أين ذهبت كل تلك الزهور؟*
تأملات في روح الستينات وإرثها
فريتيوف كابرا**
ترجمة: محمد الطبل
كانت حقبة الستينات الفترة التي شهدت فيها حياتي التحول الشخصي الأكثر عمقًا وجذرية. وبالنسبة لأولئك الذين يتماهون مع الحركات الثقافية والسياسية في الستينات، لا تمثل تلك الفترة كثيرًا ذلك العَقد بوصفه حالة من الوعي، تتسم بالتوسع "العابر للشخصية"، والتشكيك بالسلطة، والشعور بالتمكين، وتجربة الجمال الحسي، والانتماء للمجتمع.
تغلغلت هذه الحالة من الوعي في حقبة السبعينات. وفي الواقع، يمكن القول بأن حقبة الستينات لم تنته سوى في كانون الأول عام 1980، مع الرصاصة التي قتلت جون لينون. كان الشعور الهائل بالخسارة الذي شعر به الكثيرون منا شعورًا بخسارة حقبة، إلى حدٍّ كبير. ولبضعة أيام بعد إطلاق النار المميت، عشنا مجددًا سحر الستينات. فعلنا ذلك بالحزن والدموع، ولكن الشعور بالافتتان نفسه والانتماء للمجتمع عاد للحياة مجددًا. فأنَّى ذهبت خلال تلك الأيام القليلة – في كل حيٍّ، وفي كل مدينة، وفي كل بلد حول العالم - كنت تسمع موسيقى جون لينون، وتجلت المثالية الشديدة التي ميزتنا إبان الستينيات مرة أخرى:
قد تقولون إنني حالم،
لكنني لست الوحيد.
آمل أن تنضموا إلينا يومًا ما
وسوف يعيش العالم متحدًا.
سأحاول في هذا المقال استحضار روح تلك الفترة الرائعة، وتحديد سماتها المميزة، وتقديم إجابة على بعض الأسئلة التي غالبًا ما تطرح في الوقت الحاضر: ماذا حدث للحركات الثقافية في الستينات؟ ماذا حققت؟ وما هو إرثها، إذا كان ثمة إرث؟
انتشار الوعي هيمن على حقبة الستينات انتشار للوعي في اتجاهين. فتبنت الحركة الأولى نوعًا جديدًا من الروحانية، هو أقرب إلى التقاليد الصوفية للشرق، في رد فعل على المادية والعلمانية المتزايدة في المجتمع الغربي. وشمل ذلك انتشار الوعي تجاه التجارب التي تنطوي على أنماط غير مألوفة من الإدراك، والتي عادة ما تتحقق من خلال التأمل، بيد أنها قد تحدث أيضًا في سياقات أخرى مختلفة، والتي بدأ يطلق عليها علماء النفس آنذاك: "العابرة للشخصية". لعبت العقاقير المخدرة دورًا هامًا في تلك الحركة، تمامًا كما فعل تعزيز حركة الإمكانات البشرية للإدراك الحسي المنتشر، الأمر الذي تلخصه الموعظة التالية: "اخرج من رأسك وادلف إلى حواسك"!
ومن ثم، فإن أول انتشار للوعي كان حركة تتجاوز المادية تجاه روحانية جديدة، وتتجاوز الواقع العادي عبر التجارب التأملية والمخدرة (psychedelic، السايكيديليكية)، وتتجاوز العقلانية من خلال الإدراك الحسي المنتشر. وكان الأثر المشترك إحساس مستمر بالسحر، والرعب، والدهشة، يرتبط بالنسبة للكثيرين منا مع حقبة الستينات إلى الأبد.
التشكيك بالسلطة وكانت الحركة الأخرى انتشار الوعي الاجتماعي، الذي فجَّره تشكيك جذري بالسلطة. وحدث هذا على نحو مستقل في العديد من المناطق. وفي حين طالبت حركة الحقوق المدنية الأمريكية بانخراط المواطنين السود في العملية السياسية، طالبت حركة حرية التعبير في بيركلي، والحركات الطلابية في الجامعات الأخرى في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا بالمطلب ذاته للطلاب.
في أوروبا، توجت هذه الحركات الثورة المشهودة لطلاب الجامعات الفرنسية التي لا تزال معروفة ببساطة باسم "أيار 68". خلال ذلك الوقت، توقفت جميع أنشطة التدريس والأبحاث تمامًا في معظم الجامعات الفرنسية حين طال نقد الطلاب، بقيادة دانيال كوهن بنديت، المجتمع ككل، وسعوا لنيل تضامن الحركة العمالية الفرنسية بغية تغيير النظام الاجتماعي برمته. ولمدة ثلاثة أسابيع، شلَّ إضراب عام إدارات باريس ومدن فرنسية أخرى، وحركة النقل العام، ومختلف الشركات. وفي باريس، قضى الناس معظم وقتهم في مناقشة السياسة في الشوارع، في حين عقد الطلاب حلقات نقاش استراتيجية في جامعة السوربون، وجامعات أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، احتلوا الأوديون، وهو المسرح الفسيح للكوميديا الفرنسية، وحولوه إلى "برلمان الشعب" على مدار 24 ساعة، حيث ناقشوا رؤاهم المحفزة للنظام الاجتماعي في المستقبل، رغم شدة مثاليتها.
وكان عام 1968 أيضًا عام "ربيع براغ" المشهور، الذي شكك المواطنون التشيك إبانه، تحت قيادة ألكسندر دوبتشيك، بسلطة النظام السوفياتي، مما أثار انزعاج الحزب الشيوعي السوفيتي إلى حد أنه، وبعد بضعة أشهر، سحق عمليات إرساء الديمقراطية التي بدأت في براغ بغزوه الوحشي لتشيكوسلوفاكيا.
وفي الولايات المتحدة، أصبحت المعارضة لحرب فيتنام نقطة حشد سياسي للحركة الطلابية والثقافة المضادة، حيث أجَّجَت حركة ضخمة مناهضة للحرب، والتي مارست نفوذًا كبيرًا على الساحة السياسية الأميركية، وأدت إلى العديد من الأحداث المشهودة، بما في ذلك قرار الرئيس جونسون عدم الترشح لولاية جديدة، والاتفاقية الديمقراطية لعام 1968 في شيكاغو، وفضيحة ووترغيت، واستقالة الرئيس نيكسون.
إحساس جديد بالانتماء للمجتمع في حين شككت حركة الحقوق المدنية بسلطة المجتمع الأبيض، وشككت الحركات الطلابية بسلطة جامعاتها بشأن القضايا السياسية، بدأت الحركة النسائية بالتشكيك بالسلطة الأبوية؛ وقوض علماء النفس الإنسانيون سلطة الأطباء والمعالجين؛ وانهارت المواقف البيوريتانية تجاه الحياة الجنسية، والتي كانت نموذجية للثقافة الأميركية، بفعل الثورة الجنسية الناجمة عن توافر حبوب منع الحمل.
أدى التشكيك الجذري بالسلطة، وانتشار الوعي الاجتماعي والوعي العابر للشخصية إلى ثقافة كاملة جديدة - وهي "الثقافة المضادة" - التي عرَّفت نفسها بالتضاد مع الثقافة المهيمنة "المباشرة"، من خلال تبني مجموعة مختلفة من القيم. تعاضد أعضاء هذه الثقافة البديلة بفعل الإحساس القوي بالانتماء للمجتمع، وكان يُطلِقُ عليهم الدخلاء: "الهيبيون"، لكنهم نادرًا ما كانوا يستخدمون هذا المصطلح للتعريف بأنفسهم. ولتمييز أنفسنا عن قصة الشعر وبذلات البوليستر التي كانت تميز مدراء الشركات في تلك الحقبة، ارتدينا الشعر الطويل، والملابس الملونة والفردية، والزهور، والخرز، ومجوهرات أخرى. كان العديد منا نباتيين، وغالبًا ما كنا نخبز بأنفسنا، ونمارس اليوغا أو أي شكل من أشكال التأمل، وتعلمنا العمل بأيدينا في مختلف الحرف اليدوية.
كان يمكن، بآن واحد، تحديد ثقافتنا الفرعية فورًا، والالتزام بها بصرامة. وكان لها طقوسها الخاصة، وموسيقاها، وشعرها، وأدبها؛ افتتان مشترك بالروحانية والغيبية؛ ورؤية مشتركة لمجتمع مسالم وجميل. كانت موسيقى الروك والعقاقير المخدرة الروابط القوية التي أثرت بشدة على فن ثقافة الهيبيين وأسلوب حياتهم. وبالإضافة إلى ذلك، تم التعبير عن الحميمية، والمسالمة، والثقة التي ميزت مجتمعات الهيبيين عن طريق العري، والجنس الجماعي المستهتر، وممارسة الحياة الجنسية بحرية. وفي بيوتنا، كنا كثيرًا ما نحرق البخور، ونحتفظ بمذابح صغيرة مع مجموعات منتقاة من تماثيل الآلهة والإلهات الهنود، متأملين تماثيل بوذا، وسيقان يارو أو العملات المعدنية لقراءة الطالع، وشتى الأغراض الشخصية "المقدسة".
وعلى الرغم من أن شتى فروع حركة الستينات نشأت على نحو مستقل، وغالبًا ما بقيت حركات متمايزة عن بعضها مع تداخل طفيف لعدة سنوات، إلا أنها أصبحت في نهاية المطاف على دراية ببعضها البعض، وأبدت تضامنًا متبادلاً، واندمجت تقريبًا في ثقافة فرعية واحدة إبان السبعينات. وبحلول ذلك الوقت، كانت العقاقير المخدرة، وموسيقى الروك، وأزياء الهيبيين قد تجاوزت الحدود الوطنية وأقامت روابط قوية في أوساط الثقافة المضادة الدولية. احتشدت قبائل الهيبيين متعددة الجنسيات في عدة مراكز للثقافة المضادة – في لندن، وأمستردام، وسان فرانسيسكو، وقرية غرينتش - وكذلك في مدن نائية وغريبة أكثر، مثل مراكش وكاتماندو. وأدت هذه التبادلات المتكررة بين الثقافات المختلفة إلى نشوء "إدراك عالمي بديل" قبل فترة طويلة من بزوغ العولمة الاقتصادية.
موسيقى الستينات تجلت روح حقبة الستينات في عدة أشكال فنية، والتي غالبًا ما كانت تنطوي على ابتكارات جذرية، وتستوعب شتى جوانب الثقافة المضادة، وتعزز العلاقات المتعددة في أوساط المجتمع الدولي البديل.
كانت موسيقى الروك الأقوى بين هذه الروابط الفنية. قوضت فرقة البيتلز سلطة الاستوديوهات وكتاب الأغاني من خلال تأليف موسيقاها وكلمات أغانيها، وإبداع أنواع موسيقية جديدة، وتأسيس شركات إنتاج خاصة بها. وأثناء القيام بذلك، دمجت في موسيقاها وأسلوب حياتها عدة أوجه من انتشار الوعي المميز لتلك الفترة.
عبر بوب ديلان عن روح الاحتجاجات السياسية بالشعر العظيم والموسيقى التي غدت أنشودة الستينات. وكانت فرقة الرولينغ ستونز تمثل لامبالاة الثقافة المضادة، والحماس، والطاقة الجنسية، في حين عبر مشهد فرقة "أسيد روك" من سان فرانسيسكو عن تجاربها السايكيديلكية (المخدرة).
وفي الوقت نفسه، حطم "الجاز الحر" لجون كولترين، وأورنيت كولمان، وصن را، وآرتشي شيب، وآخرين الأشكال التقليدية لارتجال موسيقى الجاز، وعبَّر عن الروحانية، والشعر السياسي الجذري، ومسرح الشارع، وسائر عناصر الثقافة المضادة. ومثل موسيقيي الجاز، حطَّم المؤلفون الموسيقيون الكلاسيكيون، مثل كارلهاينز شتوكهاوزن في ألمانيا، وجون كيج في الولايات المتحدة الأشكال الموسيقية التقليدية ودمجوا في موسيقاهم الكثير من عفوية الستينات وانتشار الوعي.
أدى افتتان الهيبيين بالفلسفات الهندية الدينية، والفن، والثقافة إلى إقبال كبير على الموسيقى الهندية. وشملت معظم المجموعات المسجلة آنذاك ألبومات رافي شانكار، وعلي أكبر خان، وسائر أساطين الموسيقى الهندية الكلاسيكية، جنبًا إلى جنب مع موسيقى الروك، والموسيقى الشعبية، وموسيقى الجاز، والبلوز.
تجلت التعابير البصرية لثقافة الروك والعقاقير المخدرة في الستينات بملصقات المخدرات في حفلات موسيقى الروك الأسطورية في تلك الحقبة، وخاصة في سان فرانسيسكو، وعلى أغلفة الألبومات الفائقة الروعة التي غدت أيقونات دائمة للثقافة الفرعية في الستينات. كما قدمت عدة حفلات روك "عروض الضوء" - وهي شكل مستحدث من أشكال فن "السايكيديلك" الذي كانت تعرض فيه صور للأشكال متعددة الألوان والنابضة والمتغيرة على الجدران والسقوف. خلقت هذه الصور البصرية محاكاة فعالة للغاية للتجارب السايكيديلكية، جنبًا إلى جنب مع موسيقى الروك الصاخبة.
الأشكال الأدبية الجديدة تجلت أدوات التعبير الرئيسة لشعر الستينات في كلمات أغاني موسيقى الروك والموسيقى الشعبية. بالإضافة إلى ذلك، فإن "شعر البيت""beat poetry" ، لألن غينسبرغ ولورنس فيرلينغيتي وغاري سنايدر وآخرين، والذي كان قد نشأ قبل عقد من الزمان وتقاسم العديد من السمات مع الأشكال الفنية للستينات، بقي شعبيًا في الثقافة المضادة.
كانت "الواقعية السحرية" أحد الأشكال الأدبية الجديدة الرئيسة لأدب أمريكا اللاتينية. ومزج كتاب مثل خورخي لويس بورخيس وغابرييل غارسيا ماركيز وصفًا لمشاهد واقعية مع عناصر خيالية وسريالية، واستعارات ميتافيزيقية، وصور أسطورية في قصصهم القصيرة ورواياتهم. وكان هذا النوع مثاليًا لافتتان الثقافة المضادة بالحالات المتغيرة للوعي والإحساس الطاغي بالسحر.
بالإضافة إلى الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية، أضفت روايات الخيال العلمي سحرًا كبير على شباب الستينات، لا سيما سلسلة روايات "الكثبان" التي كتبها فرانك هربرت، وكذلك الأمر بالنسبة لكتابات الخيال التي كتبها جي. آر. آر. تولكين، وكورت فونيغوت. كما تحول الكثيرون منا إلى الأعمال الأدبية للماضي، مثل الروايات الرومانسية لهيرمان هيسه التي رأينا فيها انعكاسات لتجاربنا الخاصة.
وكانت الكتابات الشامانية شبه الخيالية لكارلوس كاستانيدا، والتي أرضت توق الهيبيين للروحانية و"الانفصال عن الواقع" بوساطة العقاقير المخدرة، على نفس القدر من الشعبية، إن لم يكن أكثر. بالإضافة إلى ذلك، جسدت اللقاءات المثيرة بين كارلوس وساحر الياكي دون جوان بطريقة قوية التباينات بين المقاربة العقلانية للمجتمعات الصناعية الحديثة وحكمة الثقافات التقليدية.
السينما والفنون المسرحية في الستينات، شهدت الفنون المسرحية ابتكارات جذرية كسرت كل تقليد يمكن تخيله من تقاليد المسرح والرقص. وفي الواقع، غالبًا ما كان المسرح والرقص يندمجان ويتحدان مع أشكال أخرى من الفن في شركات مثل ليفينغ ثياتر، وجودسون دانس ثياتر، وسان فرانسيسكو مايم تروب. وتضمنت العروض ممثلين متدربين وراقصين، فضلاً عن الفنانين التشكيليين، والموسيقيين، والشعراء، والسينمائيين، وحتى أفرادًا من الجمهور.
وغالبًا ما كان الرجال والنساء يتمتعون بمنزلة متساوية؛ فقد كان العري مألوفًا. ولم تكن تجري العروض، التي غالبًا ما كانت تحمل مضمونًا سياسيًا قويًا، في المسارح فقط، ولكن أيضًا في المتاحف، والكنائس، والحدائق العامة، وفي الشوارع. اتحدت جميع هذه العناصر لتخلق انتشارًا هائلاً للخبرة وإحساسًا قويًا بالانتماء للمجتمع، الأمر الذي كان نموذجيًا للثقافة المضادة.
كما كانت الأفلام وسيلة مهمة للتعبير عن روح العصر في الستينات. وعلى نحو مشابه للمسرحيين، انفصل سينمائيو الستينات، بدءًا من رواد سينما الموجة الجديدة الفرنسية، عن التقنيات التقليدية لفنهم، آخذين بمقاربات وسائط متعددة، وغالبًا متخلين عن الروايات تمامًا، ومستخدمين أفلامهم لمنح صوت صارخ للنقد الاجتماعي.
ومع أساليبهم المبتكرة، عبر هؤلاء السينمائيون عن العديد من السمات الرئيسة للثقافة المضادة. فعلى سبيل المثال، يمكننا العثور على لامبالاة الستينات والاحتجاج السياسي في أفلام غودار؛ والتشكيك بالمادية والشعور الطاغي بالاغتراب في أفلام أنطونيوني؛ والتشكيك بالنظام الاجتماعي والسمو عن الواقع العادي في أفلام فلليني؛ وفضح النفاق الطبقي في أفلام بونويل؛ والنقد الاجتماعي والرؤى الطوباوية في أفلام كوبريك؛ وتحطيم الصور النمطية للجنس والنوع في أفلام وارهول؛ وتصوير حالات الوعي المتغيرة في أعمال السينمائيين التجريبية مثل كينيث أنغر وجون ويتني. بالإضافة إلى ذلك، تتميز أفلام هؤلاء المخرجين بإحساس رفيع بالواقعية السحرية.
إرث الستينات لقد تقبلت شرائح واسعة مناصرة للثقافة السائدة العديد من أشكال التعبير الثقافي التي كانت متطرفة وهدامة في الستينات إبان العقود الثلاثة اللاحقة. ومن الأمثلة على ذلك الشعر الطويل وأزياء الستينات، وممارسة الأشكال الشرقية من التأمل والروحانية، والاستخدام الترفيهي للماريغوانا، والحرية الجنسية المتزايدة، ورفض الصور النمطية للجنس والنوع، واستخدام موسيقى الروك (والراب مؤخرًا) للتعبير عن القيم الثقافية البديلة. وكانت كل هذه أشكالاً من التعبير عن الثقافة المضادة التي تم تسخيفها، وقمعها، وحتى اضطهادها ذات مرة من قبل المجتمع السائد المهيمن.
وإذا ما تجاوزنا أشكال التعبير المعاصرة عن القيم والجماليات التي شاركتها الثقافة المضادة في الستينات، يعد إنشاء ثقافة عالمية بديلة تتشارك مجموعة من القيم الأساسية، وازدهارها لاحقًا، الإرث الأكثر أهمية وديمومة في تلك الحقبة.
ورغم أن الحركات الثقافية في السبعينات، والثمانينات، والتسعينات جسدت العديد من هذه القيم، مثل حماية البيئة، والنسوية، وحقوق مثليي الجنس، والعدالة العالمية، فإن الثقافة المضادة للستينات كانت السباقة في التعبير عن جوهرها الأساسي لأول مرة. بالإضافة إلى ذلك، يعزو العديد من كبار الناشطين التقدميين السياسيين الحاليين، والكتاب، وقادة المجتمع المحلي جذور إلهامهم الأصلي إلى الستينات.
السياسة الخضراء في الستينات، شككنا بالمجتمع المهيمن وعشنا وفقًا لقيم مختلفة، بيد أننا لم نعبر عن نقدنا بطريقة متماسكة ومنهجية. كانت لدينا انتقادات ملموسة بشأن قضايا بعينها، مثل حرب فيتنام، بيد أننا لم نطور أي نظام شامل بديل من القيم والأفكار. واستند نقدنا إلى الشعور البديهي؛ عشنا احتجاجنا وجسدناه بدلاً من تفعيله ومنهجته.
وحدت السبعينات رؤانا. ففي حين تلاشى سحر الستينات تدريجيًا، مهدت الشرارة الأولى الطريق لفترة من التركيز، والاستيعاب، والاندماج. وظهرت حركتان ثقافيتان جديدتان إبان السبعينات: الحركة الإيكولوجية والحركة النسوية، ووفرتا معًا الإطار العام اللازم لنقدنا وأفكارنا البديلة.
لم تكن الحركة الطلابية الأوروبية، ذات التوجه الماركسي إلى حد كبير، قادرة على تحويل الرؤى المثالية إلى واقع إبان الستينات. ولكنها أبقت اهتماماتها الاجتماعية حية إبان العقد اللاحق، في حين مر العديد من أعضائها بتحولات شخصية عميقة. ووسع هؤلاء الأعضاء من "اليسار الجديد" آفاقهم دون فقدان وعيهم الاجتماعي، متأثرين بالموضوعين السياسيين الرئيسين في السبعينات، وهما النسوية والإيكولوجية. وفي نهاية العقد، أصبح كثير منهم قادة للأحزاب الاشتراكية المحولة. ففي ألمانيا، شكل هؤلاء "الاشتراكيون الشباب" تحالفات مع علماء البيئة والحركات النسائية، وناشطي السلام، ومن هؤلاء انبثق "حزب الخضر"، وهو حزب سياسي جديد أعلن أعضاؤه بثقة: "لسنا في اليسار ولا اليمين؛ نحن في المقدمة".
إبان الثمانينات والتسعينات، أصبحت الحركة الخضراء سمة دائمة من سمات المشهد السياسي الأوروبي، ويشغل حزب الخضر الآن مقاعد عديدة في البرلمانات الوطنية والإقليمية حول العالم. وهم يجسدون القيم الأساسية السياسية لحقبة الستينات.
نهاية الحرب الباردة إبان السبعينات والثمانينات، توسعت الحركة المناهضة للحرب الأمريكية لتشمل الحركات المناهضة للأسلحة النووية، وحركات السلام، تضامنًا مع الحركات المماثلة في أوروبا، لا سيما في المملكة المتحدة وألمانيا الغربية. وأدى هذا، بدوره، إلى بزوغ حركة سلام قوية في ألمانيا الشرقية، بقيادة الكنائس البروتستانتية، التي حافظت على اتصالات منتظمة مع حركة السلام في ألمانيا الغربية، وخاصة مع "بترا كيلي"، الزعيم الكاريزماتي لـ "حزب الخضر الألماني".
عندما تولى ميخائيل غورباتشوف السلطة في الاتحاد السوفياتي عام 1985، كان يدرك تمامًا قوة حركة السلام الغربية، وقبل حجتنا حول أن الحرب النووية لا يمكن كسبها وينبغي عدم خوضها. لعب هذا الإدراك دورًا مهمًا في "التفكير الجديد" لغورباتشوف وإعادة هيكلة النظام السوفياتي (البيروسترويكا)، والتي أدت، في نهاية المطاف، إلى سقوط جدار برلين، والثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا، ونهاية الشيوعية السوفيتية.
تعد جميع النظم الاجتماعية والسياسية غير خطية للغاية، ولا تصلح لتحليلها من حيث السلاسل الخطية للسبب والنتيجة. ومع ذلك، تبين دراسة متأنية عن تاريخنا الحديث أن العنصر الأساسي في خلق المناخ الذي أدى إلى نهاية الحرب الباردة لم يكن الاستراتيجية المتشددة التي انتهجتها إدارة ريغان، كما تزعم أساطير المحافظين، ولكن حركة السلم العالمية. ومن الواضح أن هذه الحركة لها جذورها السياسية والثقافية في الحركات الطلابية والثقافة المضادة في الستينات.
ثورة تكنولوجيا المعلومات تمخض العقد الأخير من القرن العشرين عن ظاهرة عالمية أدهشت معظم المراقبين الثقافيين. فقد نشأ عالم جديد تسوده تكنولوجيات جديدة، وبنى اجتماعية جديدة، واقتصاد جديد، وثقافة جديدة. وأصبحت "العولمة" المصطلح المستخدم لتلخيص التغيرات الاستثنائية والزخم الذي لا يقاوم على ما يبدو، واللذان شعر بهما ملايين الناس في الوقت الحاضر.
إن السمة المشتركة للجوانب المتعددة للعولمة هي شبكة المعلومات والاتصالات العالمية التي تعتمد على تكنولوجيات ثورية جديدة. وتعد ثورة تكنولوجيا المعلومات نتيجة للدينامية المعقدة للتفاعلات التكنولوجية والبشرية، والتي تمخضت عنها الآثار التآزرية في ثلاثة مجالات رئيسة للإلكترونيات - أجهزة الكمبيوتر، والإلكترونيات الدقيقة، والاتصالات السلكية واللاسلكية. وحدثت جميع الابتكارات الرئيسة التي خلقت البيئة الإلكترونية الجديدة الأساسية للتسعينات منذ 20 سنة مضت، أي إبان السبعينات.
قد يكون من المستغرب للكثيرين أن جذور ثورة تكنولوجيا المعلومات متأصلة في الثقافة المضادة في الستينات، كما هو الحال بالنسبة للعديد من الحركات الثقافية الأخيرة. أطلق شرارة هذه الثورة التطور التكنولوجي المذهل الذي شكل نقلة من تخزين البيانات ومعالجتها في آلات معزولة وكبيرة إلى الاستخدام التفاعلي للكمبيوترات الدقيقة ومشاركة سلطة الكمبيوتر في الشبكات الإلكترونية. وقد قاد هذا التحول هواة التكنولوجيا الشباب الذين تبنوا جوانب كثيرة من الثقافة المضادة، التي كانت لا تزال مفعمة بالحياة آنذاك.
اخترع ستيف وزنياك وستيف جوبس، المتسربين من الجامعة، أول كمبيوتر صغير ناجح تجاريًا عام 1976 في كراجهم، الأسطوري الآن، بسيليكون فالي. وأدخل هؤلاء المخترعون الشباب، وآخرون مثلهم، مواقف اللامبالاة، وأساليب الحياة الحرة، والشعور القوي بالانتماء للمجتمع التي كانوا قد اعتنقوها في الثقافة المضادة إلى بيئات العمل الخاصة بهم. وبالقيام بذلك، خلقوا أساليب عمل غير رسمية، ومنفتحة، ولامركزية، وتعاونية نسبيًا، والتي أصبحت سمة لتكنولوجيات المعلومات الجديدة.
الرأسمالية العالمية ومع ذلك، لم تنعكس المثل العليا لرواد التكنولوجيا الشباب من جيل السبعينات في الاقتصاد العالمي الجديد الذي انبثق عن ثورة تكنولوجيا المعلومات بعد 20 عامًا. على العكس من ذلك، ما برزَ كان ماديةً جديدةً، وجشعًا مفرطًا للشركات، وصعودًا هائلاً للسلوك غير الأخلاقي بين قادة الشركات وقادة السياسية. وتعد هذه المواقف الضارة والمدمرة نتائج مباشرة لشكلٍ جديد من الرأسمالية العالمية، تتمحور إلى حد كبير حول الشبكات الإلكترونية للتدفقات المالية والإعلامية. وما يسمى "السوق العالمية" هو شبكة آلات مبرمجة وفقا للمبدأ الأساسي القائل بأن جني المال ينبغي أن يكون له الأسبقية على حقوق الإنسان، والديمقراطية، وحماية البيئة، أو أي قيمة أخرى.
ولأن الاقتصاد الجديد منظم وفقًا لهذا المبدأ الرأسمالي الجوهري، فإنه ليس من المستغرب أنه قد أنتج العديد من الآثار الضارة المترابطة التي تتناقض بحدة مع المثل العليا للحركة الخضراء العالمية: زيادة التفاوت الاجتماعي، والإقصاء الاجتماعي، وانهيار الديمقراطية، ومزيد من التدهور السريع والشامل للبيئة الطبيعية، وازدياد الفقر والعزلة. لقد هددت الرأسمالية العالمية الجديدة ودمرت المجتمعات المحلية في جميع أنحاء العالم؛ وبسعيها وراء التكنولوجيا الحيوية سيئة التخطيط، فقد غزت قدسية الحياة من خلال محاولة تحويل تنوع المحاصيل إلى زراعة أحادية، والبيئة إلى الهندسة، والحياة نفسها إلى سلعة.
أصبح من الواضح على نحو متزايد أن الرأسمالية العالمية في شكلها الحالي غير قابلة للاستمرار، وتحتاج إلى إعادة تصميم بصورة جذرية. وفي الواقع، فإن العلماء، وقادة المجتمعات المحلية، والناشطين على مستوى القاعدة في جميع أنحاء العالم يرفعون الآن أصواتهم مطالبين بوجوب "تغيير قواعد اللعبة"، واقتراح سبل ملموسة للقيام بذلك.
المجتمع المدني العالمي في مطلع هذا القرن، تشكل تحالف عالمي ضخم من المنظمات غير الحكومية يتزعم معظمها رجال ونساء ذوو جذور ضاربة في الستينات، وتمحور هذا التحالف حول القيم الأساسية للكرامة البشرية والاستدامة الإيكولوجية. وفي عام 1999، تواصلت المئات من هذه المنظمات الشعبية إلكترونيًا لعدة أشهر بغية التحضير لأعمال احتجاج مشتركة في اجتماع منظمة التجارة العالمية في سياتل. كان "ائتلاف سياتل"، كما يطلق عليه الآن، ناجحًا للغاية في عرقلة اجتماع منظمة التجارة العالمية وفي تعريف العالم بوجهات نظره. وغيرت أفعاله المتضافرة المناخ السياسي حول قضية العولمة الاقتصادية على نحو دائم.
ومذ ذاك، نظم ائتلاف سياتل، أو "حركة العدالة العالمية"، مزيدًا من الاحتجاجات، فضلاً عن عقد عدة اجتماعات للمنتدى الاجتماعي العالمي في بورتو أليغري بالبرازيل. وفي ثاني هذه الاجتماعات، اقترحت المنظمات غير الحكومية مجموعة كاملة من السياسات التجارية البديلة، بما في ذلك مقترحات ملموسة وجذرية لإعادة هيكلة المؤسسات المالية العالمية، والتي من شأنها إحداث تغيير جذري في طبيعة العولمة.
تمثل حركة العدالة العالمية نوعًا جديدًا من الحركات السياسية النموذجية لعصر المعلومات. فالمنظمات غير الحكومية في الائتلاف قادرة على التواصل مع بعضها البعض، وتبادل المعلومات، وتعبئة أعضائها بسرعة فائقة بسبب مهارة استخدامها لشبكة الإنترنت. ونتيجة لذلك، ظهرت المنظمات غير الحكومية العالمية الجديدة كجهة تقليدية فاعلة مستقلة عن المؤسسات الوطنية أو الدولية التقليدية. وهي تشكل نوعًا جديدًا من المجتمع المدني العالمي.
ويعد هذا الشكل الجديد للمجتمع العالمي البديل الذي يتشارك القيم الأساسية، والاستخدام المكثف للشبكات الإلكترونية، بالإضافة إلى كثرة الاتصالات البشرية، أحد أهم جوانب إرث الستينات. وإذا ما نجح في إعادة تشكيل العولمة الاقتصادية بحيث تتماشى مع قيم الكرامة الإنسانية والاستدامة الإيكولوجية، فإن أحلام " ثورة الستينات" تكون قد تحققت:
تخيل أن لا ممتلكات،
أتساءل عما إذا كنت تستطيع،
لا حاجة للجشع أو الجوع،
الأخوة بين البشر.
تخيل كل الناس
يتشاركون العالم بأسره...
قد تقولون إنني حالم،
لكنني لست الوحيد.
آمل أن تنضموا إلينا يومًا ما
وسوف يعيش العالم متحدًا.