شعرت بالفرح والحزن والكثير من خيبة الأمل وأنا أقرأ هذيان جنون حلمك أيّها المتمرّد المزعوم. كانت السخريّة والتذمّر والكثير من الحقد يتماوج في قلبي حتّى أينع في ذهني بركان الغضب الكاسح، وأنا أقلّب الكلمات والجمل الجريئة لسردك في فرن الواقع الحارق. فأكتشف انتفاخها البرّاق.
مفرقعات أليس كذلك؟ خاصّة وأنا أذكر كيف أنّك وقفت مأخوذا أو مسحورا، بصدمة هشاشة القش الضّخم المدسوس في المتخيّل الذي نسجته بحنكة آلية الكبت والحرمان، وأنت ترى زوجتك عارية الصّدر تحتجّ ضدّ قهر جدار ذكورة الميز واضطهاده والفصل العنصري الذي يمتدّ عميقا، ليس في المكان فحسب، وإنّما أيضا في اضطراب ديمومة الزّمن الشّرقي المتخلف. كم هو تاريخ مجتمعك موغل في قدم الجمود والتعفّن و“التصهين”. كم كنت بهلوانيّا رديئا إلى حدّ المسخرة وأنت تهدم موقد أمّك، كما لو كنت جرّافة صهيونيّة تأتي على الجذور.
عيناك مصوّبة على سقف جدران الموقد التي غللت عينيك بـ“الغبش”، فضاع منك ما يمتدّ في الأعماق البعيدة للأرض والإنسان والتّاريخ. حيث لم تكن أمّك تنضج الخبز بلهيب جهنّم فقط، بل كانت تحترق معاناة وكفاحا ضدّ قهر النساء، ليزهر الفرح والأمل في عيون قلبك، وينمو في أوردة أحلامك دم رفض العودة إلى خزان الشوق والحنين لحلم انبعاث قبور كنوز الماضي المتخيل، ولكي لا يكون مصيرك جثة مخنوقة وهي تتعفّن الآن تحت الشّمس عند أقرب مزبلة. لعلك تذكر رواية “رجال في الشّمس”. لولا هذا لما نجوت من الموت انتحارا بحبل حنين العودة إلى الماضي.
لم تكن أمك كغيرها من نساء القرية ترى في لباسها شيئا يبعث على الاعتقاد بعورة النّساء، بل كان مجال الممارسة واسعا للعمل والذّكاء والحبّ والعواطف الجياشة، وللغناء والرّقص في الأعراس، وللنّكتة البذيئة بين النّساء في حق الرّجال، ولخشوع الصلاة حين يرف جفن السماء منبئا بطمأنينة سلام القلب واتساع فسحة الأمل. هل رأيت الفرق الشاسع بين أمهاتنا وبين نساء يمارسن اليوم نفاق لعبة عفيفات التخفي في الجبة المنسوجة بخيال الماضي التليد؟ سحبك موقف زوجتك من حيث لا تدري من قبوك المعتم الذي يأسرك بالكامل. موقفها يجرك دون سابق إنذار وبقسوة لم تكن مهيأ لاستقبالها أيها المجنون المحموم.
في تلك اللحظة الفاصلة لم يكن لباسك قادرا على أن يخفي عريك المكشوف. يا لفضيحتك! تعريت مكرها من طرف هذا العري الصدري الجميل والساحر الأخاذ، فانهارت قواك، مما جعل شيئا مشوّها ذميم الخلقة يسقط من قشور جلد خطابك الثّوري. يا للمفاجأة! عندما تحرّك بتثاقل مقرف ذلك الشّيء المشوّه، فتبيّن أنّه الرّجل القديم القابع في داخلك، يسكن أحشاءك، ولم تستطع أن تسقطه أو تجهضه من جوف رحمك الذّكوري تلك الخطب الثورية النارية، ولا تلك الخلايا الثورية التي كنت سخيا فيها بالدم والروح، أو باغتصاب سنوات من شباب عمرك.
من كان يعتقد بقوة هذا العري الخلاب في جماليّة وجود المرأة على إسقاط هذا المولود الأشيب، المعمّر قرونا في دواخلك، وعلى نزع طبقات حجاب تسترك على عري هذا الرّجل القديم فيك؟ يا للمهزلة تستغرب أن يكون إلى هذا الحدّ الرّجل أو بالأحرى الذّكورة عورة. وتتساءل بتصنع واضح: كيف غلطنا هذا الإسقاط الذكوري في حق النساء؟ ومن كان يستطيع أن يفكر في ذلك لولا هذا العرس الاحتجاجي ضدّ جدار الميز والفصل العنصري؟ ها أنت ترى كم نحن أنذال وأكبر سنا من صهاينة اليوم.
هكذا رحت تبسط الموقف الصادم لرخاوة جنون حلمك وأنت تفكر في هذه القوة الخارقة التي تجعل المرأة بآلاف الأرواح، حيث تجدّد روحها كلما حاولت إحداها الخروج قسرا وكرها من عمق الذات والجسد. ألم تكن تعرف أنها منبع الآلهة؟ قلت في نفسك: أقصى ما يفعله الرّجال إذا مسّت كرامتهم، أو هزّ جوفهم غضب القهر، أن يحترقوا مرّة واحدة، فيسدل الستار على معركتهم التي قد لا تقوى على أن تكون دائما منتصرة، باستثناء منارات مضيئة تلامس السّماء وترفض الانحناء في وجه الطغاة، كشعلة البوعزيزي التي تبادلتها الشعوب ولا تزال.
تفكّر بعمق لا يخلو من التباس فعل الصدمة، كيف استنفذ الذكور أجسادهم في حروب الابرتايد؟ في وقت كانت النساء منشغلات بما هو أرفع وأسمى من هذه الحروب الطائفية التي تمتد في أدغال حنين العودة إلى الماضي. وهذه الخبرة والتجربة مع تاريخ أجسادهن مكنتهن من خوض أكثر من معركة، دون الخشية من الاندثار والانتحار والاحتراق العاجل، أو بالأحرى من الانطفاء بسرعة كالشهب اللامعة. ما كنت تحتاج إلى كل هذا الجهد المرهق للنّفس والجسد لتكتشف بسخريّة لاذعة أن المشكلة لا تكمن في الصدور العارية، بل في بديهية كينونة عينيك الأخلاقية، دون أن يعرف مسارك الفردي والجمعي أن لا ثوابت في الأخلاق أيها الرّجل القديم الأقل شأنا من شبيهك البدائي الذي كان يسكن الكهوف، في وقت صرت الآن مأوى ومسكن ومثوى الكهوف، فلم لا يسحرك حنين شوق العودة إلى الظلال الوارفة لشجرة الماضي؟
عندما انتفض الصّدر العاري وفاض أمام عينيك اقشعرّ متخيلك الأخلاقي، وهزّه في الأعماق اختناق انتصاب الرّغبة العصبي. لم تستسغ مقايضة المتخيل بالواقع، فقد تعودت الذكورة أن تستلذ استيهامات مكبوت المتخيل، فكيف لها أن تخنق الهوامات السابحة في عالم المتخيل المرضي، وتتنازل ببساطة عن إسراء ومعراج الشهوة الحالمة بسراب المتعة واللذة الموعودة في جنات المكبوت، حيث قطوف أشجار الجنس دانية؟
فجأة أجفلت وكأنك تدرك سرا. يا لغباوتك وأنت تحاول أن تفهم سر إمعان الرجال وبإلحاح شرس وعدواني عصبي على زي الحجاب والنقاب. هل لأن ذاكرة الرجولة ترتج وتتزلزل وتصاب بنزيف حاد وهي ترى الصدور العارية كواقع ملموس بأشفار العين تسقط متخيل المكبوت من عليائه؟ فبدا الطابو المدنس والمقدس، المعبود بعذاب لذة الألم، على أنه ليس أكثر من إنسان لا يتسع لكل هذا المتخيل الموبوء، خوفا ورعبا وموتا، والمزركش بهوامات استعذاب الألم، وليس متعة ولذة الجسد.
تبتسم بغباء وبلادة وأنت تهمس في أذن ذاكرتك التي أصيبت برعاف حاد، كم كنا أغبياء؟ وبدأت تصرخ دون أن تقوى على الكلام، وكأن طفولتك وكل ما تربيت عليه من تنشئة ثقافية مجتمعية ترقص رقصة الديك المذبوح. فصرت تصرخ من عمق أعماقك كمن يجهز ترسبات دواخله لقيء الرّجل القديم في انفجار عنيف. الجدران، الغربة، المنفى، السجون، التنكيل، القهر، العري والاغتيال... في داخلنا وليس خارجنا. نحن بنيناه وحرصنا على صيانته وترميمه وعلوه عبر تاريخ تسكنه عقدة ذنب انحدار الزمان وفساده...