دارئات ذاتية لحماية الجسم من أشعة الشمس
(****) يحوي جلد الشمپانزي في الأجزاء العارية منه خلايا
تعرف بالخلايا الملانية melanocytes، بوسعها
تركيب صباغ بني قاتم هو الملانين، كاستجابة للتعرض إلى الأشعة فوق البنفسجية.
وعندما صار جسم الإنسان عديم الشعر في معظمه، فإن قدرة الجلد على إنتاج
الملانين اكتسبت أهمية جديدة. فالملانين هو وقاء الطبيعة من الشمس؛ إنه جزيء
عضوي ضخم يؤدي غرضين اثنين: فهو أولا يستبعد، عن طريق الترشيح الفيزيائي
والكيميائي، التأثيرات الضارة للأشعة فوق البنفسجية؛ فلا يمتص هذه الأشعة،
فتفقد طاقتها. ومن جهة أخرى، يُحيّد neutralizes
الملانين الكيميائيات الضارة المعروفة بالجذور الحرة
free radicals، التي تتشكل في الجلد إثْر
الأذى الذي تسببه الأشعة فوق البنفسجية.
عموما، علل المختصون في علم الإنسان
anthropologists والبيولوجيون نشوء التراكيز
العالية من الملانين في جلد سكان المناطق المدارية بأنه يحميهم من سرطان الجلد.
فعلى سبيل المثال، بيّن
[من جامعة
كاليفورنيا في سان فرنسيسكو] أن مرضى جُفاف الجلد المصطبغ
xeroderma pigmentosum
(حيث تتخرب الخلايا الملانية بسبب التعرض للشمس) يعانون معدلات مرتفعة ارتفاعا
ذا دلالة significant من الإصابة بسرطان الخلايا
الحرشفية(2) وسرطان الخلايا القاعدية(3)، مقارنة بالأشخاص الأسوياء. وكلا
النوعين من السرطان سهل المعالجة. ومع أن الملانومات (الأورام الملانية)
melanoma الخبيثة تُميت بتواترات أعلى من أنواع
السرطانات الأخرى، إلا أنها نادرة الحدوث؛ إذ تشكل 4 في المئة فقط من حالات
سرطان الجلد. وغالبا ما تقتصر إصاباتها على أصحاب الجلد الفاتح اللون. وتظهر
جميع سرطانات الجلد عادة في سنوات العمر المتأخرة نوعا ما، وفي معظم الحالات
بعد السنوات الأولى من سن الإنجاب. لذا، فإنه من غير المرجح أن تكون هذه
الأنماط السرطانية بمفردها هي التي مارست ما يكفي من الضغط التطوري لحماية
الجلد وتفسير ألوانه القاتمة. وبناء على ذلك، شرعنا في التساؤل عن دور الملانين
في التطور البشري.
صلة الفولات(*****)
في عام 1991، عثر أحدنا (جابلونسكي) مصادفة على بحث
نشره [حاليا في جامعة ڤيرمونت] عام
1978 و [حاليا في جامعة لويزڤيل].
وتبين أن هذا البحث كان حاسما. فلقد أوضح الباحثان أن لدى الأشخاص ذوي الجلد
الفاتح، الذين كانوا قد تعرضوا إلى ما يحاكي ضوء شمس قوي، مستويات منخفضة على
نحو غير عادي من فولات الڤيتامين B الأساسي في
الدم. كما لاحظ العالمان أن تعريض مصل دم الإنسان للظروف نفسها مدة ساعة واحدة،
أدى إلى فقدان 50 في المئة من محتواه من الفولات.
لقد اتضحت أهمية هذه النتائج في ما يتعلق بالتوالد
(ومن ثم بالتطور)، عندما علمنا بأبحاث تُجرى على طائفة كبيرة من العيوب
الولادية، قام بها زملاؤنا في جامعة وسترن أستراليا. ففي أواخر الثمانينات خلصت
كل من و
إلى أن عوز الفولات لدى الحوامل له علاقة بارتفاع مخاطر الإصابة بعيوب الأنبوب
العصبي، مثل السِّنْسِنَة المَشْقوقة (الشوك المشقوق)
spina bifida، حيث تخفق أقواس الفقرات في
الانغلاق حول النخاع الشوكي. ومنذ ذلك الحين، أكدت كثرة من الباحثين من أصقاع
العالم كافة هذه العلاقة، وبُذلت جهود كبيرة لإضافة الفولات إلى الطعام ولتثقيف
النساء بأهمية هذا النوع من المغذيات.
وإثر ذلك مباشرة، اكتشفنا أن الفولات مهمة، ليس فقط
من أجل منع حدوث عيوب الأنبوب العصبي، بل أيضا من أجل طيف آخر من السيرورات
الحيوية. فبالنظر إلى أن الفولات أساسية لتركيب الدنا
DNA في الخلايا الآخذة بالانقسام، فأي سيرورة حيوية تنطوي على تكاثر
خلوي سريع (كالإنطاف(4)) تتطلب وجود الفولات. فذكور الجرذان والفئران، التي تم
فيها إحداث عوز الفولات كيميائيا، تكون معطلة الإنطاف ومن ثم عقيمة. ومع أنه لم
تجر دراسات مشابهة على الإنسان، فقد أعلن مؤخرا
وزملاؤه [من المركز الطبي لجامعة نيميگن في هولندا] أن المعالجة بحمض الفوليك
تزيد من تعداد النُّطَف في الرجال الذين لديهم مشكلات في الخصوبة.
حَمَلتنا مثل هذه الملاحظات على الافتراض أن الجلد
الداكن تطور كي يحمي مخزونات الفولات في الجسم من التخرب. وقد دعم فرضيتنا هذه
تقرير نشره عام 1994 طبيب الأطفال الأرجنتيني ،
الذي وجد أن ثلاث شابات سليمات البنية ممن ترددن عليه، أنجبن أطفالا لديهم عيوب
في الأنبوب العصبي، بعد أن كن قد عرَّضن أجسامهن لحمامات شمسية لاكتساب لون
برونزي في الأسابيع الأولى من الحمل. وهكذا، فإن الدليل الذي قدمناه على تفكك
الفولات بفعل الأشعة فوق البنفسجية، يدعم ما هو معروف فعلا عن تأثيرات الأشعة
فوق البنفسجية المؤذية «للدنا» والمسببة لسرطان الجلد.
الجلد والشمس(******)
تعد أشعة الشمس فوق البنفسجية (UV)
مزيجا من النعم والنقم؛ فهي تستثير إنتاج الڤيتامين D،
ولكنها من جهة أخرى تخرب الفولات، وبوسعها إحداث سرطانات الجلد، وذلك بإلحاق
الأذى بالدنا DNA. ويحمي صباغ الملانين، الذي
تنتجه الخلايا الملانية، الدنا من التأذي والفولات من التفكك. ولكن لا بد
للخلايا الكيراتينية keratinocytes أن تتلقى ما
يكفي من الأشعة فوق البنفسجية لتصنيع الڤيتامين D.
تطور جلد الإنسان(*******)
لقد تطور أول أفراد الإنسان العاقل
Homo sapiens، أو
الإنسان الحديث، في إفريقيا ما بين 000 120و 000 100عام مضت. وكان لجلده لون
داكن، متلائم مع ظروف الأشعة فوق البنفسجية والحرارة التي تسود المنطقة
الاستوائية. ولكن ما إن تجرأ الإنسان الحالي على الابتعاد عن تلك المنطقة، حتى
واجه بيئات فيها نقص ملحوظ في الأشعة فوق البنفسجية خلال العام. وفي ظل هذه
الظروف، ربما صارت كثافة الدارئات الشمسية الطبيعية ضارة. فالجلد القاتم الذي
يحتوي الكثير من الملانين لا يسمح بالنفوذ عبر الجلد إلا لكمية ضئيلة جدا من
الأشعة فوق البنفسجية، وبخاصة النمط B منها (UVB)
الأقصر موجة. ومع أن معظم تأثيرات النمط B مؤذٍ،
فهذه الأشعة تؤدي وظيفة لا غنى عنها: إنها تستهل تفاعلات تصنيع الڤيتامين
D في الجلد. فالناس ذوو الجلد القاتم، الذين
يقطنون المناطق المدارية، يتلقون خلال العام ما يكفيهم من الأشعة فوق
البنفسجية، بحيث تنفذ موجات النمط B من هذه
الأشعة إلى الجلد وتتيح تصنيع الڤيتامين D. أما
خارج المناطق المدارية فالأمر مختلف. وتَمثَّل الحل بالنسبة إلى المهاجرين
باتجاه خطوط العرض شمالا، في فقدان صباغ الجلد خلال زمن التطور.
في عام 1967، درس
[من جامعة براندايس] الصلة بين تطور الجلد المتصبغ بلون فاتح وتكوين (تخليق)
الڤيتامين D دراسة مفصلة، وأثبت أهمية هذا
الڤيتامين في إنجاح التوالد، بسبب دوره في تمكين المعى من امتصاص الكالسيوم،
وهذا يؤدي إلى تنام سَوِي للهيكل العظمي وإلى الحفاظ على جهاز مناعي صحيح. كما
أن الأبحاث التي قادها [من كلية طب
جامعة بوسطن] خلال السنوات العشرين الفائتة، عززت أكثر فأكثر أهمية الڤيتامين
D في إحداث التنامي والمناعة. وبيَّن فريقه أيضا
عدم احتواء ضوء الشمس دائما على ما يكفي من الأشعة فوق البنفسجية من النمط
B لتنبيه إنتاج الڤيتامين
D؛ إذ يتفاوت هذا المحتوى زمانا ومكانا. ففي بوسطن مثلا، التي تقع على
خط العرض 42 شمالا، تبدأ خلايا الجلد بإنتاج الڤيتامين D
فقط بعد أواسط الشهر 3. أما في أثناء الشتاء فلا يتوافر ما يكفي من الأشعة فوق
البنفسجية من النمط B للقيام بذلك. ولقد أدركنا
عندئذ أن هذه المعلومات تشكل بَيِّنة أخرى أساسية لفهم قصة تلون الجلد.
وفي أثناء إجرائنا أبحاثنا في مطلع التسعينات،
حاولنا عبثا العثور على مصادر للمعلومات عن مستويات الأشعة فوق البنفسجية
B على سطح الأرض. ونجح مسعانا عام 1996 عندما
اتصلنا ب [من المعهد التعاوني لأبحاث
العلوم البيئية، التابع لجامعة كولورادو في بولدر]. لقد تقاسمنا معا قاعدة
بيانات لقياسات الأشعة فوق البنفسجية B على سطح
الأرض، قامت بها وكالة الفضاء الأمريكية NASA
بوساطة ساتل المقياس الضوئي الطيفي لرسم خريطة الأوزون الكلي
Total Ozone
Mapping Spectrophotometer
Satellite. عندئذ صار بمقدورنا أن نضع نموذجا
لتوزع الأشعة فوق البنفسجية على سطح الأرض، وأن نربط بيانات الساتل بكمية
الأشعة فوق البنفسجية B الضرورية لإنتاج
الڤيتامين D.
لقد وجدنا أنه بالإمكان تقسيم سطح الأرض إلى ثلاث
مناطق لتوزع الڤيتامين D: الأولى تشمل المناطق
المدارية، والثانية تشمل المناطق شبه المدارية والمعتدلة، والثالثة تشمل
المنطقتين حول القطبيتين شمال خط العرض 45 وجنوبه. في المنطقة الأولى، تكون
جرعة الأشعة فوق البنفسجية B طوال العام عالية
بما يكفي، بحيث تتاح للإنسان فرصة كبيرة لتصنيع الڤيتامين
D في جميع أيام السنة. أما في المنطقة الثانية
فإن كمية الأشعة فوق البنفسجية B في شهر واحد على
الأقل من العام تكون غير كافية لتصنيع هذا الڤيتامين. وأما في المنطقة الثالثة،
فإن كمية هذه الأشعة لا تصل ـ طوال العام في المتوسط ـ بما يكفي لتحريض تصنيع
الڤيتامين D. إن هذا التوزع يمكن أن يفسر لماذا
يكون جلد سكان المناطق المدارية الأصليين قاتما عموما، في حين أن جلد سكان
المناطق شبه المدارية والمعتدلة أفتح لونا وقابل للسفع(5)، وأن جلد سكان
المناطق القريبة من القطبين يميل إلى اللون الفاتح جدا ويسفع بسهولة.
الجلد والهجرة(********)
لقد تلاءم جلد الشعوب، التي قطنت مناطق معينة آلاف الأعوام، بشكل يسمح بإنتاج الڤيتامين D ويحمي، في الوقت نفسه، مخزون الجسم من الفولات. وتحتاج درجة تلون جلد المهاجرين الجدد إلى آلاف الأعوام كي تتلاءم مع هذه الأجواء الجديدة، الأمر الذي يعرض الأفراد ذوي الجلد الفاتح لخطر الإصابة بسرطانات الجلد، ويعرض ذوي الجلد القاتم لخطر عوز الڤيتامين D.
|
وتتمثل أكثر مظاهر هذا البحث أهمية بتفحص المجموعات
التي لم تتوافق بدقة مع طرز لون الجلد التي تم التنبؤ بها. وكمثال على ذلك، شعب
الإنويت Inuit في آلاسكا وشمال كندا؛ فلون جلد
الإنويتيين يكون إلى حد ما أشد قتامة مما يمكن التنبؤ به من مستويات الأشعة فوق
البنفسجية في خط العرض الذي يعيشون فيه. وقد يرجع سبب ذلك إلى عاملين: الأول،
أنهم سكنوا هذه المنطقة منذ زمن قريب نسبيا، فقد هاجروا إلى أمريكا الشمالية
قبل 5000 عام تقريبا. والآخر، أن القوت التقليدي للإنويت غني جدا بالڤيتامين
D، وبخاصة الأسماك والثدييات البحرية. وهذا القوت
الغني بالڤيتامين D يمثل حلا ملائما للمعضلة التي
كان يمكن أن يواجهها الإنويتيون في ما يتعلق بتصنيع الڤيتامين
D في جلدهم، الذي يظل ـ بسبب هذا القوت ـ أشد
قتامة، حتى في تلك المناطق الشمالية.
وأتاح لنا تحليلنا لإمكانات تصنيع الڤيتامين
D فَهْم خلة أخرى ذات صلة بلون الجلد البشري؛
فالنساء عموما، وفي الجماعات البشرية كافة، يتمتعن بجلد لونه أفتح من لون جلد
الرجال. وتشير البيانات المتوافرة لدينا إلى أن جلد النساء أفتح لونا من جلد
الرجال بما يتراوح بين 3 و 4 في المئة. ولطالما فكّر العلماء في أسباب هذا
التفاوت، وحاجّ معظمهم على أن الظاهرة ترجع في جذورها إلى الانتقاء الجنسي؛ إذ
يفضل الرجال النساء ذوات الجلد الأفتح. ونحن نأخذ بهذا الرأي مع أنه جزء من
الحقيقة ولا يفسر السبب الأصلي للفرق بين الجنسين. فحاجة النساء إلى الكالسيوم
طوال حياتهن الإنجابية ـ وبخاصة في أثناء الحمل والإرضاع ـ تفوق على نحو واسع
حاجة الرجال، ويجب عليهن الاستفادة إلى أكبر قدر ممكن من كالسيوم الطعام. ولذا،
فنحن نقترح أن النساء يرغبن في التمتع بجلد أفتح لونا من جلد الرجال، بحيث
يتسنى لزيادة يسيرة من الأشعة فوق البنفسجية B
النفوذ إلى جلودهن، فتزداد بذلك مقدرتهن على إنتاج الڤيتامين
D. وبالفعل، فإن النساء في مناطق العالم، التي
تتلقى كميات كبيرة من الأشعة فوق البنفسجية، عليهن الموازنة بدقة بين اختيارين
للانتقاء الطبيعي؛ فهن بحاجة إلى زيادة وظيفة الوقاية الضوئية لجلودهن إلى الحد
الأعلى من جهة، وإلى زيادة قدراتهن إلى أعلى مستوى ممكن على تصنيع الڤيتامين
D من جهة أخرى.
من يصنع ما يكفي من الڤيتامين
D؟(*********)
تتلقى الجماعات السكانية، التي تعيش في المناطق المدارية، من الشمس ما يكفي من الأشعة فوق البنفسجية (UV) (الخريطة العلوية، البني والبرتقالي) لتصنيع الڤيتامين D طوال العام، على العكس من أولئك الذين يعيشون في خطوط العرض الشمالية والجنوبية. أما في المناطق المعتدلة (المظللة تظليلا فاتحا)، فإن الناس لا يتلقون، في خلال شهر واحد فقط من العام، ما يكفي لصنع الڤيتامين D. وأما أولئك الذين هم أقرب إلى القطبين (المنطقة المظللة تظليلا قاتما)، فلا يتلقون في معظم شهور العام ما يكفي لصنع هذا الڤيتامين. وتوضح الخريطة السفلية ألوان الجلد البشري، التي يمكن التنبؤ بها بناء على مستويات الأشعة فوق البنفسجية. وتتقابل ألوان الجلد كثيرا لسكان العالم القديم الأصليين مع الطرز التي تم التنبؤ بها. أما في العالم الجديد، فإن لون جلد السكان الذين أقاموا لمدة طويلة، يكون عموما أفتح مما يتوقع ـ ولعل ذلك يرجع إلى حداثة الهجرة، وإلى عوامل أخرى، كالغذاء.
|
حيث تتلاقى الحضارة والبيولوجيا(**********)
مع ترحال الإنسان المعاصر عبر العالم القديم قبل نحو
مئة ألف عام، تلاءمت جلود جماعاته مع الظروف البيئية التي سادت في كل منطقة من
المناطق المختلفة. وكان أمام لون جلد سكان المناطق الإفريقية الأصليين الفترة
الزمنية الأطول للتلاؤم، ذلك أن الإنسان الحديث (من الوجهة التشريحية) نشأ في
تلك المناطق. ويمكن، إلى حد ما، إعادة رسم مخطط تغيرات لون الجلد، التي خضع لها
الإنسان المعاصر وهو يرتحل من قارة إلى أخرى ـ أولا إلى آسيا، ثم إلى
أستراليا-ميلانيزيا، ثم إلى أوروبا، وأخيرا إلى الأمريكتين. بيد أنه من المهم
أن نتذكر أنه كان لهؤلاء البشر ثياب يرتدونها ومآوٍ تحميهم من عوامل البيئة.
كما أنهم تمتعوا ـ في بعض الأمكنة ـ بالقدرة على جني أطعمة غنية جدا بالڤيتامين
D، كما هي الحال لدى شعب الإنويت. وكان لهذين
العاملين ـ الكساء والغذاء ـ تأثيرات بالغة في درجة تطور لون الجلد في الجماعات
البشرية وفي سرعة هذا التطور.
إن إفريقيا قارة غير متجانسة بيئيا. وقد يمم عدد من
الهجرات الأولى للإنسان المعاصر وجهه خارج إفريقيا الاستوائية شطر إفريقيا
الجنوبية. ولايزال بعض المتحدرين من هؤلاء المستعمرين الأوائل ـ ويعرفون باسم
الخُويْزان Khoisan (وعرفوا سابقا باسم
الهوتنتوتس Hottentots) ـ يقطن حتى الآن في
إفريقيا الجنوبية، وجلدهم لونه أفتح على نحو واضح من جلد السكان الأصليين
لإفريقيا الاستوائية. ويمثل هذا تلاؤما واضحا للمستويات الأقل من الأشعة فوق
البنفسجية التي تسود الأطراف الجنوبية للقارة الإفريقية.
ولكن من المهم أن نشير إلى أن لون الجلد البشري في
إفريقيا الجنوبية ليس واحدا. فالجماعات التي تتكلم لغة البانتو
Bantu، وتعيش حاليا في إفريقيا الجنوبية، تتمتع
بجلد أكثر قتامة بكثير من جلد «الخُويْزان». ونحن نعلم من تاريخ هذه المنطقة أن
متكلمي لغة البانتو هاجروا حديثا إليها ـ ربما قبل ألف عام ـ من أجزاء من
إفريقيا الغربية قرب خط الاستواء. ويدل اختلاف لون الجلد بين «الخُويْزان»
وأقوام لغة البانتو، مثل الزولو Zulu، على أن
المدة الزمنية التي تمضيها مجموعة من الأفراد في منطقة معينة، مهمةٌ لفهم أسباب
اكتسابها لون الجلد الخاص بها.
ويحتمل أن يكون السلوك الحضاري قد أثر أيضا بشدة في
تطور لون الجلد في خلال التاريخ البشري المعاصر. ويمكن ملاحظة هذا التأثير لدى
السكان الأصليين الذين يقطنون الضفتين الشرقية والغربية للبحر الأحمر؛ إذ
يُعْتقد أن قبائل الجانب الغربي، الذين يتكلمون ما يعرف باللغات
الحامية-النيلية Nilo -
Hamitic، قطنوا هذه المنطقة مدة تصل إلى 6000 عام. ويتميز هؤلاء الأفراد
بجلد شديد التصبغ وأجسام طويلة ونحيلة وأطراف طويلة. وتمثل هذه الخصائص تلاؤما
بيولوجيا ممتازا لتبديد الحرارة والأشعة فوق البنفسجية الشديدتين. وبالمقابل،
فإن المجموعات الزراعية والرعوية الحديثة على الضفة الشرقية للبحر الأحمر وفي
شبه الجزيرة العربية، قطنت هذه المناطق منذ 2000 عام فقط. إن هؤلاء العرب
الأوائل، وهم من أصل أوروبي، تلاءموا مع ظروف بيئية شديدة التماثل (لتلك التي
تسود الضفة الغربية للبحر الأحمر)، بوسائل كانت كلها حضارية حصرا؛ فقد ارتدوا
ملابس ثقيلة واقية، وابتكروا أمكنة ظليلة محمولة على شكل خيام. ولولا هذه
الملابس لكان المتوقع أن يأخذ الجلد لونا قاتما. ويمكن القول عموما، إنه بقدر
ما تكون الهجرة إلى منطقة ما حديثة، بقدر ما يسود التأثير الحضاري في ما يتعلق
بالتلاؤم مع ظروف تلك المنطقة، مقارنا بالتأثير البيولوجي.
أخطار الهجرات الحديثة(***********)
على الرغم من التحسينات الكبيرة ـ التي طرأت في
القرن الماضي على مجمل الحالة الصحية للإنسان ـ فإن بعض الأمراض ظهرت، أو عادت
إلى الظهور في جماعات من البشر لم تتأثر بها في الماضي إلا قليلا. ويُعد سرطان
الجلد أحد هذه الأمراض (وبخاصة سرطان الخلايا القاعدية وسرطان الخلايا
الحرشفية) لدى الأفراد من ذوي الجلد الفاتح. وقد ظهر مرض آخر هو الرَّخَد
rickets، الذي ينشأ بسبب العوز الشديد للڤيتامين
D لدى الأشخاص من ذوي الجلد القاتم. فلماذا نشهد
هذه الحالات؟
مع هجرة الناس من منطقة ذات نمط معين من الأشعة فوق
البنفسجية إلى منطقة أخرى، فإن التلاؤمين البيولوجي والحضاري لم يتمكنا من
مجاراة الظروف الجديدة. فالناس ذوو الجلد الفاتح من الأصول الأوروبية الشمالية،
الذين يمارسون الاسترخاء ساعات طويلة تحت شمس فلوريدا وأستراليا الشمالية،
يدفعون على نحو متزايد ضريبة هذه الممارسة على شكل شيخوخة الجلد المبكرة
والإصابة بسرطانات الجلد. هذا، إضافة إلى الكُلفة غير المعروفة بالأرواح
البشرية نتيجة استنزاف الفولات. وعلى العكس من ذلك، فإن عددا من أصحاب الجلد
القاتم، الذين يعودون في أصولهم إلى جنوب آسيا وإفريقيا، ويقطنون حاليا في
المملكة المتحدة أو شمال أوروبا أو المنطقة الشمالية الشرقية للولايات المتحدة،
يعانون نقص أو غياب الأشعة فوق البنفسجية والڤيتامين D،
ومن مشكلات صحية غادرة تتبدى في إحداث نسبة عالية من مرض الرخد وأمراض أخرى ذات
صلة بعوز هذا الڤيتامين.
إن قدرة لون الجلد على التلاؤم، خلال مدة طويلة من
الزمن، مع البيئات المختلفة التي كان الإنسان قد هاجر إليها، تعكس أهمية لون
الجلد لبُقْيا الإنسان. بيد أن الطبيعة غير المستقرة للون الجلد تجعل منه أقل
الصفات نفعا في تحديد الأواصر التطورية بين المجموعات البشرية. لقد استعمل
العلماء الغربيون الأوائل لون الجلد استعمالا خاطئا لرسم الخطوط الكبرى للأعراق
البشرية، بيد أن جمال العلم يتمثل بمقدرته على تصحيح مساره، وبقيامه بإحداث هذا
التصحيح. وتدل معارفنا الحالية عن تطور جلد الإنسان على أنه يمكن تفسير اختلاف
لون الجلد بالتلاؤم مع البيئة خلال الانتقاء الطبيعي، شأنه في ذلك شأن معظم
الخواص الجسدية. وإننا نتطلع إلى اليوم، الذي ستُمحى فيه آثار الأخطاء العلمية
القديمة، ليحل مكانها فهم أفضل لأصول الإنسان وتنوعه. وعلينا أن نمجد الاختلاف
في لون الجلد البشري كواحد من أبرز المظاهر المرئية لتطورنا كنوع بيولوجي.