هل من الصدفة أنّ أسماء “الجنس” في العربية هي في أغلبها مستقاة من استعارات عنيفة، كأنّ الأمر يتعلق في صميمه بحرب على الحيوان البشري عامة وعلى الجسد المنكوح خاصة ؟ - معجم واسع النطاق أحصاه فقهاء النكاح لا يدع مجالا لأدنى شكّ في أنّ مخيال الجنس في العربية الأولى كان ورشة حربية بين حيوانات شبقية: “وطء” و“إصابة” و“إجهاد” و“دحم” و“رشّ” و“ركل” و“رطم” و“سطو” و“شرح” و“ضراب” و“طخّ” و“طرق” و“طعن” و“غشي” و“قرع” و“محت” و“محارقة” و“مهك” و“نقش” و“نتر” و“هكّ” و“ارتطام” و“اختراق” و“ازدحام” و“اضطرام” و“اقتحام” و“انتحاب” و“بغي” و“تشرّد” و“ثقب” و“خبث” و“دحس” و“سحل” و“شجار” و“صلف” و“ضرب” و“مطاخّة” و“طعان” و“طراق” و“عصاة” و“مقارعة” و“كفاح” و“نخز” و“مهالكة” و“مهاجمة” و“وقع”،...- كلّها أسماء جنسية تم إحصاؤها بعناية إيبستيمولوجية فظيعة من قِبل فقهاء الملة.
لكنّ تساؤلا لا يقلّ وقاحة ينبغي على التفكير أن يتلفّت إليه دون تردد: لماذا يميل العرب إلى ربط الجنس بالحمق ؟ ألم يقولوا قي بيان مزعج: “الأَنْوَك” هو الأحمق ؟ جاء في لسان العرب: “وقد نَوِكَ نَوَكاً ونُوكا ونواكةً : حَمُقَ، وهو أَنْوَك، والجمع نَوْكَى؛ قال سيبويه: أُجري مجرى هلكى لأنّه شيء أصيبوا به في عقولهم. وفي حديث الضحاك: إنّ قُصّاصهم نَوْكَى أي حمقى”. و“استَنْوَكْتُ فلانا أي استحمقته”. “وقالوا ما أنوكه !...وقع التعجّب فيه بما أفعله وإن كان كالخِلَق لأنّه ليس بلون في الجسد ولا بخلقة فيه، وإنما هو من نقصان العقل”. و“الأنْوَك العاجز الجاهل. والنُّوكُ عند العرب: العجز والجهل”.
ثقافة لا تجد اسما للجنس بالمعنى الحديث،- إذ أنّ مصطلح “الجنس” في تعقّده الثلاثي الحديث، أي “جنس المولود” (ذكر / أنثى) و“العملية الجنسية” (الجماع أو النكاح) و“الجنس الاجتماعيّ” ( “الجندر” )، هو استحداث جديد في العربية وهو ينتمي رأسا إلى الفصاحة المعاصرة- رغم أنّها تتوفّر، حسبما أحصوه فقهاء النكاح، على ترسانة ضخمة من أسماء الجماع- قال السيوطي في الفصل الأول من كتاب فضائل النكاح : “وقد ذكر الثعالبي في فقه الملة: إنها تبلغ مائة اسم، ما بين صريح ومكنّى، وعن ابن القطاع: إنها ألف اسم، ولصاحب القاموس فيها تأليف مستقل لم أقف عليه، والذي لي بعد تتبع كتب اللغة نحو أربعمائة اسم”.
كيف نفسّر هذا التقابل العجيب بين لغة لها ألف اسم للجماع وليس لها اصطلاح مناسب لربط الصلة الجندرية الحديثة بين جنس المولود وجنس هويته الشخصية ؟ أمّ أنّ اللغات الغربية هي التي تعاني من لبس مريب في التمييز بين ما هو عضوي (ذكر / أنثى) وما هو شبقي (أنواع الجماع المختلفة بين الأجناس) وما هو اجتماعي (ذكورة / أنوثة) ؟
لكنّ الأسئلة الوقحة لا حدّ لها: لماذا لا يوجد مؤنّث في اللغات الغربية التي نعرفها ؟ ثمّ لماذا تربط العربية بين “التأنيث” في النحو و“الأنثى” في الجنس ؟ هل لذلك علاقة بأنّ الجنس لا يكون إلاّ ثنائيا، بين اثنين، أي بين ذكر وأنثى، وبالتالي فكل صيغ التأنيث هي موزونة على منوال العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى، تساوت في ذلك جميع الحيوانات، بل قل جميع الأشياء التي يمكن تأنيثها. ولكن لماذا تمتنع بعض الأسماء عن التأنيث ؟ أو عن المفرد ؟ بعض الألفاظ لا جمع لها والبعض الآخر لا مفرد له. هل لذلك دلالة جنسية بالمعاني الثلاثة المشار إليها آنفا.
يبدو لنا أنّ العربية شيء والقرارات الأخلاقية أو الدينية التي تمّت باسمها لاحقا شيء آخر. ونعني بالتحديد أنّ العرب، بعد انبجاس الحدث القرآني في أفق أنفسهم القديمة، قد شهدوا واقعة أخلاقية واسعة النطاق غيّرت معجمهم الجنسي: من معجم حيوي (معجم النكاح في معنى الوطء) إلى معجم هووي أو دعوي (معجم النكاح في معنى الزواج). ويمكن اعتبار القرآن مقياسا رائعا هنا: فنحن لا نعثر فيه على أيّ معنى جنسي للنكاح، بل كل المواضع التي ذُكر فيها النكاح قد كان معناه منزاحا من معنى الوطء إلى معنى الزواج. وهذا ذو دلالة عجيبة. فليس هذا مجرد اختلاف في استعمال اللفظ، إلى جانب الاستعمال السابق، بل هو تشريع جديد تماما، نقل المعنى الجنسي من معجم الوطء إلى معجم الزواج، دون أن يجد حرجا في أن تواصل اللغة العربية استعمال لفظة “النكاح” في المعنى الجنسي البحت.
ما نعنيه هو أنّ عملية استيلاء أخلاقي على هوية النكاح قد حوّلت المسألة الجنسية بطريقة غير مسبوقة. لم يعد الجنس حمقا وتحوّل إلى عقل داخلي للجسد. لم يعد الجسد المنكوح يملك نفسه، بل صار مملوكا لهوية جنسية أخرى هي هوية النفس. إنّ النفس هي التي تُنكح وليس مجرّد الجسد. ولم يعد النكاح استعمالا جنسيا لجسد الشهوة، بل صار استعمالا هوويا للنفس التي ترهق الجسد بأهواء لا طاقة له عليها إلاّ بالتقوى.
وعلينا أن نسأل: لماذا لم يتمّ الإنصات إلى القرار القرآني بتحويل ماهية النكاح من الوطء الحربي إلى الزواج الأخلاقي ؟ من وطء الجثة إلى الزواج بالشخص ؟ لماذا استمرّ التصوّر الوطئي للنكاح بل استقرّ وتحوّل إلى تقنية الذات الرسمية لأنفسنا ؟
يبدو لنا أنّ سببا أعمق من كلّ تبريراتنا للأساس الاقتصادي للجنس، هو الذي يقف وراء اسمرار التصوّر الحربي للنكاح بوصفه وطءً. وهذا السبب هو تصوّر معيّن لماهية السلطة: إنّ علاقة التسلّط على الجسد هي شكل الحقيقة الذي ظلّ يؤثّث معنى العالم في أنفسنا العميقة منذ أمد طويل. وإنّ أعلى أنماط التسلّط على البشر هو نكاح العقل.
كلّ خطاب دعويّ أو عدمي أو استلابي هو نكاح للعقل. نعني مخاطبة لا تنظر إليه بوصفه مؤهّلا للاستقلال الروحي بنفسه، ومن ثمّ تعامله وكأنّه مجال شهوة. هذا الخبث الإبستيمولوجي موجود في كلّ أنواع الخطاب أكان ماضويّا أو كان مستقبليّا. ليس المشكل في الجواب عن السؤال “من ؟” (من يتكلّم ؟ من يخاطبنا ؟ من يمثّلنا ؟ من يحكمنا ؟ ...) بل في السؤال عن شكل الحياة الذي يقترحه علينا. ليس ثمّة حياة خارج ما ننتظره منها. وما ننتظر يكون دوما قد تشكّل داخل مكنات من الرغبة التي تجتاحنا من حيث لا نحتسب: من داخل أفق انتظارنا لأنفسنا.
يُنكح العقل لأربع: لأنّه هو التعبير الأعلى عن كرامتنا؛ ولأنّه المسؤول عن التشريع الروحي لجملة وجودنا في العالم؛ ولأنّه الإطار الذي يضع الحدود الإبستيمولوجية لعالمنا؛ ولأنّه هو اللغة العميقة لكل إمكانية تفكير في ذواتنا.
ونكاح العقل يعني في هذه الحالات الأربع: ترسيخ ثقافة القصور المبارك أو الذي حوّل وهنه الأخلاقي إلى بركة مكتفية بذاتها؛ وتبخيس سلطة الحقيقة، وتحويلها إلى تهمة لمن لا يستطيع الدفاع عنها ضدّ الحمقى؛ والسخرية من حدود العالم وتحويله إلى خواء أنطولوجي ينتظر الرحمة، خارج كل قوانين الجاذبية؛ وتدمير كلام الناس عن أنفسهم، وتحويلهم إلى آلات صمّاء، جاهزة للاستهلاك السمعي، بلا أيّ طاقة إنجازية.
إنّ النكاح هو تقنية الذات العميقة التي ظلّت توجّه ثقافتنا في كل تجارب المعنى التي بنت عليها رؤية العالم التي نعيش داخلها من آلاف السنين. النكاح هو معاملة كلّ من أو ما يقابلنا في العالم أو يشاركنا في السكن داخله، إلى جسد شهوة، يغوينا بالارتماء عليه ونهشه والتلذّذ به كأنّه لم يُخلق أو يوجد إلاّ لينتظرنا كموضوع رغبة لا يفكّر. وربما ليس من الصدفة أنّ مصطلح “الشيء” مشتقّ في العربية من “شاء”: لا يوجد أمامنا إلاّ ما نظنّ أنّه لم يوجد إلاّ من أجلنا. ومعاملة الموجودات بوصفها “مشيئة” سلفا من قِبلنا، لا يعني سوى النظر إليها باعتبارها موضوعات شهوة بلا أيّ تبرير أنطولوجي آخر. ويبلغ بنا هو التصوّر للعالم من حولنا، أكان بشرا أو غير بشر، أن تمّ بناء معجم للنكاح يشتمل على عقود مناكحة مفصّلة تنظّم استعمال الجسد أو اللحم الحيّ استعمالا شهويّا واعيا بذاته ومشرَّعا له ومؤهَّلا تأهيلا “علميا” و“أخلاقيا” و“عقدّيا”.
بهذا التقدير ظهر العقل بوصفه قدرة البشر على “عقل” الشهوة التي لا تفكّر. أي على حقن دماء الناس من أيّ إرادة تريد تحويلهم إلى موضوع شهوة، أي إلى جسد للنكاح. من أجل ذلك فإنّ نكاح العقل هو آخر أطوار تصوّر نكاحي للعالم، آن الأوان لتجيد النظر فيه واختراع أسئلة جديدة للتحرّر منه. – ونعني بذلك أنّ معاملة ذكاء البشر باعتباره “شيئا”، أي باعتباره موضوع “مشيئة” لا يملك أيّة جدارة أنطولوجية أو أهلية ميتافيزيقية أخرى، هو أخبث أنواع النكاح في حضارتنا. وغلى خلاف ما جرى في الغرب من نقد للعقل، نقدا ترنسندنتاليا (لشروط إمكانه القبلية في الطبيعة البشرية) أو جدليا (لتاريخ وعيه بذاته في تاريخ العالم) أو ماديّا تاريخيا (في ضوء علاقات الإنتاج ونمط السلطة المشتق منه) أو تفكيكيا (بتحطيم الحجب التأويلية والاصطلاحية التي تمنعنا من التفكير في ما يسكت عنه أو في إرادة الخطاب التي تحكمه سلفا) أو أركيولوجيا (في تقنيات الخطاب التي تحدّد سلفا مسارات الاتصال والانفصال التاريخي في معارفه أو في أمراضه أو في أشكال السلطة داخله أو تقنيات الذات التي يؤسّسها)،- على خلاف ما وقع في الغرب، فإنّ حاجتنا للعقل مختلفة تماما.
إنّ العقل هو الجدار الأخير في معركتنا مع قيمة الإنسان داخل أفقنا الروحي. إمّا أن نجرؤ على تنصيب الإنسان في مكانه من علاقتنا بأنفسنا العميقة، وإمّا أن نؤجّل إلى أجل غير معلوم قرار الكرامة الإنسانية، باعتباره نافلة أخلاقية لأجيال من السفهاء الجدد.
إنّ ما يتمّ بين جسدين في باب الشهوة ليس غريبا عمّا يتمّ بين جسمين في باب الحرب على السكن في العالم. ولن نطمع في تغيير آداب الجسد في مجال منهما دون أن نعزم على تغييره في المجال الآخر.