19 يونيو 2013 بقلم
مولاي احمد صابر قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:أهمية هذا الكتاب "
التشكيل البشري للإسلام" تكمن في كونه يقربنا كثيرا من الظروف والمحيط الاجتماعي والتاريخي الذي نشأ وترعرع فيه محمد أركون أحد كبار المفكرين في العالم الإسلامي؛ وذلك من خلال الحفر في "الذاكرة" التي تخص مؤلف الكتاب بالعودة إلى زمن الطفولة، والقرية والقبيلة، والأهل والأسرة الصغيرة منها والممتدة، والمدرسة وجو الدراسة والأساتذة، وأعراف المجتمع وتصوراته... ومدى طبيعة تأثير كل ذلك في التشكل النفسي والعقلي والوجداني على المؤلف. يروي محمد أركون قصة المعركة المزدوجة لحياته كلها، وذلك لكونه خاض المعركة على جهتين اثنتين لا جهة واحدة؛ جهة نقد العقل الإسلامي؛ وجهة نقد العقل الغربي.
[1] وذلك من خلال المقابلات التي أجراها معه كل من
رشيد بن الزين و
جان لوي شليجيل، وقد تكلف الأستاذ
هاشم صالح بنقل هذا العمل إلى العربية وحظي هذا العمل بتقديم المفكر الفرنسي
إدغار موران. كتاب "
التشكيل البشري للإسلام" من الحجم الكبير يتكون من 256 صفحة، ومن أحد عشر فصلا.
ولد محمد أركون سنة 1928 في بلدة تاوريرت في تيزي وزو في منطقة القبائل الكبرى، ولازالت الجزائر في هذه الفترة تحت حكم الاستعمار الفرنسي، وقد تزامن الشباب الأول لأركون مع هاجس التحرر والتعطش إلى الاستقلال من قبضة المعمر بازدياد المقاومة والكفاح المسلح، ورغم ذلك فالقرية التي نشأ فيها أركون لم تكن تشعر بالضغط الاستعماري؛ فلا بوليس مثلا، ولا ضرائب إذ كانت منطقة القبايل تشبه الجيب المعزول عن بقية البلاد الجزائرية نتيجة تضاريسها، هذا فضلا على العائق اللغوي؛ فمعظم منطقة القبائل يتحدثون البربرية "الأمازيغية" بدل اللهجة المشتقة عن اللغة العربية، مما أسهم في تعثر وصول الخطاب السياسي الثوري ضد المعمر الذي لزمه كثير من الوقت قصد وصوله.
[2]يروي لنا محمد أركون أنه كان مرتبطا عاطفيا بشكل كبير بأمه التي كان يحبها كثيرا إلى درجة أن الدموع تنزل من عينيه عنما يتذكرها إذ تعلم منها أشياء كثيرة، وقد توفيت ولم يحالفه الحظ ليحضر لحظة وفاتها ودفنها لكونه كان خارج البلد، كما أنه يتذكر ذلك الدور النبيل التي كانت تقوم به جدته من أمه، إذ عملت مساعدة ومولدة لكل النساء الحوامل في القرية وفي القرى المجاورة كذلك، وقد كانت تقوم بذلك بجد وإتقان من باب الواجب الإنساني شبه التطوعي، ونالت بذلك احترام كل أهل القرية. أما علاقة محمد أركون مع والده؛ فقد كانت كذلك علاقة متينة، إذ كان يساعد والده في شؤون التجارة، وقد كان طموح والده هو أن يكبر ، ويساعده في شؤون المتجر داخل القرية... وعند ما يذكر المؤلف هذه الكرات؛ فهو يطرحها ضمن سياق ما تلقاه من مبادئ إنسانية عالية جدا، نقشت في ذاكرته زمن الطفولة، وبقي لها صداها وتأثيرها في كل حياته ومواقفه. ويذكر لنا أركون أن علاقته العائلية الكبيرة مع أسرته في الجزائر لم تنقطع، وبقى يزورهم بانتظام حتى سنة 1992م،[3] و كان متفائلا بأن الأوضاع قد تسير إلى الأحسن لكن الحرب الأهلية في الجزائر خيبت كل آماله. يخبرنا أركون أنه تعرض في طفولته لتربية دينية منفتحة إذ حفظ القرآن على ظهر قلب مع خاله وعمره لا يتجاوز ثلاث عشرة سنة، وفي الوقت ذاته كان من حظه أن يتعرض لتأثير رجال الدين المسيحيين زمن الاستعمار في مدرسة دينية قريبة من قريته، وكان عمره لا يتجاوز الخامس عشرة سنة،[4] كما يعترف بكون القرية فيها نوع من العقلية الإحيائية التي ترى بحلول الأرواح في الطبيعة، إذ كان يصحب أمه إلى أحد منابع المياه لإرضاء تلك الأرواح وفقا لما كان أهل القرية. وعندما يتذكر أركون هذا الأمر؛ فهو يدعو للانفتاح على قراءة كل التجارب الدينية كما يؤكد على أهمية الانخراط المبكر في معرفة الأديان المختلفة بدل القبو في تصور ديني واحد؛ فحظ أركون هو أن يتعرف على يسوع الناصري في الوقت الذي تعرف فيه على محمد. فهذه الأحداث التي تخص أركون أسهمت بشكل كبير بأن يكون رجلا يؤمن بالتنوع والاختلاف الإنساني؛ فهو يرى بأن الجزء الكبير من مشاكل العالم الإسلامي مرهون بإعادة النظر في المناهج التعليمية الدينية وغير الدينية؛ بالعمل على تدريس الظاهرة الدينية بشكل مقارن أكثر من تعليم دين واحد بشكل عقائدي تقليدي.
يعد أركون من كبار المحاضرين في العالم إلى درجة أن تنقلاته وأسفاره أسهمت في التقليص من مؤلفاته رغم تنوعها وتعددها، كما أنها حدت من اكتمال الكثير من المشاريع العلمية التي وضعها ليشتغل عليها. لقد كانت المحاضرة الأولى التي ألقاها أركون بالقرية التي عاش وتربى فيها، وقد سجلت محاضرته تلك نوعا من الأخذ والرد... كان أركون متخصصا في الفلسفة، إلا أنه كان يحب التاريخ وفلسفته، وهذا ما جعل منه رجلا مهتما بنقد تاريخ الفكر الإسلامي، ويعترف أركون بكونه تأثر بمنهجية ميشيل فوكو ، إذ كان قبل التعرف عليه يمارس النقد والكتابة وفقا للمنهج القديم، لكن بعد التعرف على فوكو أصبحت كتاباته أكثر عمقا.[5] كان الطموح العلمي لمحمد أركون دافعا له للخروج من الجزائر متجها نحو باريس في فرنسا بعد أن استيقن بأن العلم والمعرفة بشكل حقيقي لا توجد في الجزائر. وقد حصل له هذا الوعي بعد أن حضر بعض من محاضرات المفكرين الفرنسيين عند زيارتهم للجزائر ، من بينهم المؤرخ الفرنسي الكبير لوسيان فيفر مؤسس "مدرسة الحوليات"،[6] ومن المعلوم أن أركون تابع دراسته في السربون، ونال رسالة دكتوراه حول موضوع "النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري"، وموضوع البحث هذا لم يأت من باب الصدفة، بل جاء نتيجة ارتباط أركون بهموم الواقع اليومي للجزائر التي تعني عنده في غالب الأحيان خصوصية متسعة تشمل شمال إفريقيا، بل تشمل دول البحر الأبيض المتوسط.[7] عندما نالت الجزائر استقلالها كان أول خطاب للرئيس بن بلا مخيبا للآمال لدى أركون، لكون الرئيس بن بلا لخص كل تاريخ البلاد المتنوع والمتعدد في هم ايديولوجي عربي بقوله للجزائريين: "نحن عرب... نحن عرب"، لقد ترتب عن النزعة القومية العربية في الجزائر في نظر أركون انزلاق البلاد نحو نوع من العنصرية بإبعاد البربر عن السلطة، رغم كفاحهم الكبير في تحرير البلد... وقد سار الرئيس هواري بومدين على نفس النهج؛ فبدل أن تفتح الجزائر بعد خروج فرنسا صدرها لكل سكانها من أجل أن تصل بهم إلى مواطنة مشتركة ومتساوية، سار العكس بالتأكيد على نمط الهوية المنغلقة، بدل الهوية القابلة للانفتاح والتنوع والتعدد.[8] وعندما يذكر أركون هذا الأمر؛ فهو في نفس الوقت يشيد بالسياسة التي نهجها المغرب آنذاك في عهد محمد الخامس، وفي تونس مع لحبيب برقيبة إذ كانت سياستهم ذات طابع منفتح بقدر معين الأمر الذي جعل الجزائر تنزلق في سياق يختلف عن كل من تونس والمغرب؛ فكل هذا وغيره جعل من أركون كمثقف جاد لا يقبل المساومة. يشعر بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقه في ضرورة نقد العقل الإسلامي. وانطلاقا من هذا الهم، سجل رسالة دكتوراه في الموضوع الذي اشرنا له سابقا.[9]
يمضي بنا أركون، وهو يربط في حديثه بين الماضي والحاضر وآفاق المستقبل؛ ليحدث القارئ عن دعوته المنهجية للقراءة التزامنية للقرآن بقراءة النص وفقا للمعجم اللغوي في الزمن الذي ظهر فيه. بدل قراءته من خلال المعجم اللغوي للزمن الذي نحن فيه مبينا دور اللسانيات في هذا الأمر،[10] ومبينا كذلك الظروف التاريخية والسياسية التي كانت من وراء التقعيد المنهجي الذي وضعه الشافعي لفهم النص القرآني، مذكرا أن ما قام به الشافعي من دور منهجي تحول من بعده إلى طوق حديدي لا يسمح بالفكر الحر،[11] كما بين كذلك الدور الذي لعبه الاستشراق في قراءة الفكر الإسلامي. ومع انتقاده للدراسات الاستشراقية، ينفي أركون تلك النظرة التي تلخص الاستشراق في خدمة ما هو سياسي. إن أركون من خلال ها الكتاب، سلط الضوء بشكل مجمل عن علاقة القرآن بكثير من المواضيع المهمة من بينها، كيف يمكن للفرد أن يكون مؤرخا نقديا للخطاب القرآني؟ وبيان علاقة القرآن بالسياسة، متوقفا عند موضوع المعرفة في الإسلام. وقد ذكر أركون كذلك بالمقاربة التحليلية التي أجراها لسورة التوبة وسورة الفاتحة.