27 مارس 2015 بقلم
كمال عبد اللطيف قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:أتصور أن موضوع الحداثة والتحديث يقع في صلب اهتمامات التفكير في الحاضر العربي، وهو قبل ذلك يندرج ضمن مشروع النهضة العربية المأمولة. وتبرز أهميته من كونه ينظر من جهة إلى الإنسان، باعتباره بؤرة النظر في عمليات التحديث، وَيُعْنَى من جهة ثانية، بمسألة التقدم لكونها الأفق الذي يتطلع إليه الجميع.
تتقاطع في الحداثة لحظتان، لحظة الواقع التاريخي، ولحظة المفاهيم والتصورات، وهناك اتفاق بين الباحثين في موضوع الواقع التاريخي، حيث يتم الإجماع على أن سمات الحداثة تتمثل في جملة من التحولات الكبرى، أبرزها الثورة الاقتصادية، وثورات العلم، ثم الإصلاح الديني وما تلاه من ثورات فكرية وسياسية.
وبناء عليه، تعتبر معركة الحداثة معركة شاملة ومركَّبة، إنها معركة في الفكر وفي السياسة والمجتمع والتاريخ، وكل إغفال لمجموع عناصرها في تكاملها وتقاطعها وتداخلها، يُقلِّص من إمكانية الإنجاز الحداثي. ولهذا السبب، يشكل مشروع التحديث السياسي البؤرة الناظمة والجامعة لأسئلة اللحظة التاريخية الراهنة في مجتمعنا، وقد كان الأمر كذلك قبل أربعين سنة، ولعله سيستمر بعد هذه اللحظة بما يعادلها أو يفوقها في كَمِّ الزمان. إلاّ أن الأمر الذي لا ينبغي التراجع عنه أو التفريط فيه، هو أن نتخلّى تحت أي ضغط أو إكراه تاريخي أو نظري عن مواصلة العمل من أجل زرع قيم التنوير والحداثة، وإعادة زرعها دون كَلَل في حاضرنا المفتوح على أزمنة مضت وأخرى قادمة.
إن الممانعة التاريخية والعناد التاريخي الذي تمارسه قيود التقليد وأعباء التاريخ التي شكَّلت في الماضي جوانب من هويّتنا، كما نشأت وما فتئت تنشأ ويُعاد تشكُّلها في التاريخ، يقتضي منّا العمل المتواصل، في اتجاه ابتكار أساليب جديدة في الفكر وفي الممارسة، لمواصلة توطين مبادئ التفكير والعمل الحداثي في حاضرنا.
لقد تَمَّ استنباط مفهوم الحداثة، ليشير إلى التحولات الناتجة عن الثورات والمعارك المذكورة، وليحدد في الوقت نفسه جملة من السمات المرتبة لملامح الأزمنة الحديثة، حيث تصبح الفردانية، العقلانية والحرية والديمقراطية، المنزع الوضعي؛ أي تبجيل المكاسب الناتجة عن العلم الحديث، بمثابة الخصائص الملازمة للحداثة والتحديث.
وهناك أمر آخر، لا ينبغي إغفاله في هذه الخطاطة المختزَلة لبنية الحداثة والتحديث، وكيفيات تحقُّقِهما في مجتمعاتنا، وهي تتعلق بكون الحداثة كما نتصورها تُعَدُّ مجرد مشروع منفتح ومفتوح، صحيح أنها تبلورت كرؤية وكمشروع في جغرافية معينة، وفي وقت مُحَدَّد، لكنها تستمر في نظرنا في صورة مشروع ما يفتأ يعيد النظر في أصوله، ويصنع لنفسه مجموعة من التجليات المتطورة والمتناقضة.
استأنس الفكر العربي بالحديث عن روح الحداثة والتحديث، باستعمال مفردات من قبيل النهضة، الإصلاح، التمدن والتنمية، وظلت مفردة الحداثة والتحديث غائبة من قاموس التداول في الثقافة العربية المعاصرة، إلى حدود الربع الأخير من القرن العشرين.
وقد استندت ردود الفعل التي تم التعبير عنها في محيط الثقافة العربية، في موضوع الحداثة في الغالب إلى تصورات قبلية. كما اعتمدت نظرة انتقائية لدلالات وأبعاد الحداثة، ووقع فيها نوع من الخلط والتلفيق، الأمر الذي جعل البعض يقبل أغلب مظاهر التحديث في المعرفة والمجتمع والتقنية، ويرفض مقابل ذلك الأبعاد الأخرى، التي لا يمكن فصلها عن المنظور الحداثي، من قبيل الرؤية التي رُكِّبت في موضوع النظر إلى العالم والقيم.
تخوض المجتمعات العربية منذ عقود من الزمن معارك التحديث، وهي تبني مكاسب كما تحصل فيها انتكاسات، إنها تخوض معارك في الفكر والتربية وفي السياسة والمجتمع والتاريخ، صحيح أن مشروع التحديث السياسي، يُشَكِّل البؤرة الناظمة والجامعة لأسئلة اللحظة التاريخية الراهنة في مجتمعنا، إلاَّ أن هذا لا ينفي أو يُقَلِّص من تمظهرات الوعي الحداثي الأخرى المرتبطة بمجالات مجتمعية أو معرفية أخرى داخل المجتمعات العربية.
نفترض أن العناية بموضوع الحداثة في فكرنا، يتطلب أولاً محاولة الإمساك والإحاطة بعوائق وصعوبات توطين الفعل التحديثي في مجتمعاتنا. ذلك أن التحديث يعد سمة مركزية في عصرنا، وقد استغرقت عمليات تشكله عقودا طويلة من الزمن، منذ القرن السابع عشر في موطنه الأصلي، أي أوروبا، ثم في بقية العالم، بعد ذلك، بفعل عمليات انتقال وهجرة آليات ومكاسب عصرنة المجتمعات البشرية.
شملت مظاهر التحديث كثيراً من مظاهر الحياة في المجتمع العربي، وظل إيقاع تواصلها مع منطق التحديث بطيئا وانتقائيا، الأمر الذي ركَّب ازدواجية في أغلب هذه المجتمعات، حيث تتعايش داخلها أنظمة التقليد والحداثة في التربية والاقتصاد، في الحزب والنقابة، وفي الكتابة والذهنيات ومختلف طقوس الحياة.
يمكن أن ننطلق إذن، في مواجهة موضوع عوائق التحديث، من خلال أبواب كبرى تدور حول أسئلة التحديث، التي ما فتئت تطرح في المجتمعات العربية، منذ القرن التاسع عشر وطيلة المرحلة الاستعمارية، وإلى يومنا هذا قبل الانفجارات الاجتماعية الأخيرة وبعدها، حيث يمكن أن تشكل مفردات الجيل الثالث من منظومات التفكير في الإصلاح والتقدم والنهضة الشاملة، القاعدة والمنطلق لمعالجة أسئلة التحديث (إصلاح الذهنيات، الاجتهاد، إصلاح منظومة التربية والتعليم، تبيئة أجيال حقوق الإنسان، الانخراط في مجتمع المعرفة، مأسسة المجتمع، توسيع دوائر العقلانية والثقافة، محاصرة الفساد، تعزيز أساليب المراقبة..).
إن معالجة موضوعات التحديث، الدمقرطة، التنوير، المأسسة، العقلنة، التحرر، التواصل، التنمية، الشفافية، وهي المفردات التي تعبر عن روح الفعل الحداثي في التاريخ المعاصر، يمنح الموضوع مشروعيته التاريخية. وتزداد أهمية هذه المسألة عندما نعرف أن مضامين الحداثة في التاريخ، كانت وما تزال كما أشرنا ونؤكد مشروعا مفتوحا يتوخى تدبيرا أفضل لكل متطلبات الحياة.
لنبدأ بالتفكير في أسباب إخفاق مشاريع الإصلاح، في أبعادها المختلفة داخل الأقطار العربية، إخفاق الإصلاح السياسي، إخفاق الإصلاح الديني، إخفاق الإصلاح الثقافي والتربوي. إن حزمة الإخفاقات المتزامنة والمتتابعة، تؤكد الحاجة إلى تعقُّل بنية هذا الإخفاق، وبناء التصورات القادرة على تجاوزه وذلك بمزيد من العمل على توطين قيم الحداثة والتحديث في مجتمعاتنا.
إن مقاربة لتمظهرات وتجليات فعل الحداثة كما حصل في التاريخ، سواء في الغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، أو كما يحصل اليوم في الوطن العربي، ستمكِّنُنا من فحص حدود الأطروحات الرامية إلى تحديث الذهنيات ومراجعة برامج ومراحل الإصلاح السياسي الديمقراطي، ثم الوقوف على درجات العقلنة، وأشكال المأسسة وطبيعة التشريعات المواكبة للتحولات الجارية في المجتمع العربي. الأمر الذي سيجعلنا نقف على أهم التجليات والمظاهر، التي تعكس درجات التحديث المنجزة، وصور العوائق التي ما تزال تحاصر مشروع توطين الحداثة داخل المجتمعات العربية.