أول من يعبر الجسر تحمل الزهور إلى قبرها
وتبكي من شدة الشعر
رولا حسن
بعد هزيمة 1967 ومن ثم كشف زيف ادعاء الخطاب السياسي والشعري المواكب له، اتسعت الهوة بين المثقف والمبدع من ناحية والسلطة من ناحية أخرى، ولم يعد أمام الكتابة العربية سوى أن ترفع شعار الحداثة بديلاً للمشروع التجريدي،
وأن تعلن وربما للمرة الأولى في العصر الحديث وحسب الناقد عبد العزيز الموافي انفصالها عن جهاز السلطة وعن سلطتها السحرية الماضوية اللغوية وارتمائها في حضن التاريخ فالكتابة «والكلام يعود للموافي- التي لا تشير إلى أزمة الذاكرة النهضوية وضرورة التخلص من علاقاتها المواربة- المتواطئة مع السلطة لم يعد لها أي مكان لأنها صارت اجتراراً لما اختبرنا فيه العجز والانحطاط».
نماذج شعرية مفارقة
في هذه الأثناء كانت الظروف مهيأة لظهور نماذج شعرية مفارقة على مستويي الشكل والمضمون، كما أصبحت الأرض ممهدة لاستقبال الخارج على المألوف، وكانت هناك تجارب تستدعي التجريب لمواجهة اليقين الكلاسيكي وتعول على التجريد في مواجهة الوضوح الذي لم يؤد سوى إلى المباشرة والخطابية التي غص بها الشعر العربي فترات طويلة.
يمكن القول هنا: إن التجريب كان بمنزلة تدمير لكل الثوابت بينما كان التجريد خروجاً على كل المرجعيات المستقرة داخل الذاكرة الشعرية العربية، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لم يكن الهدف سواء من التجريب أو التجريد هو تأسيس ثوابت أو مرجعيات جديدة، لكن لتأسيس النقيض لهما، ذلك الذي يتجاوز نفسه باستمرار ويهدم لحظات الاستقراء والركون إلى اكتشاف أجوبة نهائية وأبدية.
في هذا المجال يمكن التحدث عن ثلاث تجارب مهمة في الشعر النسوي السوري لها الريادة في هذا المجال، لكل تجربة مذاقها ونكهتها، ولها في الوقت ذاته طريقها الخاص الذي سلكته في درب الحداثة الشعرية، وكانت إذا صح القول كل واحدة منها «أول من يعبر الجسر» وهذه التجارب هي تجربة للشاعرة سنية صالح وتجربة الشاعرة دعد حداد وتجربة الشاعرة أمل الجراح...
تصحيح خطأ الموت
هنا سأخص بالحديث تجربة الشاعرة دعد حداد لما لها من خصوصية في الشعر النسوي السوري، كانت تجربة حداد ثمرة للتجريب التي أولت بادئ ذي بدء عناية خاصة بالشكل، بينما طال التجريد المضامين بالتغير وهو أمر عرفت دعد حداد كيف تنتج بالاستفادة من الأول الذي كان نتيجة حتمية لما سبق أي «التجريب» والتجريد الذي كان في ذلك الوقت ظاهرة لا ترتبط بحركة الحداثة العربية وحدها. وإنما بالثقافة الغربية لما خلق من صدمة مع ذاكرة المتلقي، الأمر الذي ينسحب على الثقافة الغربية كما العربية كما ذكر هانز جورج جادامر في كتابه «تجلي الجميل».
أصدرت حداد عملها الشعري الأول «تصحيح خطأ الموت» عام 1981 عن وزارة الثقافة السورية دمشق، والذي جاء حسب الكثيرين رد فعل على موت أختها الشاعرة نبيهة حداد التي ذكرتها في قصيدة تحمل عنوان المجموعة ذاتها:
«مكتنزة سمراء /بثوب ملكات الغجر /في أول خيوط الفجر الشتوي /ثقيل، وعاتم،/ بلون الرصاص،ممزوجا بالوجوه الحجرية /هبطت من الدرج اللولبي،/ بثقل الأربعين حزنا حزنا».
في هذه المجموعة والتي كتبت قصائدها كما هو مؤرخ في نهاياتها في السبعينيات من القرن الماضي، في الوقت الذي بدأت ملامح قصيدة جديدة تتشكل في سورية وبعض البلدان العربية كـ لبنان ومصر. علما بأن الشاعرة حداد كما صرحت ذات مرة أنها كتبت الشعر الموزون، ومن ثم النثر كما أغلب معاصريها: «كتبت الشعر باكراً وبدأت بالشعر الكلاسيكي المقفى ثم تحررت من بحور الشعر والأوزان واتجهت صوب الشعر الحر... أحياناً أكتب الشعر المقفى لكن لا أعرف كيف يتحول إلى قصيدة نثر».
من جوف التنين
أنشأت حداد قصيدة لها بصمتها الخاصة، قصيدة تعرف كيف تمزج بين المتخيل والواقع تعرف كيف تستعير التجريد رغم قسوته وانفصاله عن الواقع إلى شرك القصيدة لتشكل عالماً له لغته ومفاتيحه الشعرية الخاصة، وهي من خلال ذلك عرفت أيضاً كيف تستخلص ذاتها كامرأة تكتب تلك القصيدة الجديدة التي تحتاج إلى الكثير من المغامرة والقوة في ذلك الوقت.