تطالب الليبرالية السياسية في صيغتها الراولزية بوضع المثل الأخلاقية والدينية بين قوسين من أجل فصل هويتنا السياسية عن هويتنا الشخصية ويبدو أن هذا ممكن في حال عدم القدرة على الحسم في صحة أي من هذه المثل ( وهو جدل فلسفي تحاول الليبرالية السياسية تجنب الخوض فيه) وقد لجأ راولز إلى وضعها بين قوسين انطلاقاً من افتراض أساسي في نظريته يقوم على أولوية الحق على الخير الذي يحاول راولز أن يجد له تأصيلاً فلسفياً أصله في اعتباره أن للذات أولوية على غاياتها أما عملياً فهي أولوية تجد تبريرها لديه من واقع الكثرة المعقولة فتنوع نظريات الخير في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة هو ما يجعل وضعها بين قوسين ضرورياً لأن تبني أي منها يعني تغليب رؤية على أخرى وهو ما يخدش مبدأ المساواة .
نظرية راولز تفترض موقفا من الأحكام الخلقية فحواه أن استنباطها يكون عبر آلية أطلق عليها راولز اسم “التوازن التأملي الواسع” وهي تقوم على مفهوم مركزي :
وهو مفهوم “الحكم المروى فيه”
وهو حكم يكسب صفته هذه فيما إذا اتخذه صاحبه بدون أي معوقات فكرية أو شعورية أو نفسية ، وفيما إذا تمتع صاحب هذا الحكم في لحظة اتخاذ الحكم بامتلاك الفرصة لاتخاذه ،وبالرغبة في الوصول إليه ، وبالقدرة على ذلك.
وانطلاقاً من هذا الحكم الذي يثق فيه من يتخذه ثقة غير آنية وتامة في حال تأمله له تأملاً عميقاً في ظرف خال مما يسمى المعرقلات الإبستمية الآنية تبنى عمارة الموقف الراولزي الخلقي ؛ ففي التوازن التأملي الواسع يتم التحرك بين الأحكام المروّى فيها المشار إليها آنفاً جيئة وذهاباً ، وبين المبادئ الخلقية المشفوعة بالحجج الفلسفية لكلّ منها ، وفي هذا التحرك الدائب بين الأحكام والمبادئ مع حججها الفلسفية يتم استكشاف التلاؤم بين مجموعة مناسبة من هذه وتلك .
إن مبدأي العدالة في الليبرالية السياسية يتم الوصول إليهما عبر آلية التوازن التأملي الواسع فالبدء بأحكام مروّى فيها والتحرك منها إلى المبادئ مع حججها الفلسفية واختيار ما ينسجم من هذه المبادئ مع الأحكام المروّى فيها هو الكفيل بالتوصل إلى مبادئ العدالة ، وهومنهج يدّعي رفضه للأسسية، ولكنه يعاني من نقطة ضعف تتمثل في أن هروبه من الموقف الأسسي غير ممكن لأنه إذا افترض وجود حكم مروى فيه لدى الشخص وكان حكما موثوقاً به وهذه الثقة من القوة بحيث لم تزعزعها أية اعتبارات نظرية نابعة من النظريات المتضمنة في المجموعة المتماسكة التي تدّعي آلية التوازن التأملي الواسع أنها شكّلتها ؛ فإن هذا يعني أن حكماً مروى فيها واحداً قادر على تجريد مجموعة متماسكة بكاملها من أي أساس لتسويغها لأن هذا الحكم غير متلائم مع المجموعة ، وعدم تلاؤمه يعني – بحسب ما تفترض آلية التوازن التأملي الواسع – أن المجموعة غير مسوغة لأن شرط تسويغها هو تلاؤم الأحكام المروّى فيها مع المبادئ والنظريات .
إن قدرة حكم واحد على فعل هذا هو موقف أسسي تقع فيه آلية راولز في التوازن التأملي الواسع من حيث تحاول الهروب منه.
إن وضع المذاهب الأخلاقية الدينية بين قوسين لغاية الفصل بين هوياتنا السياسية وهوياتنا الخاصة يجد تبريره لدى راولز في الطبيعة الخاصة التي تميز المجتمعات الديمقراطية المعاصرة فتنوع المذاهب الأخلاقية والدينية في هذه المجتمعات يجعل من الضروري عدم انعكاس القناعة الدينية والأخلاقية في البنية القاعدية للمجتمع حرصاً على التعاون الاجتماعي القائم على الاحترام المتبادل.
عدا عن نقطة الضعف في نظرية التوازن التأملي الواسع التي أشرنا إليها آنفاً فإن ثمة تكاليف لوضع المذاهب الأخلاقية والدينية بين قوسين تتحمل الليبرالية السياسية دفع المجتمع الذي تسود فيه لها .
وهي تكاليف سياسية وأخلاقية أما التكاليف السياسية فتظهر في أن خلو الخطاب السياسي من النبرة الأخلاقية يمكن أن يتسبّب في ظل تطلّع الناس إلى أفق عمومي أرحب إلى ملء الفراغ من قبل جملة قيم غير مرغوب فيها كالتيارات الأصولية المتطرفة وهو ما يشاهد اليوم من تمدد التيارات اليمينية المتطرفة في عدد من الولايات المتحدة وغيرها.
وأما التكاليف الأخلاقية فهو نتيجة طبيعية لجعل اختيار المذهب الخلقي المسوّغ أكثر من غيره في النقاش السياسي العمومي غير ممكن نتيجة لوضع كل المذاهب بين قوسين ، ومن هنا يطالب السياسيون أن يكونوا لا أدريين في الأخلاق فعلى سبيل المثال في التشريع الإسلامي ولدى الكاثوليك يعتبر الإجهاض جريمة قتل للجنين بعد مدة قصيرة من الحمل وهو اعتبار يطلب حسب الليبرالية السياسية عدم الاكتراث به وتركه للشأن الخاص للمرأة أو مناقشته داخل التجمعات الدينية بعيداً عن النقاش العمومي.
مع أن اعتباره جريمة قتل ليس أقل أهمية من الحرص على إعطاء المرأة حرية التصرف فهو أيضاً انتهاك لحق أساسي من حقوق الإنسان وهوحق الجنين في الحياة.
فالتكلفة الأخلاقية هنا كبيرة وعدم اعتبار ما يفترضه التشريع الإسلامي والمذهب الكاثوليكي من أن الإجهاض جريمة قتل ليس مبرراً بما تفترضه الليبرالية السياسية من ضرورة وضع المذاهب الأخلاقية والدينية بين قوسين ؛ لأن وضعها بين قوسين كفيل بانتهاك حق أساسي لا تقبل الليبرالية في أي شكل من أشكالها التفريط به فعليها إما مناقشة التشريعين الإسلامي والكاثوليكي وإثبات أنهما مخطئان في اعتبار الإجهاض قتلاً أو أخذ ما يقوله التشريع الإسلامي والكاثوليكي بالاعتبار وهو ما يفرض عليها إعادة النظر في القوسين اللذين يحصران المذاهب والأخلاق.
إن هذه التكاليف التي يمكن أن تتسبب بها الليبرالية السياسية يمكن أن يترتب دفعها حتى في المجتمعات التي توجد مسوغات لتسويد قيم هذه الليبرالية فيها ؛ حيث إن مسوغات المطالبة بتسويدها لم تنفصل عن النظرة التاريخانية التي اعتبرت أن تصوّر المواطن الذي تستبطنه الليبرالية السياسية متضمن في الثقافة السياسية لهذه المجتمعات ومن واقع الكثرة والتنوع في نظريات الخير وهو ما أقر به راولز نفسه وأشاد رورتي به بسبب هذا الإقرار.
فتصوّر المواطنة الذي تقول إنه متضمن في الثقافة السياسية قد تشكل بفعل ظروف تاريخية فهو في الولايات المتحدة لا يمكن فصل سيرورة تشكله عن الحرب الاهلية ، وإعادة الإعمار ، والتعديلات الدستورية وغيرها من الأحداث المفصلية التي مرّ بها المجتمع هناك.
وما يجعل الأمر مرتبطاً بظروف المجتمعات ما يقوله راولز نفسه من أنه في مجتمع غير محكم التنظيم ؛ أي مجتمع تسود فيه رؤيته عن العدالة والخير يصبح من الضروري اللجوء إلى أخلاق كلية من أجل التشجيع على ظهور مجتمع لا تقوم فيه المناقشات إلا على قيم سياسية فقط ؛ أي أن هذا المجتمع لا يجد سبيلاً للحسم في مسائل حساسة عن طريق القيم السياسية فقط ، وإنما يجب كخطوة مبدئية يبررها عدم وصوله إلى مرحلة تؤهله لفصل القيم السياسية عن القيم الأخلاقية الكلية لديه أن يلجأ إلى الأخيرة لمحاولة الإجابة على الأسئلة الكبرى ، أو إيجاد الحلول للمشاكل المستعصية.
وقد اضطر راولز إلى هذا الادعاء في ردّه على اعتراض قوي على ما تطالب به ليبراليته من لا أدرية في الأخلاق أثناء النقاش السياسي ، وقد تمثّل هذا الاعتراض لدى أصحابه في ما يمكن أن تتسبّب به هذه اللأدرية من تكلفة أخلاقية وكان مثالها النقاش الذي دار بين لنكولن ومنافسه الرئاسي آنذاك حول مسألة الرّق ، فبينما كان لنكولن يعتبر الرّقّ أمراً شائنا أخلاقياً ، كان خصمه يفضّل عدم تحكيم الأخلاق في الموضوع ، وترك المسألة لإرادة الولاية إذا شاءت ألغته وإذا شاءت أقرّته .
ونظراً لما يمثله الرق من تكلفة أخلاقية لا يسع راولز القبول بها ؛ فقد اضطر إلى ردّه هذا على اعتبار أن المجتمع لم يكن محكم التنظيم آنذاك ، وهو ما يجعل اللجوء إلى قيم أخلاقية كلية في نظره مبرراً كسبيل للوصول إلى مجتمع محكم التنظيم لا تقوم فيه المناقشات السياسية إلا على قيم عمومية فقط .
إن نظرية سياسية ما مهما كانت درجة تماسكها المنطقي لا يمكن أن تأخذ فرصتها في الوجود والاستمرار ما لم يكن من ضمن متغيراتها طبيعة المجتمع ومنظومته الأخلاقية وأعرافه وموروثه وسيرورة تشكله التاريخية.
صحيح أن الليبرالية العربية لم تكن إلا استيراداً لبعض نتائج الليبرالية الكلاسيكية مفصولة عن أساسها النظري ، وصحيح أن الكثير من الليبراليين العرب عندما حاولوا مواكبة التطور في الفكر الليبرالي شغفوا باقتصاد السوق شغفاً يفوق أحياناً شغف الليبراليين الجدد به واعتبره بعضهم كلمة السر والمفتاح السحري لكل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وهذه لوحدها أسباب كافية كفيلة بعدم تجذّر المنتج الفكري المستورد، ولكنّنا اليوم ونحن بصدد تجذير قيم المواطنة ومفاهيم حقوق الإنسان نحتاج إلى مراجعة لممكنات التلاقح بين الشرط المحليّ بكل أبعاده التاريخية والقيمية والاقتصادية والسياسية ، وبين المفاهيم التي نسعى لتجذيرها.
فمفهوم المواطنة له الأسبقية على فصل الهويات العمومية عن الخاصة في المجتمعات التي تبنت هذا الفصل لأنه أحد أركان هذه العمارة المسماة بالليبرالية السياسية ولا بد أن له الأولوية لدينا ، ولكنها أولوية مشروطة بظرفنا التاريخي كما كان هذا المفهوم مشروطاً في تشكّله بالسيرورة التاريخية للمجتمعات التي تكرّس فيها ولا ريب أنه أحد أركان الديمقراطية التي نسبّح بحمدها ليل نهار حتى اقتربنا من تحويلها إلى إيديولوجيا بدون أن نؤسس لها ونمهد الأرض الصالحة لاستنباتها.