18 فبراير 2014 بقلم
عبد المنعم شيحة قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:المؤلف: المستشرق البريطاني برنارد لويس
تعريب: محمد العزب موسى
يمهّد محمد العزب موسى لكتاب "الحشّاشون - فرقة ثوريّة في تاريخ الإسلام" بالتنبيه إلى أهميّة اطّلاع الباحث العربيّ على هذا الجانب المُغيّب من تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة في عصرها الوسيط في الفترة الممتدّة ما بين القرنين الخامس والسابع للهجرة (الموافق للقرنين الحادي عشر والثالث عشرة ميلادي) إبّان تشكّل هذه الطائفة الإسماعيلية الفاطمية النزارية بعد انشقاقها عن الدولة الفاطميةواعتصامها بجبال "آلمـــوت" شمال إيران وبعد دعوتها إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله.
ويُعدّ مؤلّف الكتاب برنارد لويس (Bernard Lewis)
[1] من أهمّ المستشرقين الذين بحثوا في القضايا السياسيّة والفكريّة التي سادت المشرق العربيّ، ولا سيما في عصوره الوسيطة، إذ نال رسالة الدكتوراه بكتابه عن "جذور الإسماعيليّة"، وكتب عن" العرب في التاريخ" وعن" ظهور تركيا الحديثة" وعن "اسطنبول وحضارة الإمبراطورية العثمانيّة". أمّا كتابه "الحشّاشون -فرقة ثوريّة في تاريخ الإسلام"، فقد كتبه سنة 1967 في أوج تفجّر أزمة الصراع العربي الإسرائيليّ في الشرق الأوسط. وقد تتبّع فيه تاريخ فرقة ثوريّة مؤثّرة في تاريخ المنطقة هي فرقة الحشّاشين الإسماعيليّة منذ بداياتها الأولى إلى نهاياتها. وبحث خاصّة في ذاك الكمّ الهائل من الخرافات والروايات والأساطير التي نسجت حولها من أعدائها الغربيين خاصّة، إذ بلغت شهرة الحشّاشين أوجها في أوروبا مع بداية القرن الثالث عشر، حتىّ أنّ كلمة "حشّاشين Assasin" دخلت معظم اللغات الأوروبيّة بمعنى "القاتل المأجور المحترف" الذي :" يقتل خلسة أو غدرا وغالبا ما تكون ضحيته شخصيّة عامّة وهدفه التعصّب أو الجشع".
[2]ويستعرض برنارد لويس في هذا الكتاب تطوّر فرقة الحشّاشين في التاريخ ومعتقداتهم والأساطير التي تعلّقت بهم ووسائل انتقامهم من أعدائهم وخصومهم الذين يناصبونهم العداء. ثمّ يُعرّج على أهدافهم الدينيّة والسياسيّة ومغزى وجودهم في تاريخ الحركات الثوريّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة. وفي سبيل ذلك، قسّم الباحث كتابه إلى فصول ستّة هي:
-الفصل الأوّل: اكتشاف الحشّاشين
-الفصل الثاني: الإسماعيلية
-الفصل الثالث: الدعوة الجديدة
-الفصل الرابع: الدعوة في فارس
-الفصل الخامس: شيخ الجبل
-الفصل السادس: الوسائل والغايات
ينطلق لويس في الفصل الأوّل من بحثه "اكتشاف الحشّاشين" بمحاولة تحديد معنى دقيق لمصطلح الحشّاشين بعد ظهوره في اللغات الأوروبيّة وشيوع استعماله، إذ يجده مُستعملا عند المؤرّخ الإيطالي جيوفاني فيلاّني(ت1348) في سياق حديثه عن حاكم لوركا الذي "أرسل حشّاشيه إلى بيزا لقتل أحد أعدائه". في حين يشير دانتي في "الكوميديا الإلهيّة" ضمن النشيد التاسع من الجحيم إلى الحشاّش الخائن(Le Perfido Assassino) ويفسّر فرانشسكو دابوتي شارح دانتي في القرن الرابع عشر هذا المعنى قائلا:" الحشّاش هو الذي يقتل الآخرين مقابل أجر".
أمّا في سجلاّت الصليبيين، فقد عنت كلمة "حشّاشين" فرقة إسلاميّة غريبة في الشرق تتزعّمها شخصيّة غامضة تُعرف بشيخ الجبل، وهي فرقة مكروهة عند أعدائها من المسلمين والمسيحيين على السواء بسبب عقائدها وأفعالها. وقد قدّم مبعوث الإمبراطور فريديريك بربروسة إلى مصر وسوريا وصفا دقيقا عن طريقة تدريب هذه الفرقة للموالين لشيخهم من أبناء الفلاّحين وكيفيّة تطويعهم تطويعا أعمى لتنفيذ رغبات الشيخ وأوامره المتعلّقة بقتل الخصوم وتمزيقهم بواسطة خناجر ذهبيّة يتسلّمونها من يديه. وقد عانى من هذا الولاء الأعمى الكثير من قادة العرب وأمرائهم في تلك الفترة، حتىّ طالت خناجر الحشّاشين سنة 1192 أوّل ضحيّة مسيحيّة لها، وهو أمير مملكة القدس اللاتينيّة كونراد أوف منتفيرات.
وقد أثبتت الدراسات أنّ هذه القضيّة أحدثت أثرا عميقا عند المسيحيين وزادت من شهرة الحشّاشين، حتىّ ذكرهم مؤرّخو الحملة الصليبيّة الثالثة. ومن ذلك ما كتبه المؤرّخ الألمانيّ أرنولد أوفلوبيك عن شيخهم الغامض، يقول: "لقد استطاع هذا الشيخ بطرقه السحريّة أن يغري قومه بأن يعبدوه ولا يقتنعوا بإله سواه وأغواهم بطريقة غريبة مُستخدما الآمال والوعود بالمسرّات والبهجة الخالدة، حتىّ جعلهم يفضّلون الموت على الحياة، إنّ إيماءة منه كافية، لأن تجعل الكثيرين منهم يقفزون من فوق الأسوار المرتفعة فتدقّ أعناقهم وتتحطّم جماجمهم ويموتون ميتة بائسة، وهو يؤكّد لهم أنّ أسعدهم مآلا هم الذين يسفكون دماء الآخرين ويلقون حتفهم (...) والشيخ يقدّم لهم بنفسه خناجر مخصّصة لهذه المهمّة ثمّ يلثمهم على نحو يجعلهم ينغمرون في حالة من الوجد والابتهاج الغامر ونسيان أيّ شيء آخر".
[3]والظاهر من هذا الشاهد أنّ الولاء الأعمى لشيخ الحشّاشين هو الذي بهر أوروبا في البداية وشدّها إلى هذه الفرقة، حتى تغنى بذلك شعراء التروبادور وأهل العشق والغرام ولكنّ فعل "الاغتيال" هو الذي سيبقى ميسم هذه الفرقة وعلامتها المميّزة، وهو الذي سيعطيها معناها الذي عُرفت به اليوم في اللغات الأوروبيّة (Assassin). وقد زاد في كشف هذه الفرقة بقاء الصليبيين الطويل في الشرق ونجاح ما يُعرف بفرسان المعبد (Templars) في فرض سيطرتهم على قلاع الحشّاشين وفرض الجزية عليهم وفق ما ترويه بعض المصادر أو التجاء شيخ الجبل إلى طلب العون من فرنسا وأنجلترا اتّقاء لخطر المغول القادم من الشرق. وقد أثبتت هذه المصادر تواصل لويس التاسع عشر -الذي قام بحملته الصليبيّة على الأراضي المقدّسة سنة 1250 -مع شيخ الجبل وتبادله الهدايا معه.
واللافت أيضا أنّ الرحالة ماركو بولو (marco polo) قد تحدّث عن هذه الفرقة وعن جبال آلمــــوت، عندما عبر إيران سنة1273 وقد ذكر خاصّة حكاية الفردوس الذي صنعه شيخ الجبل، عندما أغلق وادا بين جبلين، وحوّله إلى حديقة فيحاء هي أكبر حديقة يمكن أن تقع عليها عين وأجملها على الإطلاق:" وقد حاكى الشيخ الجنّة التي وصفها محمد لأتباعه فجعل فيها جداول تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء وأقام على خدمة الحديقة فاتنات من أجمل نساء العالم، يجدن العزف على مختلف الآلات الموسيقيّة. وكان لا يسمح لأحد بدخول الحديقة إلاّ لهؤلاء الذين يراد لهم أن يكونوا حشّاشين. وذلك بعد أن يجعلهم يشربون مخدّرا يسلمهم إلى نعاس عميق، ثمّ يأمر برفعهم وحملهم إلى هناك.. وعندما يستيقظون يجدون أنفسهم في الجنّة".
[4]ولذلك، عندما يريد الشيخ قتل خصم من خصومه يأمر أحدهم بالتنفيذ واعدا إياه بالفردوس حيّا أو ميّتا. وقد أغرت حكايات ماركو بولو عن الحشّاشين الكثير من الباحثين لدراسة هذه الفرقة دراسة علميّة توثيقيّة، مثلما فعل ذلك دينيس ليبي ديباتيلي (Denis lebey de batilly) أو بارتولمي دي هيربرلوت (Bartholomé d’erbelot ) في كتابه الشهير المكتبة الشرقيّة (Bibliothèque orientale) وامتدّت هذه الدراسات إلى طائفة الخوجا، وهي من الطوائف الإسماعيليّة التي تتبع الأغا خان في الهند، وتعتبر وريثا طبيعيّا لطائفة الحشّاشين في تلك المناطق.
أمّا الفصل الثاني "الإسماعيليّة"، فقد أفرده برنارد لويس لتتبّع تشكّل طائفة الإسماعيليّة في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة وأساسا تحوّلها من حزب إلى فرقة بعد حادثتي كربلاء وثورة محمد بن الحنفيّة التي تُعرف عند الشيعة بحادثة اختفاء الإمام "المهدي" والتبشير بعودته مستقبلا ليملأ الأرض عدلا ورحمة بعد امتلائها ظلما وجورا. وقد ركّز لويس على البرنامج السياسيّ لهذه الفرقة الذي يقوم على الإطاحة بالنظام القائم وتنصيب الإمام المختار وإقامة العدل والمساواة والرخاء منتبها إلى أهميّة قيادة هذه الدعوة من قبل من يدّعون القرابة من النبيّ ومن نسل عليّ وفاطمة تحديدا، وهي قرابة ستكون لها استتباعاتها في تحديد العلاقات مع فرق تعدّ من غلاة الشيعة، وقد نشطت خاصّة في جنوب العراق وشواطئ الخليج الفارسيّ ذلك أنّها سرعان ما هزمت مع بداية النصف الثاني من القرن الثامن ميلاديّ، فاضمحلّت وتركت مكانها لأئمّة من الشيعة أقوياء ولهم تصميم ذهنيّ للسيطرة على العالم الإسلاميّ. وقد أقاموا في أماكن بعيدة عن المراكز السياسيّة وأسّسوا ما يمكن اعتباره معارضة قانونيّة للخلفاء الذين يتولون السلطة.
والثابت أنّ انقسام الشيعة بين أتباع موسى الكاظم الذي خلف الإمام السادس جعفر الصادق وأتباع إسماعيل الابن الأكبر لجعفر الصادق الذي يقول إنّ أباه ولاّه الإمامة ليلة موته هو الانقسام الأشهر في تاريخ الشيعة، إذ تكوّنت "الإسماعيليّة" من أتباع إسماعيل الذين اختاروا العمل السريّ لمدّة قرن كامل بعد وفاة الإمام إسماعيل تمكّنوا فيه من إحراز تقدّم في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، مثل جنوب العراق وشطآن الخليج الفارسيّ، وتمكّنت فرقة القرامطة - وهي من أتباع الإسماعيليّة - من السيطرة على المناطق الشرقيّة للجزيرة العربيّة وأخضعتها إليها أكثر من قرن ثمّ اكتسح الإسماعيليّون شمال إفريقيا وتمكّنوا من السيطرة على القيروان عاصمة الأغالبة آنذاك. عندها استطاع الإمام المُستتر عبيد الله أن يظهر ويعلن عن تشكّل أوّل دولة شيعيّة في العالم العربيّ، وسمى نفسه عُبيد الله المهديّ وعُرفت أسرته الحاكمة بالفاطميين. وقد امتدّ طموح الإسماعيليين بعد نصف قرن من حكم تونس وصيقليّة إلى حكم مصر، فانتقلوا إليها بعد تأسيس مدينة القاهرة وبذلك اقتربوا كثيرا من الشرق الحاكم وهدّدوا بصفة جديّة الخلافة العباّسيّة. ولكنّ هذه القوّة المهيبة والضجّة الضخمة بدأت في الضعف والتفكّك مع الخليفة الثامن المستنصر بالله (1036م-1094م)، إذ سيطر أمير الجيوش "بدر الجمالي" وأبناؤه من بعده على السلطة الفعليّة للدولة وبقي الأئمّة مجرّد دمى لا حول لهم ولا قوّة-مثلما وقع ذلك لخلفاء بني العبّاس في بغداد- وقد تردىّ بهم الحال حتى انتهوا تقريبا سياسيّا وعقائديّا في مصر بعد وفاة المستنصر بالله ونشوب صراع مرير على الحكم والمصالح بين ابنيه نزار والمُستعلي. فما أن دانت الأمور للمستعلي، حتى رفض أهل الشرق من الإسماعيليّة مُبايعته وقامت بين الشِقيّن الفتن والتقتيل الخلافات، وتوالى الحكّام من الفاطميين دون قوّة ولا هيبة ولا سلطان، حتى أعلن قائد الجيوش آنذاك صلاح الدين الأيوبي الدعاء فوق المنابر للعبّاسيين فأنهى حكم الشيعة الإسماعيليّة رسميّا في مصر وأعاد القاهرة والأزهر إلى حظيرة السنّة بعد قرنين من سيطرتهم.
بعد هذا العرض التاريخيّ لصعود نجم الإسماعيليّة في تونس ومصر ثمّ أفوله تدريجيّا، خصّص برنارد لويس الفصل الثالث والرابع "للدعوة الجديدة" و"الدعوة في فارس" وفيهما تحدّث عن حسن الصباح الذي أعاد الروح للدعوة الإسماعيليّة في شمال إيران بعد نهايتها في مصر، حيث اضطرّ للبحث عن مكان منيع يستطيع من خلاله أن يضمن به الأمن فوجده في قلعة "آلمـــــوت"، وهي حصن مقام فوق طنف ضيّق على قمّة صخرة عالية في قلب جبل البورج (le borge) وأمامه وادي صالح للزراعة. ومن هذا الموقع جمع أنصاره وأخضع سكّان بلاد كوهستان ووظّفهم للدعوة الإسماعيليّة، فأسّس من خلالهم سلطة إقليميّة تضمّ مدنا، مثل شوشان وقعين وطبس وتون وكوهستان الشرقيّة ورودبار وغيرها. وقد اختار الإسماعيليون في تلك الفترة العنف طريقا لنيل مكاسبهم السياسيّة فأحرزوا أوّل نصر لهم في الفنّ الذي صار ينسب إليهم باغتيال الوزير "نظام الملك"، وهو من ألدّ أعدائهم. ثمّ تتالت الاغتيالات من قبل نخبة المقاتلين عندهم، وهم الحشّاشون الذين صاروا فدائيي الإسماعيليّة وأبطالها. وقد شكّلت لهم مسألة الإمامة تحدّيا سعوا إلى تجاوزه، باعتبارهم نزار إماما شرعيّا بعد المستنصر ومنه انتقلت الإمامة إلى حفيد غامض له في قلعة آلموت. وقد تمكّنوا بهذا الكسب من اكتساح مناطق شاسعة من إيران في بداية الأمر ثمّ دارت عليهم الدوائر، لا سيما بعد صراعاتهم مع السلطان بركيارق الذي وجّه لهم ضربات قاصمة ثمّ جاء خليفته محمد تابار فحاصر قلعة شاه ديز - من أقوى قلاعهم - حتى قضى على من فيها وأوقع أحمد بن عطاّش قائدهم في الأسر، فنكّل به وأرسل رأسه إلى بغداد. أمّا قلعة آلموت، فكانت عصيّة على النيل منها، رغم محاولاته العديدة. والثابت أنّ وفاة حسن الصباح كان له أثره في خفوت الدعوة الإسماعيليّة، رغم من نصّبهم عوضا عنه.
وقد كان للوزير السلجوقيّ معين الدين كاشي كما يؤرّخ لذلك ابن الأثير أثره في محاربة الدعوة الإسماعيليّة والتضييق عليها لسنوات، حتىّ تمكّن فدائيان من اغتياله بعد خطّة ذكيّة منهما.
وبعد وفاة السلطان السلجوقيّ محمود، تورّط الخليفة العبّاسي في صراع أبنائه على السلطة في إيران، فوقع في الأسر في همذان، وهو يهبّ لنُصرتهم ضدّ السلطان مسعود ووضع في السجن لكنّ الحشّاشين تمكّنوا من دخول السجن واغتياله، وبذلك طالت اغتيالاتهم حتىّ الخلفاء العبّاسيين، واحتفلوا في قلعة آلموت بهذا النصر الذي أعاد لهم جذوة النصر ووجدوا في الاغتيالات مأربهم ومهنتهم اليسيرة، فأعملوا الخناجر في أعدائهم وارتفعت قوائم ضحاياهم خاصّة في حكم محمد بن بزرجميد وحكم الحسن بن محمد بن بزرجميد. وتروي الأدبيات الإسماعيليّة حادثة فكّ الناس من قواعد الشريعة التي أنجزها الحسن بأمر من "الإمام المستتر" وتمتيعهم بالقيامة الروحيّة بعد أن صاروا من خدم الإمام المقرّبين. وقد أمر الحسن بقتل كلّ من يلتزم بتعاليم الشريعة من صوم وصلاة وزكاة، لأنّه يخالف أوامر الإمام المستتر وتعاليمه السامية.
وقد تتالت الأئمة من بعد حسن حتى جاء ركن الدين الذي هاجم في عصره هولاكو الشرق فاكتسحه، ودفع الإمام الإسماعيلي إلى الاستسلام له بعد حصار قلاعه في رودبار وكوهستان وبعد أن استغلّه هولاكو في إخضاع بقيّة القلاع أمر بقتله شرّ قتلة "فأصبح حكاية في فم الناس وعبرة في فم الزمن"
[5] إذ كسرت من بعده الإسماعيليّة وأصبحت فرقة صغيرة تفتقد المهابة والقوّة.
في الفصل الخامس من الكتاب، يفصّل لويس برنارد شخصيّة "شيخ الجبل" الغامضة، والتي أخذت خصائصها من حسن الصباح وما عرف عنه من قوّة وذكاء ودهاء. والثابت أنّ ولاء الحشّاشين لشيخ الجبل والتزامهم الكامل بتعاليمه وقدرتهم على تنفيذ الاغتيالات والضرب بيد من حديد، حيثما حلواّ هو سرّ خوف الناس منهم في إيران وسوريا والعراق. وقد واجه الحشّاشون الجميع، فحاربوا الصليبين والفاطميين من الخطّ الموالي للنزاريين ووجّهوا حرابهم لأهل السنّة، فكانوا أعداء الجميع. وقد حاولوا اغتيال صلاح الدين الأيوبي الذي برز نجمه في الدولة الزنكيّة، بينما كان يُحاصر حلب أكثر من مرّة ولكنّهم فشلوا. لذلك جاءت نهايتهم بعد عداء الجميع لهم، إذ كسر شوكتهم المغول وقضى عليهم السلطان المملوكيّ الظاهر بيبرس.
أمّا الفصل الأخير، فقد خصّصه برنارد لمناقشة "الوسائل والغايات" التي شهرت فرقة الحشّاشين حتى بلغ صيتها الغرب الصليبيّ، فأصبح اسم حشّاش (Assassin) يعني "القاتل المأجور" في اللغات اللاتينيّة. وقد أطنب لويس برنارد خاصّة في مناقشة مسألة الاغتيال السياسيّ وطرق الحشّاشين في القضاء على خصومهم والتفاني في أداء المهمّات الموكولة إليهم، حتىّ صار الاغتيال علامتهم المميّزة ومصدر شهرتهم. والعجيب أنّ الحشّاش لا يستعمل في الاغتيال إلاّ الخنجر ولا يلتجأ إلى السمّ أو السهام أو غير ذلك من الوسائل التي قد تسهّل عليه الفرار والنجاة بفعلته، بل الأدهى أنّه يسلّم نفسه بعد عمليّة القتل، وكأنّه يرى أنّ بقاءه حيّا بعد "عمليته الفدائيّة" فضيحة وعار.
وبصورة عامّة، إنّ ما يُحسب للإسماعيليّة أنّها تمكّنت في عصر مضطرب من تكوين فرقة متماسكة تنظيميّا تمتلك جذور بقائها في داخلها. وقد سعت بما عُهد عنها من روح ثوريّة وتكتيكات حربيّة إلى الانقلاب على نظام الحكم القائم، ولم يسبقهم أحد إلى استعمال "الرعب" سلاحا سياسيّا. فلا الخنّاقون في العراق ولا السفّاحون في الهند ولا الاغتيالات السياسيّة السابقة في العصور الإسلاميّة الأولى كانت بمثل تنظيم وترتيب فرقة الحشّاشين الذين طوّروا عمليات الاغتيال وجعلوها فنّا وطقوسا وواجبا. لذلك يمكن القول إنهم "الإرهابيون الأوَل" في العالم الإسلامي الذين استطاعوا تطويع الإرهاب لتحقيق مصالح سياسيّة. لقد كان حسن الصباح يعلم جيّدا أنّه وجماعته لا يستطيعون كسر شوكة الإسلام السنيّ ولا ضرب هيبة الدولة السلجوقيّة لو حاربهم سنين وفق المنوال التقليديّ، ولكنّه يستطيع بقوّته الصغيرة المخلصة أن يربك هذه الدولة ويزعزع أركانها مُمارسا ما يُعرف في دائرة معارف العلوم الاجتماعية بالإرهاب الذي يُقصد به:" ما تمارسه مُنظّمة محدودة العدد وتلهبه أهداف واسعة النطاق يضمّها برنامج متماسك ترتكب من أجله أعمال إرهابيّة".
[6]وفي سبيل ذلك، كان لا بدّ من الاعتماد على تنظيم جيّد وإيديولوجيا قويّة، وهو ما كان مُتوفّرا عند الحشّاشين، باعتبار أنّ عقيدتهم الإسماعيليّة كانت مرتبطة بالألم والاستشهاد ويُوعد الشهيد فيها بالانعتاق الديني والإنسانيّ.
ويتّضح من خلال ما تقدّم البحث فيه أنّ الحشّاشين هم خدّام مُخلصون لقضيّة دينهم، ولم يكونوا يوما مُجرّد قاطعي رقاب بالخناجر لقاء أجر معلوم، بل كان لهم هدفهم السياسي الخاصّ، وهو إقامة الإمامة ودولة العدل الموعودة.