تكمن مفارقة الليبرالية الحديثة في التصادم بينها في حال كانت النخبوية محمولها الأساسي و بين الديمقراطية ، و قد ساهمت عوامل عديدة في اتصاف الليبرالية بالنخبوية :
أولاً : علاقة الليبرالية بتنوير القرن الثامن عشر الذي شدّد على ترادف المعرفة و القوة ، و أن التعليم هو الكفيل بجعل الكائنات البشرية تتصرف بشكل غيري وتتخلي عن أنانيتها ، وأن الحضارة العلمية ضرورية للتطوير و ليست كافية فحسب.
خلقت هذه الأفكار مواجهة بين الآراء العامة و خبرة غير المتعلمين من جهة ، و سلطة معرفة النخبة من جهة أخرى التي تعتبر الجماهير جاهلة غير مؤهلة لمساءلتها ؛ لأنها تملك تفوقاً أخلاقياً عليها ، أو لأن النخبة هي القادرة على صنع أحكام أخلاقية حيادية.
ثانياً : النظرة الليبرالية للثقافة التي صنعت من قبل كانت و فيبر ، و دافع عنها لاحقاً هابر ماس و رورتي و التي تقسم الثقافة إلى فضاءات : فن ، علم ، سياسية ، أخلاق. و هي الفضاءات التي أطلق عليها كيركغارد اسم فضاءات وجود ، و هو تقسيم يتوافق مع التقسيم الليبرالي لخاص و عام.
ثالثاً : العامل الآخر الذي ساهم أيضاً في خلق الصفة النخبوية لليبرالية بشكل مباشر ، هو دق الإسفين بين المعرفة و القيم ، هذا الفصل الذي يمثّل جذر التكنوقراطية ، و لا ينسجم مع فكرة التشارك الديمواقرطي و في هذا ترديد لصدى قلق ميل من أن الديمقراطية السياسية ستقود الجماهير إلى معانقة الاشتراكية.
و لتجنب هذا المصير الذي قد تتسبب به ديمقراطية متاحة للجميع بدون صبغة نخبوية متبصرة بلا عقلانية الجماهير انتهجت الليبرالية خط الدفاع عن التمييز بين الخاص و العام ، و إدراج الثقافة في الفضاء الخاص ، على أمل أن تقوم النخبة الثقافية بنشر القيم و المفردات الجديدة في الفضاء العام.
إن الخلل المسبب لتقويض الديمقراطية بتحالفها مع هذا الشكل من الليبرالية النخبوية هو تأسيس الديمقراطية على أرضية تجريبية ، أو معيار إجرائي و عدم اعتبارها حاوية للقيم ، و تعريف الليبرالية بمصطلحات ميثودولوجية.
لليبرالية النخبوية شكلان :الشكل الأول : هو النخبوية الثقافية ، و هو الشكل الذي ينتج عن قلق مستحكم من استبداد الأكثرية دفع كانت إلى الدفاع عن تنوير ينطلق من القمة إلى القاعدة ، كما يمكن العثور عليها لدى ميل و لدى توكفيل في ليبراليتهما المحافظة ، كلُّ هؤلاء دعوا إلى طبقة حاكمة لنخبة ثقافية تقع على عاتقها مسؤولية تعليم الجماهير من أجل ما يسمى بديمقراطية نحيفة ( و هي ديمقراطية تفسح المجال لمستوى أدنى من المشاركة الديمقراطية و نظام تصويت يعطي النخبة تمثيلاً أكثر ) حيث تعمل النخبة على تدريب الجماهير على الاستماع على ما هو أفضل لهم.
القلق المشار إليه من استبداد الأكثرية ناجم عن قناعة متبنّي هذا النوع من النخبوية بأن معظم الناس غير عقلانيين و غير ناضجين ، و هو ما يقدمونه كتبرير لمطالبتهم بالمستوى الأدنى من المشاركة الديمقراطية و لمطالبتهم بنظام تصويت يعطي النخبة تمثيلاُ أكثر.
وفقاُ لأرنولد فإن الحاجة لنخبة ثقافية ناجم عن ضرورة الحفاظ على قيم إنسانوية و ثقافة عالية ضد الديمقراطية الجماهيرية ، حيث يلزم أن يسمح للثقافة أن تقهر الفوضى.
هذه الديموقراطية النحيفة التي استخلصت من نقاش فيبر عن المجتمع الحديث الذي يسجن الإنسان في قفص حديدي و الحاجة حسب رؤيتها لقائد كاريزمي يمنع الفوضى ، و تقييد القبضة الخانقة للبيروقراطية الحديثة تستلزم أن يسمح للمواطنين أن يصوتوا لنخب متنافسة و حسب تعبير شومبيتر فإن تدريبهم على هذا التصويت للنخب التي تقوم بضبطهم يعني أن عليهم أن ( يخرسوا و يطيعوا ).
من نتائج النخبوية الليبرالية بشكلها المذكور ( النخبوية الثقافية ) ظهور أطروحة نهاية الإيديولوجيا و إنهاء الحرب على الديمقراطية التشاركية من قبل النيو ليبراليين مثل روبرت إيك الذي أعلن نصراً عالمي النطاق لليبرالية.
و قد تعولمت الأطروحة السابقة بأطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما ، و إن كانت هذه النتائج ليست مسبّبة بشكل مباشر عن النخبوية الثقافية.
و أطروحة نهاية التاريخ تدّعي ان الليبرالية قد انتصرت و أن الاشتراكية قد ماتت .
إدعاء فوكوياما أن العالم يشهد نصراً واضحاً لا لبس فيه لليبرالية السياسية و الاقتصادية يعني نصراً للرأسمالية العالمية ، للاستهلاكية ، و هذا النصر يؤكده – حسب فوكوياما – انتصار الولايات المتحدة في حرب الخليج لأنه يثبت أن النظام التعليمي للولايات المتحدة هو ذو شكل فائق.
ينطلق فوكو ياما من أن المعالجة في مجال الإيديولوجية و الوعي لا تكمن في الأفكار التي يحملها الناس في أي مكان و إنما في الأفكار الليبرالية التي واجهت منافسيها من فاشية و نازية و انتصرت عليهم.
و تظهر النخبوية المعولمة في صورتها الفجّة في بناء حائط يفصل بين بشر جديرين بالحياة و آخرين لا يستحقونها.
في الجانب الأول تتواجد الشعوب التي تعيش في دول تتبنّى أنظمتها الديموقراطية الليبرالية و هو جانب لا أثر للصراعات بين دوله و تهيمن فيه علاقات التفاعل الاقتصادي ، أما الجانب الثاني فتتواجد فيه الشعوب التي تتبنى أنظمتها السياسية شكلاً آخر غير الديموقراطية الليبرالية ، و هو سيستمر في انقساماته و صراعاته الإيديولوجية و القومية و الدينية ، و لا خلاص لهذه الدول إلا بالالتحاق بركب الديمقراطية الليبرالية ، و إلا فإن العلاقة بين الجانبين ستظل علاقة يحكمها الحذر و الخوف و ستظل الهيمنة الامبريالية ثابتاً من الثوابت التاريخية و في تكريس للنخبوية الثقافية يفسر فوكوياما عدم تبني أغلب البلدان الديمقراطية الليبرالية بالعوامل الثقافية التي تعيق هذا التبني لأكثر أشكال الحكم عقلانية و تتجسد هذه العوامل في :
1- الإنتماء الإثني : فلن تظهر الديمقراطية في البلاد التي تكون فيها القومية أو الانتماء الإثني لمجموعاتها الدستورية نامية جداً إلى درجة لا تسمح لهذه المجموعات أن تتقاسم مفهوماً موحداً للأمة أو أن تتبادل الاعتراف بحقوق بعضها.
2- الدين : و هو يشكل عائقاً إذا كان يطمح إلى فرض قواعده على كل مظاهر الحياة كما هو الحال في الإسلام و اليهويدية على عكس المسيحية التي اعتبرها هيغل إحدى العوامل التي مهدت للثورة الفرنسية.
3- البنية الإجتماعية : فالفرق بين استقرار الديموقراطية في أمريكا الشمالية و هيمنة الاستبداد في امريكا اللاتينية يعود إلى العادات الثقافية التي انتقلت إلى أمريكا الشمالية من انكلترا أو هولندا اللليبراليتين ، بينما تواجد في أمركيا اللاتينية بنية مسبقة غير عادلة و استبدادية.
4- قدرة الجماعة على خلق مجتمع مدني سليم : فالشعور بتفاوت في قدرتها على تطبيق “فن التجمع” على حد تعبير توكفيل بعيداً عن كل تدخل من الدولة حيث تكون السلطة المركزية ناتجاً طبيعياً للسلطات الحاكمة المحلية.
هذه العوامل المعيقة للانتقال إلى الديموقراطية الليبرالية وفقاً لفوكو ياما تصدر جميعها من الافتراض الأساسي أن اختلاف ثقافات البشر هو الذي يفسر اختلاف قابلياتها لتبني النظام الأكثر عقلانية.
و قد ترافقت هذه النخبوية الثقافية مع ظهور فكرة مجتمع الجماهير خلال القرن التاسع عشر لدى نيتشه و كيركارد ، كليفورد ، سبنسر.
مجتمع الجماهير هذا يمثله الشخص المتوسط الذي يمثل محموله هذا خطراً كفيلاً بتدمير الثقافة العالية و التي تعبر عنها الفكرة الألمانية عن التهذيب الذاتي التي توجه الليبراليين اتجاهاً نخبوياً و قد كان مهندس الليبرالية الحديثة مل موالياً لهذه الفكرة و قد دفعته إلى اعتبار الد يمقراطية السياسية محدودة كما كانت السبب في افتراضه أن التصويت المتناسب و التمثيل إنما هما تعبير عن ما أسماه أحد الكتاب “انتصار النخب”
و قد عولجت ظاهرة المجتمع الجماهيري من خلال ثلاث رؤى :
1- رؤية محافظة
2- رؤية راديكالية ( ماركسية، اشتركية ديموقراطية )
3- ليبرالية
بالنسبة لأصحاب الرؤية المحافظة : الجماهير خطرة لأنها جاهلة و غير عقلانية ؛ و لهذا فإن من واجب النخبة الثقافية أن تمنع الفوضى و ذلك بتعليم أعضائها الأفكار الأروستقراطية و الدين التقليدي داخل إطار الثقافة العالية بغية الحفاظ على الثقافة و إبقاء البرابرة و المتخلفين خارج هذا الإطار.
الرؤية الراديكاالية التي عبرت عنها مدرسة فرانكفورت و التي جمع بين كتابها رؤية للمجتمع على أنه لا عقلاني و قمعي و تظهر نخبوية مدرسة فرانكفورت النقدية بشكل أساسي في تحليلهم لمسألة الثقافة ، فقد قام أدورنو في “جدل التنوير” بتحليل أشكال الثقافة الموجهة للطبقات المثقفة و الموجهة للطبقات غير المثقفة.
كما قام ماركوزه بالتركيز على الطريقة التي تنتج بها صناعة الثقافة حاجات زائفة و هذه الأخيرة تعكس النخبوية و الاستعلاء التي تصبغ هذه المدرسة لأنها تعني الشك في قدرة الإنسان على تقدير احتياجاتها الشخصية و الادعاء بأن هناك من هو مؤهل أكثر منه لتقدير احتياجاته.
و لأن الثقافة الجماهيرية التي تجسد إيديولوجية الرأسمالية الاستهلاكية و القيم الأمريكية البرجوازية ؛ فإنه لابد من ثقافة عالية تقوم بدمقرطة الثقافة و دمج الفرد بالمجتمع.
الليبراليون لم يتخذوا الموقف نفسه تجاه المجتمع الجماهيري ، فهذا المجتمع الذي تمثل ثقافته الاستهلاكية و لاساميّته و عداؤه للمهاجرين الوجه المؤلم للديمقراطية الحديثة و هي التي تفرّخ المكارثية و اليمين الراديكالي يحتوي في رأي ليبرالي كادوارد شيلز ثقافة ديمقراطية متكاملة و ثقافة استهلاكية ، و الثقافتان تتكاملان حيث تمثل الأخيرة محيطاً لمركز تمثله الأولى.
الحفاظ على هذا المركز هو هدف الليبراليين عن طريق إصلاح تدريجي لا ثوري ، بالرغم من أن الانتصارات الليبرالية المبدئية و العديد من آثارها اللاحقة كانت ثورية و نتيجة لثورة.
أما الشكل الثاني للنخبوية فهو نخبوية المعرفة ، و هي تجد ظلالها في الإصرار على أن الخبراء في المجتمع العلمي و الاقتصاد السياسي يمكن أن يعطوا أصواتاً أكثر و سلطة أكثر من أي شخص آخر.
ظهور الاحترافية في العلوم السلوكية و ظهور التايلورية ترافق مع بروز هذا الشكل من النخبوية.
و ما يلزم عن هذه الرؤية أن السياسيات تصبح حكراً على نخبة المعرفة و ما تنطوي عليه هذه النخبوية هو اعتبار الديموقراطية وظيفية ، إجراءً تنظيمي لصيانة المساواة و قد توجت وظيفية بارسونز هذا التطور لهذه النظرة.
يمكن تصوير تاريخ أمريكا في القرن العشرين على أنه تاريخ تقويض هذه الأشكال من النخبوية للديمقراطية التشاركية لصالح ديمقراطية نحيفة و سياسات ضبط فقط.
فظهور الفروع الأكاديمية و خصوصاً في العلوم السلوكية و الاجتماعية منحت النخب دوراً أكبر ؛ مما ساهم في غرس روح الطاعة لسلطة الخبراء و ساعد على تقويض الأفعال التشاركية و قد منحت الحرب العالمية الأولى فرصة للعلماء لكي يكسبوا قوة لدرجة أن الحكومة الفيدرالية لم تعد تموّل الأبحاث غير قابلة للتطبيق.
عملت هذه التطورات على زيادة انخراط العلماء و المهندسين في مؤسسات كارينغي و جونز روكفلر التي نظرت للعلماء كمالكي أدوات لجعل الشركات أكثر تنافسية في السوق الدولي، و هو ما قلل من رأسمالية الشركات و دفع بالعلماء بعيداً عن التطلعات الديمقراطية.
لقد ساد افتراض من وحي هذه التطورات هو أن الناس يجب أن يعدّلوا منذ الولادة لكي يصبحوا أكثر كفاية و إنتاجية في نظام الشركات.
كما ازدهر علم النفس الصناعي و الفروع التطبيقية المتنوعة لعلم النفس الذي نظر إليها كإنجازات تؤكد تقليد الداروينية الاجتماعية ؛ حيث إنها استخدمت في الصناعة اختبار العمال و مساعدتهم على التكيف.
أما نمو الاحترافية في العلوم الاجتماعية ، فقد تمثل في البدء بتأسيس مجلس البحث للعلوم الاجتماعية عام 1923 الذي بذل الجهود لجعل علم الاجتماع و علم السياسية أكثر موضوعية.
هذه التطورات في الاحترافية في العلوم السلوكية و غيرها من الفروع الأكاديمية نتج عنها هيمنة مزاج عام يعتبر أن التخطيط القومي من قبل نخبة إدارية متحكم بها من قبل قائد قوي سوف يكون تطوراً طبيعياُ باتجاه ديمقراطية أكبر.
إن الخبراء كائنات بشرية أفضل أخلاقياُ من غيرهم ، و هي رؤية مدعومة من أخلاقيات دوركهايم و من قبل نظرة فيبرية للمدرسي و السياسي على أنهما الأفضل أخلاقياً.
رؤية فيبر للمعرفة و القيم على أنهما ميدانان منفصلان، و أن الأولى هي المهمة أما الثانية فهي ليست موضوعية كالمعرفة العلمية التي تزود العلماء و القادة و مستشاري السياسة بالقدرة على ضبط المجتمع و التحكم به.
من هنا فإن الناس الأقل انسجاماً سيكونون أقل أخلاقية و لا يمكن جعلهم أسوياء و مقبولين إلا بتعليمهم كيف يتكيفون مع النظام الذي يكون لخير الجميع إذا ما تكيفوا معه بالشكل المناسب و هو الشكل الذي يعرفه الخبراء و يدربون الآخرين عليه.
الخلاصة لهذه التوجهات هو ما قاله هنتغتون : إن بلدنا سيكون أفضل بدون الكثير من الديمقراطية.
إن أمريكا منذ عام 1920 هي القصة الأكبر للذهنية النخبوية الإدارية التكنوقراطية الأنتي ديمقراطية.
تصور دوركهايم لديمقراطية على أسس تجريبية أو أداة لانجاز مثاليات ليبرالية معينة مثلاً بحرية الفرد ضمن القفص الحديدي الفيبري تجعل الديمقراطية و الليبرالية ضعيفتين.
كان التجسيد الأبرز للديمقراطية التجريبية كنسخة للتحالف الليبرالي النخبوي مع الديمقراطية هو نقاش هنتغتون عن أزمة الديمقراطية الذي يفترض أن الديمقراطية تؤدي وظائفها بطريق أفضل عندما يوجد حد أدنى من المشاركة الديقراطية من قبل الموااطنين.
يقول هنتغتون : إن مشاكل الديمقراطية في الولايات المتحدة لا تتأتى من تهديدات خارجية ، و لا من تخريب داخلي و إنما تنبع من الديناميات الداخلية للديمقراطية نفسها في مجتمع ذي مشاركة عالية و ثقافة عالية ، و هذا ما يدفعها إلى الانتحار ، إنها تستنزف و تدمر نفسها ، لم توجد ديمقراطية حتى الآن لم تقدم على الانتحار كما عبر جون أدامز.
فعل الانتحار ناتج عن الافراط ؛ فالقيمة التي تكون جيدة من حيث ماهيتها لا تكون كذلك بالضرورة إذا ضخمت فثمة حدود مرغوبة للنمو الاقتصادي و حدود مرغوبة للمشاركة السياسية.
و يعتبر هنتغتون أن الديمقراطية ستدوم إذا امتلكت وجوداً متوازناً ، و لكن كيف يكون ذلك ؟
يجب بنظر هنتغتون " تهميش بعض الجماعات و هو يقرّ أن هذا الإجراء غير ديمقراطي و لكنه يرى أنه إجراء ضروري و قد اعتمد من قبل الديمقراطيات في الماضي التي كانت فيها السياسة ميداناً يشارك فيه شريحة معينة من السكان بحجم كبير أو صغير و هذا ما مكن تلك الديمقراطيات من أداء وظائفها.
إن مشاركة المجموعات الاجتماعية الهامشية كالسود مشاركة كاملة في النظام السياسي يحمل خطر زيادة العبء على هذا النظام بتوسيع وظائفه و التهديد بتقويض سلطته.
قلق هنتغتون من ديمقراطية تفسح المجال للمهمشين يردد صدى مخاوف نيتشه الذي اعتبر أن إحدى الطرق التي تقوّض بها الأنظمة السياسية نفسها هي خلق توقعات لجزء من الجماهير غير قابلة للتلبية.
إن نقاش هنتغتون يحمل الافتراض الذي تنطوي عليه الليبرالية النخبوية، و الذي يعتبر المهمشين كالنساء و الشواذ و السحاقيات ، و أعضاء ما يدعى بالطبقة الدنيا سيدفعون بالنظام خارج حدود التوازن و يتسببون بأذى للكل.
ما يبرر تحالف النخبوية الليبرالية مع الشكل الأخير من الديمقراطية هو عدم الثقة بالشخص المتوسط و عدم الثقة هذا متجذر في الليبرالية و قيمها التي تمنح لها الأولوية على الديمقراطية ، بتعبير آخر ليست الديمقراطية في هذا التحالف سوى وسيلة لتطوير الليبرالية.
هذا التفضيل للديمقراطية على الليبرالية يجد تبريره في أن الليبراليين مثل روسل يعتبرون الليبرالية تجسيداً للمنهج العلمي و لهي لذلك تتطلب كي تسقط على الواقع نخبة حاكمة ، و هذا ما تهدده الديمقراطية التشاركية. ربط الليبرالية مع التجريبية نجد تعبيراً واضحاً له في محاولة روسل الذي يعتبر :
الليبرالية ذات مضمون حداثي تغيب فيها الفانتازيا في البرامج السياسية ، هذه الفنتازيا التي اعتبرها العائق الذي منع الثورة الفرنسية من أن تكون ليبرالية و هي التي تجعل المؤسسات الديمقراطية مستحيلة كما حصل في انكلترا تحت حكم كرومويل و فرنسا تحت حكم روبسبير.
الليبرالي الحقيقي لا يقول هذا حقيقي إنما يقول : أنا أميل للاعتقاد في ظل الظروف الحالية إلى أن هذا الرأي هو الأفضل.
بنظر روسل ليست الليبرالية عقدية بل مفتوحة الأفق.
يقارن روسل الليبرالية في السياسات مع الطريق العلمية على اعتبار أن جوهر الليبرالية لا يكمن في السؤال : ما الآراء المشكلة ؟ و لكن في السؤال كيف تتشكل ؟.
و لأن الليبرالية ليست عقدية فهي تتشكل بطريقة مؤقتة و عليه فإن أدلة جديدة يمكن أن تقود إلى هجرها ؛ و لأن هذه هي الطريقة عينها التي تتشكل فيها الآراء في العلم ؛ فإن المنظور الليبرالي هو النظير الفكري للمنظور العلمي في الفضاء العملي.
الليبرالية إذاً – إذا تبينينا أفكار روسل – لا تقترن بأي عقيدة سياسية خاصة لأن ما يتبناه العلم هو ما يجب تبنيه من قبل الليبراليين حتى لو كان ذلك هجراً للأفكار الليبرالية التقليدية التي تتضمن الديمقراطية.
حاول كل من هيربرت ميد و ديوي أن يقوما بمقاربات أولية أكثر هيرمينوطيقية و أقل وضعية للعلم الاجتماعي و التفاعل الإنساني ، فقد رفض كل من ديوي و ميد العلموية و فضّلا التفاعل الإنساني و الحوار كأدوات للفعل الثقافي و السياسي و الاجتماعي.
بنظر ديوي كان اللعلاج الأفضل للأخطاء الديمقراطية هو ديموقرطية أكثر ، و قد ترافق ذلك من قبله مع مجهود للإصلاح و مع نقد للرأسمالية تجسدت في الدعوة إلى تنظيف فساد الحكومة و السياسيين ، و تأسيس خدمة مدنية احترافية ، و جعل القانون أكثر استجابة للحاجات الاجتماعية ، و هي نظرة لم تكن قابلة للحياة بنظر التطوريين و أتباعهم في العلوم السلوكية و الاجتماعية.
ربما كانت رؤية ديوي المشار إليها آنفاً و التي لم تلقَ صدىً لدى التطوريين ذات شأن في التقريب بين الليبرالية و الديموقراطية ؛ فقد أراد أن يؤسس لديمقراطية حقيقية سماها المجتمع الكبير الذي يعترف بالعلم و أهميته الاجتماعية و لكنه يسخره دائماً لحوار عام و تحت رعاية الاتصال الاجتماعي ، هذا الولاء للديمقراطية يظهر بوضوح في رأيه بطبقة الخبراء و هي طبقة باهتمامات خاصة و معرفة خاصة ، و هي إذا كانت حكومة فلن يكون ثمة سبيل لدى الجمهور لإعلامها بحاجاته ، الأمر الكفيل بتحويلها إلى حكومة أوليغارشية ، تهتم فقط بمصالح القلة.
تنوير الجماهير يجب أن يملّكها طرقاً تجبر الإداريين على أخذ حاجاتها بالاعتبار ، و لا دور للخبراء في صياغة و تنفيذ السياسات ، هم مكلّفون فقط باكتشاف الحقائق التي تعتمد عليها الأخيرة.
هم خبراء و تقنيون يستثمرون خبرتهم و معرفتهم و يضعونها بين أيدي من يملكون القدرة على الحكم على صلاحية هذه المعرفة للاستجابة للاهتمامات المشتركة.
يقترح البعض عدة خطوات للتوفيق بين عناصر الليبرالية مع شكل من اشكال الديمقرطية التشاركية :
الخطوة الأولى : تطوير مفهوم غير أصولي و غير مستند إلى ماورائيات لليبرالية يعتمد الحوار و الممارسة لبناء مجتمع منظّم بكشل جيد كهدف للسياسات الديمقراطية.
و لهذه الخطوة التي تم تبنيها من قبل راولز و ميكائيل والزر أفكار مفتاحية لوضعها موضع التطبيق.
1- استقلالية السياسة عن الفلسفة.
2- لا يبنى الحوار على معايير فلسفية أو نظريات عن الحقيقة و إنما يجب أن يكون براغماتياً.
3- يجب أن توجّه السياسيات لقضايا الحاضر.
4- بالرغم من أهمية دور الخبراء فإنهم لا يجب أن يلعبوا دور الحسم في الممارسة الديمقراطية.
5- لابد من اجتراح شكل ما للتعددية على اعتبار أنها استجابة لواقع التنوع ؛ لكي لا يختزل هذا الواقع في أي شكل أو نوع من الوحدة التي توهم بإزالة الخلافات مع التأكيد على أن هذا لا يتنافى مع ضرورة الوصول إلى اتفاق متداخل.
الخطوة الثانية : لا يكفي التحرك باتجاه سياسات بعيدة عن الفلسفة المتجذرة في معيار استمولوجي بل لابد أن لا تقيد عملية الحوار و نتائجه مقدماً بافتراضات ابستمولوجية عن المعرفة ، الحقيقة ، العقلانية ، المنهج. . إلخ.
فعلى المواطنين أن يكونوا أحراراً في تطوير أي أفكار و حلول تقترحها متطلبات الحاضر و أن يتشاركوا في حوار مفتوح و بدون إكراه.
الخطوة الثالثة : يجب أن يتم احتضان الخطوتين السابقتين و هو ما يتطلب استنزافاً لمعظم الأفكار الليبرالية و على التوافق المشار إليه آنفاً أن لا يبقى بلا تحدّ و أن يكون مؤقتاً دائماً لأن المجتمع متجذر في التنوع ، و ما يستتبعه من استجابة تعددية تتطلب بدورها مقاربة تعددية لتاريخ المجتمع الخاص.
الخطوة الرابعة : التعددية و المجتمع بحاجة إلى إعادة تفكير :
1- التعددية هي التعرف على الاختلاف و هو يتطلب محافظة على الغيرية بأي ثمن و قد اكتشف كثير من كتاب ما بعد الحداثة ككتاب النسوية هذا الوجه للتعددية و مثله فعل ليوتارد و ما بعد الماركسيين عندما انتقدوا الفكرة الماركسية التقليدية عن السيطرة.
2- المجتمع يجب أن يعاد النظر فيه من جديد لإعطاء مكان في الصدارة للاختلاف و التعددية و هذا يجب أن يعتمد على مأسسة بواسطة التنوع للأصوات التي تعطي دفعاُ لهوية الاختلاف التي لا يمكن تدجينها بأفكار تقليدية عن مجتمع يعمل كوحدة.
3- المجتمع الذي نحتاج إليه هو مجتمع بلا وحدة يأخذ التعددية بجدية لكن لا يتخلى عن أفكار مثل العدل و الاتفاق و التواصل.
الخطوة الخامسة : فكرة الديمقراطية المطلوب تطويرها هي ليست فكرة ماورائية بل نفعية ، تاريخية ، تأخذ بفكرة التعددية إلى حدودها القصوى و تحاول أن تستفيد من أفكار الليبرالية و النسوية و ما بعد الحداثية.