تبقى علامة متميزة في الذاكرة الجماعية، وهكذا يبقى مجلد: "لوسيان فيفر يعيش التاريخ"، مساهمة مهمة في كشف بعض ملامح "المدرسة" التاريخية الفرنسية، وإضافة نوعية للمعارك التي قادها جاك لوغوف ضد "منظري" أزمة التاريخ، من خلال توظيف "أنموذج" لوسيان فيفر مؤرخ المعارك من أجل التاريخ الذي كرس كل حياته للتاريخ والنضال من أجل تاريخ شمولي إشكالي، مما جعل (لوسيان فيفر) يوصف بالجدية وعدم إضاعة الوقت، إذ كان يرفه عن نفسه أحيانًا بالعمل والعائلة ثم الأصدقاء أحيانًا أخرى
[22]، كما كان مولعًا برسم حقول الفرانش كونتي.