كتبه
فهد الحازمي · 2014 - 07 - 07
يدور المؤلف في هذا الكتاب حول طيف واسع من المفاهيم التي تشكل فسيفساء ما بعد الحداثة، من التصميم المديني والمعمار إلى العوامل الاقتصادية، إلى غيرها من الموضوعات. وسندور في هذه المراجعة حول أبرز تلك المفاهيم لنقدم تغطية أشمل عن الكتاب.
تميز حركة مابعد الحداثة التنافر والاختلاف كعاملي تحرير في إعادة تعريف الخطاب الثقافي. وهكذا فالتشظي وغياب التحديد والشك العميق في كل الخطابات الشمولية و »الكلية » هي العلامة الفارقة للتفكير مابعد الحداثي. وهذا الشكل ربما يشكل العامل المشترك بين جميع المفاهيم الناتجة عن حركة مابعد الحداثة.
وحول علاقة مابعد الحداثة بمشروع التنوير ، فقد أشار المؤلف إلى أطروحة هوركهايمر وأدورنو الذين حاولا البرهنة على أن المنطق الذي يقبع خلف عقلانية التنوير هو منطق هيمنة واضطهاد وأن التلهف إلى السيطرة على الطبيعة جلب معه السيطرة على البشر ولم يكن يمكن أن يوصل ذلك في النهاية إلا إلى كابوس قهر الذات. فالمؤلف يرى أن لب الفكر الفلسفي مابعد الحداثي هو إعلان الطلاق كلياً مع مشروع التنوير باسم تحرير الإنسان.
وقد أفاض المؤلف الحديث عن مشكلات التنوير التي تمخضت عن مابعد الحداثة، حيث أن أولى التناقضات التي اكتنفته هو مسألة العلاقة بين الوسائل والغايات. إذ بينما تبدو الأهداف نفسها عصية على التعيين على نحو دقيق إلا من ضمن مشروع (طوباوي)، غالبا ما بدا مشروعاً قائماً على الاضطهاد بالنسبة للبعض، بينما هو للبعض الآخر مشروع تحرر. فلا مفر إذ ذاك من مواجهة مسألة من يملك حق إعلان سلطة العقل العليا وفي ظل أي شروط يتحول ذلك العقل إلى سلطة ملموسة؟ وعلى ذلك اختلفت رؤى مفكري التنوير بين روسو وبيكون وماركس.
من التدمير الخلاق إلى الجمالية
وحتى يبدأ مشروع التنوير بتنفيذ مشروعه، فلابد أن يبدأ بما يسميه نيتشه « التدمير الخلاق » وهو مفهوم مركزي في غاية الأهمية لفهم الحداثة لأنها صورة هذا التدمير نابعة تماماً من المآزق العملية التي واجهت تطبيق المشروع الحداثي، إذ كيف يمكن في النهاية أن يقوم عالم جديد من دون تدمير للعالم الذي كان موجوداً من قبل؟ والإجابة لدى سائر مفكري الحداثة من غوته إلى ماو هي أنك وببساطة لا تستطيع صنع طبق عجة من دون كسر البيض الضروري لذلك. والعجيب أن الاقتصادي شومبيتر التقط الصورة نفسها واستخدمها في فهم آليات التطور الرأسمالي، فصاحب المشروع في صورة شومبيتر هو المدمر الخلاق « بامتياز » لأنه مستعد أن يدفع بنتائج التدمير التقني والاجتماعي إلى نهايتها الأخيرة.. وتقدم البشرية لا يكون ولا يتعزز إلا بمثل هذه البطولة الخلاقة. لقد كان التدمير الخلاق بحسب شومبيتر هو الصورة التقدمية لتطور رأسمالي يستهدف الخير العام، أما لآخرين فلقد كان ببساطة الشرط الضروري لتقدم القرن العشرين.
ولكن مع بدايات القرن العشرين وبعد تدخل نيتشه خصوصا لم يعد مقبولاً منح عقل التنوير الصدارة في تعريف جوهر الطبيعة الإنسانية الدائم والثابت، حيث بلغ نقد نيتشه درجة تشريع الباب أمام جعل الذاتي في علم الجمال فوق العلم والعقلانية والسياسة، وتصبح بالتالي كشوفات التجربة الذاتية أداة فاعلة في تأسيس ميثولوجيا جديدة يمكن من خلالها إيجاد الدائم والثابت وسط الهامشية والتشظي والفوضى المنتشرة في الحياة الحديثة. وداخل هذا المفهوم يبرز دور أساسي للفنانين والكتاب والمعماريين والمؤلفين الموسيقيين والشعراء والمفكرين والفلاسفة حيث بات للفنان الحديث دور خلاق يلعبه في تعريف جوهر الإنسانية، طالما لم يعد وارداً افتراض وجود الدائم والثابت. وإذا صح أن التدمير الخلاق كان شرطاً جوهرياً في الحداثية، فإن دور البطولة إنما كان بحق للفنان كفرد. ومن هنا نلحظ نشأة الذاتوية. حيث نشأ التحول من استراتيجية عقلانية أدوية (أنا أفكر إذن أنا موجود) إلى استراتيجية جمالية أكثر وعياً في تحقيق اهداف التنوير (أنا أشعر إذن أنا موجود – روسو). فبالإضافة إلى صعوبة ترجمة مبادئ الفهم العقلاني والعلمي التنويري إلى مبادئ أخلاقية وسياسية ملائمة عملياً، نفذ نيتشه من هذه الثغرة لينجح في إيصال رسالته الضخمة بكل تداعياتها ومؤداها ببساطة أن للفن والمشاعر الجمالية القدرة على تجاوز الخير والشر معاً.
وفي هذا السياق التشعب والغني بالتوجهات، يشير المؤلف إلى أن تسليع السوق وفتحه تجارياً أمام المنتجات الثقافية خلال القرن التاسع عشر (على وقع زوال فكرة الأبوة الارستقراطية من الدولة أو المؤسسات) ألزام المنتجين الثقافيين بدخول شكل من تنافس السوق عزز بدوره عملية « التدمير الخلاق » داخل الحقل الجمالي بالذات. حيث ان هذا يعكس بدقة السقف السياسي-الاقتصادي الآخذ بالتشكل أو الذي يدفع إليه أحيانا، فالفنان -كل فنان- يرغب في تغيير قواعد الذوق الجمالي في الاتجاه الذي يخدم مبيع لوحاته، ولم يكن هذا ممكناً لولا تشكل طبقة من مستهلكي الثقافة، كما يسميهم المؤلف. ويكمل المؤلف ناقداً، أنه بسبب ولعهم بالخطاب المضاد للقوالب الجاهزة والمضاد للبرجوازية فقد صرفوا من الجهد والوقت في صراعهم بعضهم ضد البعض، او ضد تقاليدهم السابقة تأميناً لتسويق نتاجهم، أكثر مما فعلوا للانتماء إلى عمل سياسي حقيقي.
الحداثة كظاهرة مدينية
كل ردود الفعل هذه -بحسب المؤلف- تكون جغرافيا تاريخية معقدة للحداثية تزيد من صعوبة أي فهم دقيق لمانعنيه بالحداثية. إضافة إلى الصراعات بين الاممية والقومية، بين الافناتح على الكون أو التقوقع على الذات، بين العالمية ومصالح الفئات، فكل هذه جميعا جزء من مشهد الحداثية. وكما ان الحداثية حاولت مواجهة هذه الصراعات إلا أنها كذلك حاولت الهرب منها واستغلالها أحيانا لمصالح نفعية أو سياسية. ولكنها في المجمل تقترب بقوة من فكرة « فن طليعي عالمي نخبوي يجري تبنيه من خلال علاقة إخصاب الإحساس القوي بالمكان ».
ومن علاقتها بالمكان، يشير المؤلف إلى أن حركة الحداثية بعد عام ١٨٤٨ كانت كما يبدو وإلى حد كبير ظاهرة مدينية. فهي قامت في ظل علاقة متحركة ومعقدة بتجربة الانفجار السكاني المديني (حيث تجاوزت مدن العدة ملايين ساكن عند نهاية القرن) وبالهجرة من الريف إلى المدينة وحركة التصنيع والمكننة وإعادة تنظيم البيئات التي جرى بناؤها كما أنها استندت سياسياً إلى حركات مدينية بحيث بدت انتفاضتا باريس لعامي ١٨٤٨ و ١٨٧١ الرمز الواضح -السيء الحظ- لهذ العلاقة. فظاهرة الحداثة في النهاية إنما نشأت تحديداً من براعم الحاجة المتزايدة لمواجهة المشكلات النفسية والسوسيولوجية والتقنية والتنظيمية والسياسية التي أظهرها التمدين الكثيف.
وفي سياق المقارنة بين أمريكا وأوروبا، يشير المؤلف إلى أن الولايات المتحدة (وشيكاغو تحديدا) هي قوة دفع أساسي للحداثة في الحقبة التي تلت عام ١٨٧٠ ومع ذلك فإن غياب الممانعة « الرجعية » في هذه الحالة(الإقطاعية والارستقراطية) والقبول الشعي السهل بالمقابل لتطلعات الحداثة جعلا من أعمال الفناني والمثقفين ومسألة التغيير الاجتماعي أقل طليعية وراديكالية. وبالمقابل فقد دفعت المقاومة الطبقية والرجعية العنيفة ضد التحديث الرأسمالي في أوروبا حركات التحديث الجمالية والفكرية إلى حدود أكثر راديكالية وأهمية في مسائل التغيير الاجتماعي مانحة الطليعة وزناً سياسياً واجتماعياً لم يتوفر مثله في الولايات المتحدة إلى بعد عام ١٩٤٥. وعليه فقد بدا طبيعيا أن يكون تاريخ الحداثة الجمالية والثقافية أوروبياً إلى حد كبير.
من جواب واحد إلى عدة تفسيرات
في حديثه عن التاريخ المركب للحداثية التي تمرد عليها فنانو مابعد الحداثية، أشار المؤلف إلى أن مشروع التنوير (الحداثي) تأسس على مسلمة مؤداها أن هناك إجابة صحيحة واحدة عن كل سؤال. وعليه فالسيطرة على العالم وإدارته عقلياً أمر يتوقف فقط على مسألة عثورنا على تلك الإجابة وأداءنا الصحيح لها. ولكن بعد عام ١٨٤٨ تحطمت فكرة أن هناك شكلاً واحداً من التمثيل للأشياء، حيث اهتز الثبات الحتمي لفكرة النهضة، وانفتحت بدلاً من ذلك آفاق أشكال متنوعة أخرى. فانفجرت أشكال بديلة للتعبير في الفنون وفي الهندسة وفي العلوم وفي غيرها من المجالات لتصل ذروتها عشية الحرب العالمية الأولى. يستنتج أن مجمل عالم المفاهيم والمعرفة قد دخل خلال وقت قصير سلسلة تحولات أساسية تشكل موضوع الفصول التالية في الكتاب. لكن مايجمع هذه التغييرات هو أنها تأثرت حتماً بفقدان الإيمان بحتمية التقدم وبتنامي الشكوك في ثبات فكر التنوير والصعوبة تلك تعود في جزء منها إلى تتامي حدة الصراع الطبقي وبخاصة بعد ثورات ١٨٤٨ ونشر « البيان الشيوعي ». كما أن التحول في نبرة الحداثية نشأ كذلك عن الحاجة للتصدي للحس بالفوضوية وعدم النظام واليأس الذي بذره نيتشه في زمن حفل بالحراك الصارخ والتوتر وفقدان الاستقرار في الحياة السياسية والاقتصادية وهو اضطراب تشبثت به وأسمهت فه الحركة الفوضوية إلى أواخر القرن التاسع عشر بأشكال مهمة. وتلازم ذلك مع إعلاء الرغبات الجنسية والنفسانية واللاعقلانية التي أضافت بعداً آخر إلى الفوضى القائمة. كشف هذا الزخم الدافق من الحداثية إذاً أنه من المستحيل تقديم العالم في لغة واحدة. والفهم الحقيقي إنما يبنى من خلال الكشف عن زوايا العالم المتعددة.
قوة الآلة كأسطورة بديلة
كل هذا الاضطراب فتح الطريق واسعاً للتفكير فيما يمكن أن تكون عليه فعلاً حقيقة الخصائص الثابتة للحداثة. فحينما تخفق مسلمات التنوير التي نادت بكمال الإنسان يغدو البحث عن أسطورة بديلة مطلباً متقدماً. فبعد الحرب الكونية كان مطلوباً بقوة إعادة بناء اقتصادات أوروبا التي مزقتها الحرب وحل جميع المشكلات الناتجة من الشكل الرأسمالي للتنمية الصناعية المدينية، فالولع بفكر تنويري متجانس ونشوء تعددية الرؤى فتح الباب أمام إمكانية عمل اجتماعي مع رؤى جمالية. كانت الحداثة الجمالية مهمة وكانت السقوف عالية. وبات اللجوء إلى الأساطير الأبدية أكثر حتمية. وهكذا فعلى الأسطورة الآن إما استعادتنا من عالم مؤقت بلا مشاكل، أو تزويدنا على نحو أكثر منهجية بالحافز لبناء مشروع جديد لحركة البشر. لقد لجأ أحد أجنحة الحداثية إلى شكل من العقلانية المستجد في الآلة، في المصنع، في قوة التكنولوجيا المعاصرة أو في المدينة باعتبارها « آلة حية ». فذهب رهط كبير من المنتجين إلى فرض التنظيم العقلاني « بحسب الفاعلية التكنولوجية والآلية » سبيلاً إلى الأغراض المفيدة اجتماعياً (تحرير البشر، وماشابه). ومن هنا فقد كانت الوضعية المنطقية على اتساق مع أنماط الهندسة المعمارية الحداثية تماماً كما مع أشكال العلم كافة مجسدة في سيطرة التكنولوجيا. لقد كانت تلك حقبة يستدل منها أن المنازل والمدن هي « آلات نعيش فيها ».
وفي تلك الأثناء، كان ممكناً دمج تقنيات المهندسين الحديثة والمدرجة في أقصى أشكال العقلانية التقنية/البيروقراطية الآلية بخرافات تفوق العرق الآري وتراب الوطن ودمه، فبهذه الأساليب الخبيثة سيطر في ألمانيا النازية شكل حاد من « الحداثة الرجعية » مما يشير إلى أن الفترة بكاملها رغم بعض وجوه الحداثة فيها إنما تنتمي إلى مكامن الضعف في فكر التنوير أكثر من انتمائها المزعوم إلى أي تقدم. وهذا الشكل من الميثولوجيا البطولية كانت الجانب المأساوي في المشروع الحداثي الذي غدا تدريجيا أكثر وضوحاً فيما كانت الحقبة البطولية تسير قدماً نحو الحرب العالمية الثانية.
حداثة مابعد الحربين
سيطرت الحداثة الشمولية والمتقدمة بعد عام ١٩٤٥ ونتيجة لذلك عرضت علاقة مريحة أكثر بمراكز السلطة المهيمنة في المجتمع. حيث تراجع البحث المحموم عن خرافة ملائمة ولذلك عائد إلى أن النظام العالمي المتشكل وفق حطوط فوردية كينزية صار مستقلاً نسبياً تحت عين الولايات المتحدة. فأصبحت الفنون السامية مثل الفن والعمارة والأدب الحداثي وغيرها، فنون مؤسسات في مجتمع يقوده مفهوم رأسمالي مؤسسي لمشروع التنوير، يقدم نفسه كخيار سياسي-اقتصادي مهيمن وتحت راية التنمية والتقدم وتحرير البشر. ولأن الإيمان بالتقدم الخطي والحقائق المطلقة والتخطيط العقلاني لنظم اجتماعية مثالية في ظل شرطي المعرفة والإنتاج كان لايزال قوياً فإن الحداثة التي تحققت كانت « وضعية، تكنوقراطية، وعقلانية » في حين أنها كانت تحسب على خانة نخب طبيعية من المصممين والفنانين والمعماريين والنقاد وآخرين من حراس الذوق الرفيع. كان تحديث الاقتصادات الأوروبية يتقدم بسرعة بينما السياسات والتجارة العالمية تجد تبريرها تحت حجة جلب الازدهار و »إجراءات التحديث » التقدمية إلى عالم ثالث يقبع في الظل. أما الجانب المخفي الحقيقي في الحداثة فقد كان في احتفائها الضمني بالسلطة وبالعقلانية وبالبيروقراطية المؤسساتية، تحت قناع العودة إلى العبادة الظاهرة لفاعلية الآلية كخرافة مناسبة تجسد أحلام البشر.
بزوغ الثقافات المضادة
جرى -وعلى نحو واسع- استيعاب كبير لنوع معين من الحداثة في الايديولوجيا الرسمية والمؤسساتية، واستخدمت في بناء السلطة والثقافة الامبريالية. وذلك كان يعني -ولأول مرة في تاريخ الحداثة- أن التمرد الفني والثقافي ومعه التمرد السياسي التقدمي ملزم بأن يتعدل وفق النسخة السائدة من الحداثة نفسها وحسب رغبة المؤسسات. فقدت الحداثة بالتالي قابلية الثورة في داخلها لصالح ايديولوجية رجعية وتقليدية. والأكثر سوءً من هذا ظهر في واقع أن الفن المؤسساتي والثقافة الرفيعة لم يفعلا أكثر من مجرد تحنيط سلطة الدولة والشركات العملاقة أو « الحلم الأمريكي » كخرافة تدور حول الذات مسقطة تماما من أي معنى ثابت. هذا السياق هو الذي ولدت فيه الثقافة المضادة والمعادية للحداثة في حقبة الستينات. لقد حفرت الثقافات المضادة -على نقيض السمات القمعية للعقلانية التقنية- البيروقراطية المؤسساتية المتمثلة في الشركات الاحتكارية والدولة وأشكال أخرى من السلطة- حفرت في حقول التحقق الذاتي الفردي من خلال سياسات يسار جديد متميز ومن خلال تبني الظواهر المضادة للسلطة والأشكال غير المألوفة في الموسيقى والأزياء وأساليب العيش، ومن خلال النقد المستمر للحياة اليومية. ورغم فشل حركة ١٩٦٨ التي بزغت فيها الثقافات المضادة في موجة من التمرد في العديد من العواصم العالمية إلا أنها بدت مؤشرا ثقافيا وسياسيا على التحول الجاري نحو مابعد الحداثة.
مابعد الحداثة والآخر
حقيقة مابعد الحداثة الاكثر بروزاً هي قبولها الكامل للعرضي المتشظي والمتقطع والفوضوي. لكن طريقة استجابة مابعد الحداثة للحقيقة تلك إنما تجري بطريقة خاصة، فهي لاتحاول تجاوزها ولا الهجوم عليها ولا حتى تعريف العناصر الثابتة والدائمة التي يمكن أن تقوم فيها، بل إنه واقع يسبح، ويتمرغ، في موجة من التشطئ والتغير كما لو كان ذلك هو كل مافي الأمر. فمن كتابات فوكو « خطاب السلطة » إلى ليوتار « ألعاب اللغة » نجد إدانة مشتركة لكل ماوراء الروايات Metanarratives وسعي مستمر للتشكيك فيها وكشف أساليبها القمعية الكامنة. دفعت أفكار فوكو حول الهجوم على ممارسات القمع الكثير من الحركات الاجتماعية العديدة التي نشأت في الستينات (النسائية، المثليون، التجمعات العرقية والدينية، ..). ومن هنا نجد الخاصية الأكثر جذباً فيما بعد الحداثة وهي الاهتمام ب »الآخر ». ففكرة حق كل الجماعات في التحدث عن نفسها، بصوتها الخاص، وقبول هذا الصوت كأمر حقيقي ومشروع هي الأساس في الموقف التعددي لما بعد الحداثة.إلا ان الغريب حقا -بحسب المؤلف- هو أن غالبية مثل هذه الحركات لا تولي نقاشات مابعد الحداثة إلا اهتماماً ضئيلا، بل إن بعض الحركات النسوية تظهر عدائية واضحة تجاه مابعد الحداثة.
فقدان الإحساس بالزمن وفقدان العمق كتمهيد لسلطة السوق على الثقافة
في ظل إنهياز زمني للأشياء، تتجنب مابعد الحداثة فكرة التقدم وتتخلى عن كل حس بالاستمرارية التاريخية والذاكرة، لكنها تبلور في الآن نفسه قابلية لا تصدق لنهب التاريخ وامتصاص كل ماتجد فيه وجها من وجوه الحاضر. وهذا الافتقار للاستمرارية التاريخية في القيم والمعتقدات يضاف إليه اختزال العمل الفني إلى مجرد نص رمزي متقطع في الزمن. فهذا في النتيجة يفرض على الحكم النقدي والجمالي مشكلات كثيرة. بحيث يبقى لمابعد الحداثة فقط « مشهدية المشهد » كمعيار الحكم بعد تدمير كل المعايير الثابتة للحكم الجمالي باعتبارها معايير سلطوية. أما الجانب الآخر لفقدان الإحساس بالزمن والبحث عن تأثير راهني فهو فقدان مواز للعمق ، ونجد هذين الملمحين فيما نلحظه من تشديد معاصر في الإنتاج الثقافي على الأحداث، والمشاهد والوقائع والصور الإعلامية.
وهذا الملمحين قد مهدا لامتداد سلطة السوق على سلسلة طويلة من المنتجات الثقافية. حيث كل هذا يساهم في تفسير اندفاع ثقافة مابعد الحداثة للاندماج بالثقافة الشعبية من خلال نمط الاستهلاك الصريح بل الفاقع الذي حاول الحداثيون تجنبه عبر مقاومتهم العميقة لفكرة تسليع إنتاجهم. وفي ظل هذا التحليل تتوسع المتاحف المتنامية وتزدهر صناعة التراث التي نشأت مطلع السبيعات لتضيف دفعاً شعبياً إلى تسليع التاريخ والأشكال الثقافية، حيث أن مابعد الحداثة و صناعة التراث على اتصال وثيق، إذ انهما تآمرا على خلق شاشة سطحية تحتل حياتنا الحاضرة وماضينا، فيصبح التاريخ حينها خلقاً راهناً وعرض أزياء وإعادة شرعنة أكثر مماهو خطاب نقدي.
الحداثة ومابعد الحداثة في التصميم المديني
وحتى يوضح المؤلف الفجوة بين التفكير الحداثي والتفكير مابعد الحداثي فقد اختار التصميم المديني والعمارة كمجال يوضح فيه هذه الفجوة والطلاق مع الفكر الحداثي. حيث ذهب التفكير الحداثي إلى ان التخطيط والتطوير يجب ان يركزا على خطط مدينية بمعايير كبرى وإنشاءات ضخمة وتصاميم ذات تقنية عقلانية وفعالة، على قاعدة عمارة خالية كليا من الزخرفة (سطوح وظيفية صارمة) أما مابعد الحداثة فتطور بدلا من ذلك مفهوماً للنسيج المديني يقوم على التشظي وعلى دفع شريط رقيق من الأنماط القديمة بعضها فوق بعض، وكولاج من الاستخدامات الراهنة والمؤقتة في معظمها. ولأن المدينة الكبيرة لاتحكم إلا في نتف وقطع صغيرة فإن التصميم المديني يهدف إلى مراعاة التقاليد المحلية والتواريخ المحلية والمطالب والحاجات والميول الخاصة لينتج أشكال معمارية معدلة على نحو عال. وربما يمكن ملاحظة الفرق الجذري بين التفكيرين الحداثي ومابعد الحداثي في كيفية اعتبار المكان. فالتفكير الحداثي يرى المكان شيئ يجري تطويعه لأغراض اجتماعية وتابعا بالتالي وباستمرار لطبيعة المشروع الاجتماعي، وبالمقابل ينظر مابعد الحداثي إليه باعتباره شيئا مستقلا في ذاته يجري تشكيله بحسب المبادئ والأهداف الجمالية التي ليس لها أن تتقاطع ضرورة مع أي مشروع اجتماعي طاغ. وباختصار فإن التخيل والتشظي والكولاج والانتقائية مع الإحساس بالعرضية والفوضى هي الأطروحات الأساسية ربما التي تهيمن اليوم على ممارسات العمارة والتصميم المديني وهو ما يجمعها بالتأكيد مع ممارسات مشابهة في حقول أخرى مثل الفن والادب والاجتماع وعلم النفس والفلسفة.
مابعد الحداثة من وجهة النظر الاقتصادية
في القسم الثاني من الكتاب يفصل المؤلف العلاقة الاقتصادية بمرحلة مابعد الحداثة. حيث يرى أن التغيرات الاقتصادية الكبيرة من مرحلة التراكم الرأسمالي إلى مرحلة التراكم المرن تفسير بشكل كبير الأوجه الأخرى لمابعد الحداثة.
يجادل المؤلف في هذا الفصل بأن مابعد الحداثة ليست سوى الوجه الآخر للطريقة التي تعمل بها الرأسمالية المعاصرة.
ففيما تميزت الفوردية التي يطلقها المؤلف على حقبة ازدهار مابعد الحرب أي من عام ١٩٤٥ إلى ١٩٧٣ بالصلابة وتقسيم العمل وكذلك تدخل الدولة في سن التشريعات، تميز « التراكم المرن » بمواجهة كل هذا، حيث يعتمد المرونة حيال إجراءات العمل وأسواق العمل والمنتجات وأنماط الاستهلاك. كما يتميز بنشوء ابتكارات وقطاعات جديدة تماما مثل أودية السيليكون والمنشآت الصغيرة وغيرها. دخلت سوق العمل في عملية إعادة هيكلة جذرية همشت من دور النقابات ودور الدولة نفسها إلى سوق مالية عالمية وأموال لا جنسية لها، خصوصا مع ازدهار التجارة الخارجية والشركات متعددة الجنسيات.
حل اقتصاد الفرص محل اقتصاد المعايير. وسمحت أنظمة الإنتاج المرنة هذه بسرعة أكبر في الركض خلف كل ماهو جديد في الانتاج مع ابتكار بنى جديدة عالية التخصص وأسواق صغيرة متخصصة كذلك. ففي ظل المنافسة الضارية صار الدفع لسبر غور مثل هذه الإمكانات أمراً جوهريا للبقاء على قيد الحياة كما انخفض الوقت اللازم العائد للإنتاج بشكل دراماتيكي من خلال إدخال لتقنيات جديدة في الانتاج. وخفض الوقت اللازم لعائد الإنتاج سيكون دون معنى إذا لم يترافق مع خفض مواز في الوقت اللازم للاستهلاك. وهكذا تلازم النظام التراكمي من جهة الاستهلاك مع عناية أكبر بالتغييرات السريعة جدا في الصورة والشكل، وتحريك كل وسائل الإغراء والجذب ، مع كل التحولات الثقافية الضرورية لذلك. لقد أخلت الأذواق المستقرة نسبياً أيام الحداثية الفوردية المسرح لكل مظاهر الإثارة ، وعدم الاستقرار واندفاعات أذواق مابعد الحداثة المولعة بالمختلف، والمؤقت ، والاستعراضي، والشكل ، وبتسليع المنتجات الثقافية.
وفي إشارة المؤلف لأهم العوامل الجديدة على التنظيم على هذا المستوى العالمي، أشار إلى أن المعلومات الدقيقة والحديثة تحولت سلعة ذات قيمة عالية. ويشمل ذلك كل أشكال المعلومات. وأما التطور الثاني فكان إعادة التنظيم الكاملة للنظام المالي العالمي ونشوء قوة مالية بالغة القوة ذات تنسيق مالي. وأما التحولات على المستوى الخارجي فكان اعتماد الولايات المتحدة على التجارة الخارجية والذي تضاعف مابين الفترة ١٩٧٣ و ١٩٨٠. وكان مجمل هذه التغيرات أن ينشأ صراع بين الدول الوطنية ورأس المال العابر للجنسيات. حيث تبدو الدولة الآن في وضع أكثر صعوبة وإشكالية.. حيث أنها مدعوة لتنظيم أنشطة رأس المال الموظف في الشركات في إطار ما يسمى بالمصلحة الوطنية إلا أنها ملزمة في الوقت نفسه وباسم المصلحة الوطنية بتوفير مناخ استثماري جيد.
وتقييم المؤلف النهائي لمابعد الحداثة كما يورده:
- اقتباس :
- « تقويمي التمهيدي هو: تترك الحركة بسبب من اهتمامها بالاختلاف وصعوبة التواصل وتعقيدات المصالح وفروقها الدقيقة والثقافات والأمكنة وماشابه تأثيراً إيجابياً بالتأكيد. فما وراء لغات الحداثية وماوراء نظرياتها وما وراء رواياتها (وبخاصة في تجلياتها المتأخرة) قفزة فوق اختلافات مهمة كثيرة وأخفقت في الانتباه إلى انقطاعات وتفاصيل مهمة. كانت مابعد الحداثة مهمة وبخاصة في الاعتراف ب « تعدد أشكال الآخر التي تظهرها الاختلافات في الشخصية والجندر والنشاط الجنسي والعرق والطبقة و »أشكال المعاني » العارضة والعابرة والمواقع المكانية الجغرافية والانتقالات ». كذلك يجب النظر إلى مابعد الحداثة كانعكاس للممارسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع. ولأنها تشبه هذه الممارسات من وجوه عدة فهي تظهر بدورها في وجوه مزيفة عدة. ومن الخطورة بمكان الافتراض سلفاً ان مابعد الحداثة هي مجرد محاكاة أو انعكاس أكثر من كونها إضافة أصيلة في السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية… ومع ذلك فمابعد الحداثة تنظر إلى ذاتها على نحو أكثر بساطة: فهي في الأعم حركة تستهدف ، حتى الفوضى ، تجاوز أمراض الحداثية.
ولكن..
هي تذهب بعيدا وإلى الحد الذي لا يبقى أي تماسك في الموقف السياسي، بينما جناح منها لا يتورع عن الطلب علانية التكيف مع آليات السوق في شكل ثقافة مقاولات ، على نحو ما تدعو إليه النزعة الرجعية المحافظة الجديدة. وفلاسفة مابعد الحداثة لا يدعوننا فقط إلى قبول تشظي الأصوات في العالم الحديث وتنافرها، وإنما إلى الاستمتاع بذلك باعتباره الطريق لفهم مشكلات العالم. وفي ذروة ولعهم واستمتاعهم بالتفكيك والتشكيك بكل معنى وبكل منطق، فهم إنما ينتهون إلى التشكيك في صدق دعواهم هم أنفسهم، بحيث لا يبقى مكان لعمل عقلاني أو لأي عمل ذي معنى. وحين تدعونا حركة مابعد الحداثة إلى قبول التشيؤ والتشظي الحاصلين فهي إنما تدعونا عمليا إلى الاحتفال بكل آليات التزييف القائمة والتغطية على انحرافات الشغف المشبوه بما هو بلدي ومحلي ومتعصب، بينما هي تدين بالمقابل ذلك الشكل من النظريات الشمولية القادرة على التقاط العمليات السياسية – الاقتصادية (كحركة المال والتقسيم العالمي للعمل والأسواق المالية وسواها) التي باتت من حيث تغلغلها وكثافتها ومداها وسلطتها مهيمنة باطراد على الحياة اليومية على مستوى العالم. والأكثر سوء من ذلك كله هو ان التفكير مابعد الحداثي ، إذ يفتح آفاقا بالاعتراف بتعدد الأصوات، يعود فوراً ليقفل على تعددية الأصوات هذه مانعاً إياها من الوصول إلى مصادر القوة والسلطة من خلال الحجر عليها داخل أسوار الآخر الذي لا نفاذ إليه، وبإحالة الأمر كله إلى مجرد ألعاب لغوية. وهي بذلك إنما تجرد عمليا هذه الأصوات من كل قوة فعلية لها في عالم تتحكم به العلاقات غير المتكافئة.