فجأة أرخى ليل الحنين سدوله، وهم في حضرة وسواس العودة القهري، يترنحون من طول الانتظار. حزموا أمتعتهم فرحا بحق العودة إلى المرايا المكسرة؛ التي لاح محياهم فيها في سماء خيال الشوق والحنين، وفي أذهانهم بقايا صور من الماضي، تناسلت بكثرة فوق سهوب صحراء ذاكرتهم التي شكلها مخيالهم الاجتماعي للاشعورهم النفسي الثقافي. تحت وقع ضربات هجير حنين التصحر، فرّ الحلم هاربا من القتل العمد المدبر بنيّة الاغتيال، وتركهم جثثا يتجاوزون واقعهم بسراب العودة إلى أصولهم.
تعساء في منفاهم الداخلي العميق. تمزق الغربة دواخلهم، و يسكن شطح المخلص عيونهم. لم يكن هناك شك في أنهم عائدون. لم يكونوا في حاجة إلى أوراق ثبوتية لملكية الماضي، فهم أب عن جد من سلالة أهل الكهف لا يتغيرون. ملامحهم، لباسهم، قسمات وجوههم..
آه عيونهم كانت من شدة فرح العودة تبدو لي مقلوبة إلى الداخل في مناجاة ساخنة عميقة يرسم إحداثياتها عالم الحنين. نظروا إلي بسخرية وهم يتغامزون، لم يكن من الصعب علي أن أدرك قصد استهزائهم. وبقدر ما أكره الحنين والشوق إلى الماضي أكره أيضا الندم، الحنين طريق للسقوط في فخاخ الرومانسيّة. كانت وقاحتهم عالية الصوت، يقهقهون بصورة أقرب إلى النهيق الموازي لشهوة الانتصاب المصاحب للشفاه المرتخية كفروج حيوانات تفرز لعابها المقزز المقرف.
أجل أعرف إيحاءات سخريتهم اللاذعة لأني حسمت أمري منذ زمن موغل في القدم، وتحسبت لمثل جنازة هذا اليوم الملعون بكل لغات الحياة. شعوب تنتحر على صخرة عودة الماضي.
لقد حطمت كل ما يمكن أن يكون عشا لذاكرة الحنين، كما أحرقت سفن خيالات الظل العذبة لسحر العودة. كم هو جميل أن أدرك في وقت مبكر عقم أن أستلذ بتعذيب نفسي بهلوسات الماضي الدفين. في ذلك اليوم البعيد في مزبلة الماضي أحسست بدوار يلف رأسي، حالة مؤلمة من الغثيان المكفوف في الداخل يحرق جوفي. رغبة جامحة في القيء المتمنع عن التدفق والانفجار. وفي لحظة جديدة في العالم شعرت بأن ذاكرتي لم تعد عشّا لحنين الماضي، ألقيت بكل أثقالها على مرأى ومسمع أهل القرية.
لا فرصة لأية حيلة لوهم يضللني بحنين العودة، لذلك لم أكن راغبا في قراءة الكثير من فكر العودة إلى التراث، ولا في أدب العودة شعرا ورواية، حيث انتشرت لغة السيرة الذاتية في ثنايا ثقافتنا بشكل مهول كالنار في الهشيم، ولم تسلم أغنيتنا من ذلك وهي تتجول في الأرياف مزينة فقر الفلاح وذلّه ، متلاعبة بابتسامة البسطاء والأطفال. أذكر كم كنت مضحكا ومصرا بسذاجة أحادية ضيقة وأنا أتغابى في التحايل على رواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” حيث لم أبدأ قراءتها إلا بعد أن غيرت بقلمي العنوان ليصير “قادم إلى حيفا”.
لم يكن الموقف يتطلب كل هذا الحقد العنيف تجاه أي ملامسة لحنين العودة. لكن قوة ما كانت تدفعني بشراسة. لعله الحلم. أجهزت على هذا الخبث المقرف الذي يحيط بي بدءا بموقد أمي لأتحرر من سطوة حنين مرضي لعبودية لذة وشهوة الطعام الريفي المسربل بالرماد والدموع والمخاط العفن للفقر الكافر.
فككت رقبة الحمار وما معه من شيطنة الطفولة من ذاكرتي، فصرخت بأعلى صوتي أنتم طلقاء. مزقت عباءتي أمام الجميع قرب المسجد الصغير للقرية، وشتمت في نفسي الذل والجوع والقهر وكل البشاعة والخبث الإنساني في الرضا الأحمق بالعيش ما دون خط البشر. تهامسوا فيما بينهم على وصمي بالجنون. لم أحتج ضد هذا الجنون الكامن في أعماقهم، والموجه لنظرتهم وأفكارهم وعلاقاتهم. تجرأ بعضهم للقول بوضوح أنني أهذي. عندها تذكرت لقائي الصعب بفان خوخ وكيف حكا لي عن جنون مجتمعه الذي باركه في أعماقه. باغتني بالسؤال وأنا أستعد لأساله عن سر انتحاره، وكيف لم يحل عمق حياة الجمال الفني للوحاته دون ذلك. قال لي يومئذ وهل تعتقد بأن الفنان ينتحر؟
وأردف قائلا: حاولت قتل اللوحة وبتعبير أدق اغتيالها، لكن كنت في كل مرة أنهار وأسقط بشكل كامل دون أن أقوى على خدش اللوحة. وقد تأكدت أنه لم يعد هناك بصيص نور أشد عليه بحرارة، فالأفق صار مظلما واستحالت الرؤية، بكلمة واحدة نضب الحلم، استنفذته. حاولت أن أمسك بأي خيط رفيع يصلني بالحلم، لكن الحنين كان قد غطى كل شيء ونشر أسماله العفنة. أعتقد بأنك تفهم الآن جنون مجتمعي الأرعن، فقد كان مأخوذا برومانسية العودة إلى الخلف التي لم تكن تسمح لي بالبقاء، عندها رسمت آخر لوحة بدمي الحي أي بحياتي.
لم يكن ممكنا قبول هذا الارتباط الجنوني بلذة استعذاب ألم الحنين المرعب والرهيب إزاء الفقر والجهل والتخلف والذل والحياة البئيسة لكرم الفقير وشرفه. وكان السؤال يدك سياج وهم رومانسية الشوق والحنين رافضا باستعلاء متهور سماع صوت مارسيل وهو يعانق الوجود المبحر في سفينة طفولة الماضي: “أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي وتكبر في الطفولة ...”
يصرخ السؤال بجرأة عالية في وجهي ألهذا الحد يصير الحنين تهذيبا للنقمة والاحتجاج والثورة على القديم، على التقاليد والعادات وكل السائد المنمق بأسماء الخصوصية والأصالة والهوية؟ وحين يهدأ قليلا يرسل حكمته بوضوح قائلا: من يحن لا يحلم. من سكن الحنين والشوق قلبه وعقله فقد ودع الحلم نهائيا وفتح على نفسه أبواب جحيم مرض كوابيس الماضي.
اتسع قليلا أيها الجنون العظيم ولا تبخل علي بشعاع من نور يمنحني عينا ثالثة بسعة الحلم. لا تدع كوة قد يتسرب منها حنين يشدني إلى الدفن والموت والرضا الكاذب بمعزوفة “العفاف الكفاف والغنى عن الناس”. أثمر أيها الجنون حلما في القادم الضاحك الآتي بعين القلب والعقل، ولا تدعني وحيدا في جوقة مرضى حنين العودة المخنوقة الأمل والأنفاس. لوحة فان خوخ الأخيرة أرحم من الحنين حيا تزين جبهته زبيبة شاهدة قبر كتابوت لقى الماضي الذهبي النفيس! لا أريد أن أكون صاحب بركات، ولا لي القدرة في إتيان الخارق المدهش، أو السّاحر الخلاب، كاشف الكنوز على مذبح قربانه النساء والأطفال.
هدمت كل شيء، وحطمت كل قلاع الشوق والحنين. ليست لي مذكرات يومية، ولا أفكر إطلاقا في كتابة ضريح سيرتي الذاتية. لست وليا صالحا ينعم بزاوية، أو برباط البركات. لن أعود ..لن أعود. أنا لست أنا، حي أصير كل يوم أنا. لأكون وأصير، لن أعود ولن أعود. أنا قادم لن أعود. حرفتي عشق جنون الحلم. أنا قادم لن أعود.