04 يونيو 2014 بقلم
معـاذ بنـي عامـر قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:إخفاقات محمد عمارة في كتاب:
(الانتماء الحضاري للغرب؟.. أم للإسلام؟)[1]
يكاد لحم القلب يكتّ، وعيني المرء تقعان على عنوان كتاب (الانتماء الحضاري.. للغرب؟ أم للإسلام؟) للدكتور "محمد عمارة"؛ فالمتن (خاص) والعنوان (عام)، وهذا ما يُحْدِث فجوة بين التلقّي البصري للعنونة، والتلقّي المعرفي للمتن. وأعترفُ أنَّ السبب الرئيس الذي دفعني لأن أشتري نسخة من الكتاب المذكور هو عنوانه وليس اسم مؤلّفه، فالعنوان من الضخامة بمكان إلى درجة لفت الأنظار؛ فقد خِلت أن الكتاب سيتحدّث عن قضية جِدّ إشكالية بالنسبة للعالَم العربي والإسلامي، فيما يتعلق بخصوصيتها الثقافية وتمايزها عن غيرها من الأمم الأخرى. لكن إلقاء نظرة واحدة على الكتاب ستكشف أن جميع النماذج (باستثناء نموذج جمال الدين الأفغاني، فمقاربة محمد عمارة له ليس لأنه صاحب تطلعات إسلامية، بل لأنه عاش في مصر) التي قاربها هي نماذج مصرية، وقد جاءت العناوين الفرعية كدالٍّ غير أمين على مآلات العنونة المبدئية.
ثمة مثل شعبي يقول: "حجر صغير يسند جَرَّة كبيرة"!. هذا المثل ينطبق في حال عكسناه رأساً على عقب، على كتاب الدكتور "محمد عمارة". فالعنوان هو الجرَّة الكبيرة والمتن النصي هو الحجر الصغير، إذ يكتشف القارئ نهاية المطاف أن الكتاب لا يتحدث عن انتماء حضاري بالنسبة للأمة العربية الإسلامية ضمن تكتّلها الكبير، ولا ما يحزنون، بل هو يتحدث عن انتماءات مصر على نحو مخصوص. فالكتاب الذي يبدأ من الصفحة الثالثة بعبارة: "الانتماء الحضاري بالنسبة للأمم والشعوب، كالنَّسَب بالنسبة للأفراد".
[2] ينتهي عند الصفحة 85، بعبارة: "وتلك إشارات إلى قصة فكرنا الحديث مع قضية الانتماء الحضاري للغرب؟ أم للإسلام؟...والموقف من الهوية الحضارية شرقية إسلامية هي؟ أم أوربية غربية؟.
والآن -يتابع محمد عمارة- إلى النص الذي كتبه الأستاذ سيد قطب، وحاور به الدكتور طه حسين حول هذه القضية التي لا تزال تثير الجدل حتى هذه اللحظات، قضية الانتماء الحضاري: للغرب أم للإسلام؟".
[3]ومن الصفحة 86 وحتى الصفحة 158 يفرد "محمد عمارة" مُلحقاً لرد سيد قطب على كتاب طه حسين (مستقبل الثقافة في مصر)!.
إنّ العنونات الفرعية: (الانتماء الحضاري عند رفاعة الطهطاوي) (الإحياء الإسلامي عند جمال الدين الأفغاني) (الإصلاح بالإسلام عند الشيخ محمد عبده) (السنهوري باشا وبعث المدنية الإسلامية) (الانتماء للإسلام لا للغرب أو الفرعونية عند هيكل باشا) (الكفر بالشرق والذوبان في الغرب عند سلامة موسى) (طه حسين والانتماء للمدنية الأوربية) (الانتماء الحضاري بين سيد قطب وطه حسين) (الإياب الفكري للدكتور طه حسين) (وعن سيد قطب).
هذه العنونات الفرعية، إضافة إلى المُلحق الخاص بردّ سيد قطب على كتاب طه حسين آنف الذكر، تجعل من كتاب (الانتماء الحضاري للغرب أم للإسلام؟) لـ "محمد عمارة" كتاباً مشكوكاً في صحّته العقلية، بصفته مُصاباً بعرض نَفْسي، ينحاز عند عتبة ما تحت الوعي إلى الذات الوطنية المصرية على حساب الذات الكُلّية العربية الإسلامية. إذ تصير –والحال هكذا- مصر (ومحمد عمارة ابنها البارّ الذي يستنطق شوفينيته في لحظة غياب للوعي واستنطاق لا واعٍ لذات دفينة تُمجّد الوطني والخاص على العربي الإسلامي الكلّي والعام) حقلاً مغناطيسياً جاذباً لفكرة الانتماء الحضاري، وما سواها –بحسب دعوة محمد عمارة الذي لم يأتِ على ذكر أي نموذج عربي آخر، فكل النماذج التي أتى على ذكرها نماذج مصرية- محض مناطق طاردة، إذ لا حول لها ولا قوة في الشأن الحضاري.
أتفهم هذه الدعوة الشوفينية، ضمن سياق نفساني إلغائي لا يؤمن بالتنوّعية والقيم التعدّدية العقلية، ولربما كشف هذا عن الجانب الإخفاقي، الارتكاسي الذي يطال كتاب "محمد عمارة" في مقتل؛ فهو كتاب خالي الوفاض ويخلو من أية إشارة إلى الذات العربية الإسلامية في تمظهراتها الكلّية، فالمشروع الثقافي العربي ضمن سياقاته الحضارية، ينبغي لمدخلاته ومخرجاته أن تطال الكل، وإلا لأصبح مشروعاً وطنياً أو قومياً أو إثنياً، ولانعدمت- بالتالي- آفاقه التجاوزية ناحية العالمية، ولغدا مشروعاً نفسانياً ناتج عن ذات مُتضخمة ببعدها الوطني أو الإثني أو القومي، ليس إلا.
إن الإخفاق الأول الذي عانى منه كتاب (الانتماء الحضاري: للغرب أم للإسلام) لـ محمد عمارة، هو إغراقه في شوفينية مبتذلة، لا وجود لها إلا في أذهان المصابين بِعَرَض نَفْسي غير سوي.
أما الإخفاق الثاني، فهو افتقاده إلى الموضوعية في مقاربة المشاريع الفكرية التي تناولها والأسماء التي تمثلتها ونادت بها؛ فالميزان الذي يُوزِّن به "محمد عمارة" (صلاح) أو (فساد) هذه المشاريع، هو ميزان ذاتوي صرف. فما التقى مع ذاته ومرجعياتها الفكرية صار (صالحاً)، وما اختلف معها صار (فاسداً). لقد أخفق "محمد عمارة" في مقاربته للمشاريع الفكرية التي أتى على ذكرها في كتابه المذكور أعلاه، مقاربة موضوعية، فهو عاجز – سواء أكان المشروع صالحاً أم فاسداً من وجهة نظره- عن تقديم صورة موضوعية للمشروع الفكري الذي تمثله اسم معيّن، وعن الملابسات والالتباسات التي دعت صاحب هذا المشروع إلى الإقدام على تمثّل هذا المشروع تحديداً دون غيره، بما ذلك مُدخلات هذا المشروع ومُخرجاته، ومحاولة وضعه ضمن سياق نهضوي كُلّي، بعيداً عن إطلاق أحكام قيمة (سلبية/ إيجابية) على هذه المشاريع وأسماء متمثليها، بناء على الميزان الخاص به. ففي نهاية المطاف، لا بدّ أن تُقارب المشاريع الفكرية مقاربةً موضوعية، بعيداً عن استلابات وإكراهات الذات ومرجعياتها القَبْلية، لما ستقود إليه هذه الإكراهات والاستلابات من تقطيع للرؤوس ورفع لها على أعواد المشانق، أو منحها أوسمة زائفة، اقتضاء لواقع (الرضا النفسي/ الغضب النفسي) الخاص بالمُقارِب، بعيداً عن سياقات عقلانية استيعابية لمجمل المشروع النهضوي العربي الإسلامي.
بشأن مشروع الشيخ محمد عبده، كتب محمد عمارة: "هكذا انتقد الإمام محمد عبده المدنية الغربية، رافضاً أن يكون انتماؤنا إليها، وتحدث عن تميز النموذج الحضاري الإسلامي بالوسطية الجامعة بين الدين والدولة والدنيا والآخرة، وأكد على أن الإسلام ونموذجه الحضاري هو سبيل الإصلاح والتقدم والنهوض".
[4]وعن مشروع "سلامة موسى"، كتب: "هكذا تكلم سلامة موسى، فبلغت صراحته حد الوقاحة، وكانت له فضيلة الإعلان عن كثير مما يبطن المنافقون من المتغربين".
[5]وقد عمدت هَهُنا إلى استحضار نموذجين من النماذج التي عقّب عليها محمد عمارة (إيجاباً/ سلباً)، لأبيّن على مقدرته الخارقة في القفز الذاتي والانتقال من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال دفعة واحدة، دونما استبصار لما بينهما من مجال حيوي يمكن أن يُتصالح عليه وفق شرط موضوعي، غير محتكم إلى عقلية حدّية لا ترى إلا اللونين: الأسود والأبيض.
إنّ عقلية الناقد الفكري - كما يجسّدها محمد عمارة في كتابه الانتماء الحضاري للغرب أم للإسلام- تُذكّرني بعقلية الناقد الأدبي في العالَم العربي، فهو إلى حدّ كبير ناقد ثأري، لا يرى إلا (حبيباً يُمْدَح) أو (خصماً يُذمّ)، فهو في الحالتين يُسيئ أكثر مما يُفيد، لأنه لا يُقارِب عقلياً، إنما ينتقم (سلباً/ إيجاباً) نفسياً مِمَّن يكتب عنهم، فهو يذمّ الخصوم ويمتدح الأحباب، ولا يعود يرى من ثراء الألوان إلا اللونين: الأسود والأبيض. وبموجب ذلك أمكنه منح أوسمة شرف زائفة أو نصب أعواد المشانق. وقد تجلّى ذلك بوضح تام في كتاب (الانتماء الحضاري للغرب أم للإسلام؟)؛ فـ محمد عمارة لا يُجيد إلا الذمّ أو المدح، وخارج هذا السياق الانتحاري، هو عاجز عن النظر بعين الناقد الإنساني الذي يتمثّل الذات المُبدعة ضمن سياق كُلّي، يمكنها أن تصعد أو تهبط على الباروميتر الثقافي، لكن ذلك لا يلغي مساهمتها -ولو بجزء يسير أو غير منظور- في النهضة الحضارية المُرتجاة.
الإخفاق الثالث في كتاب (الانتماء الحضاري للغرب أم للإسلام؟) تمثَّل في السذاجة التي انطبع بها الكتاب من مبتداه إلى منتهاه. وقد كان لأيّ متحمس انفعالي أن يكتب هذا الكتاب الذي تُشكّل فيه الاقتباسات عن الآخرين نسبة كبيرة من مجمل الكتاب، فكُلّ ما يفعله محمد عمارة هو التأشير إلى انطباق هذا المشروع من عدمه، مع فكرته حول الانتماء الحضاري للغرب أم للإسلام؟. فاللازمة التي تكرّرت بدايات الفصول هي ذاتها، كذلك هي لازمة النهايات، فقط شكلها التأثيمي أو الامتداحي هو الذي اختلف، فهو إما مع أو ضد، مع منح صك غفران هنا وصك حرمان هناك.
أشعرُ-في كثير من الأحيان- بنوعٍ من الأسى ساعة أرى شجرة تُقْطَع في أقاصي الأرض، لتتحوّل إلى ورق لكتاب كان من المُمكن أن يكون مقالاً!. إن استنزاف الطبيعة في كتاب، مثل كتاب محمد عمارة المذكور أعلاه، هو جزء من الإخفاقات التي طالت الكتاب في عموميته، إذ كان لديباجة (المدح/ الذم) النفسانية التي كتبها محمد عمارة، أن تُدبّج في مقالة صغيرة، يفضي فيها الكاتب باستحقاقاته الشوفينية والذاتية، دونما حاجة إلى إرهاق العالَم والطبيعة بكتاب أمكن اختصاره في بضع صفحات، ليس إلا.