“لا أريد أن أبتزكم لأستدر عواطف الشفقة عندكم، فأنا بمقدار ما أكره السجن أكره الشفقة، لأن هذه العاطفة، ثم الخوف الذي يليها من الأسباب القوية التي جعلت السجن يستمر حتى الآن. فالواحد منكم، بعد أن يحزن، وقد يذرف الدموع، يضع رأسه على الوسادة وينام، متوهما أنه أدى واجبه، و أنه نجا، وقد يشعر بالسعادة التي تصل درجة الغبطة، لأنه لم يكن الضحية!” الآن هنا“عبد الرحمن منيف.
منذ البداية أقول لكل من يريد قراءة هذا النص أنني لا أستجدي أحدا ولا أطلب الصدقات ولست مشعوذ هذا الزمان و لا الولي الذي يزكي نفسه بالبركات والكرامات الخرقاء. هذا النص جزء من تجربة حية عشتها و لم أسع إلى تزويقها ولا إلى تنميقها. لقد سقطت أثناء الكتابة الكثير من التفاصيل المهمة وحسنا فعلت فربما أجلت موتها الموعود. وعندما أنهيت كتابة هذا النص فوجئت بأنني خنقت الكثير من الأصوات التي كانت تطالب بحقها في الكلام كبعض المرضى الذين عشت معهم التجربة المشتركة. كما أن المدينة احتجت بعنف على هذا الإقصاء القريب إلى الإذلال. لكنني واثق بما فيه الكفاية من نشأة مستأنفة للكتابة من جديد.
وأخيرا قررت أن أنسى لم يكن هناك خيار آخر غير الكتابة لكي أتخلص من هذا العبء الثقيل لتجربة الألم والحياة. تجنبت الكتابة كثيرا وإن كنت في بعض اللحظات قد تجرأت بشكل أو بأخر على خدش السر المكبوت لتجربة الصراع ضد المرض. والأسباب كثيرة لكن أقواها هو الخوف من وهم لعب دور البطولة متناسيا أن الأمر متعلق في أغلب مواقفه بالقدر أو ما يمكن أن نسميه بالصدف المفرحة ذات البصر الحاد والفكر الثاقب الطموح إلى معانقة الفرح الكبير في امتطاء بساط الأمل المشبع بحب الحياة وقد تطلب ذلك جهدا معنويا ليس سهلا في الوصول إليه ولا هو في متناول اليد بالبيع والشراء بل كان علي أن أتعلم من جديد جسديا وعقليا اللغة والثقافة الغذائية السليمة وفنون عيش الحياة بكامل عنفوانها الطبيعي والحقيقي. كان علي أن أتعلم المشي على رجلي بعد أن اكتشفت أنني كنت أمشي على رأسي. والهدف واضح في تقوية صحتي النفسية باعتماد مختلف عناصر الحياة كالتفاؤل والفرح والانشراح والضحك كتفكير إيجابي يتسلح بآليات الإيمان والخيال والتخييل والأوهام والهوامات والأحلام الليلية والنهارية في النوم واليقظة وفي ممارسة الرياضة بتركيز وتأمل عميق مع التمرن على إفراغ الذات من كل نفايات التوتر والاضطرابات الانفعالية بمزاولة أشكال مختلفة من الاسترخاء.
أخاف أن تغلبني الكتابة وأتيه في ثناياها ومنعرجات منطق اشتغالها الداخلي فتضيع التجربة في حدودها ومحدوديتها وسط لغة قد تخفي ظلالي وضعفي وحالات الخوف والرعب التي كانت تلفني بجمر نار ملتهبة في أعماقي وأنا أرى النزال الصعب وغير المتكافئ بيني وبين المرض اللعين . ها أنت ترى إلى الآن أنني لا أقوى على تسميته إذ مازلت أشعر بنوع من الخوف لا أستطيع إخفاءه وهذه هي الصراحة الواضحة والبعيدة عن أي كذب بهتاني تتبختر في زيه المشوه الذات المتعجرفة بوهم الاستثناء في امتلاك القدرة الكلية على إتيان الغريب المدهش والساحر الخلاب الخارق لمنطق الحياة في قوانين الولادة والتكون والتطور والفناء. لست مجذوبا ولا صاحب بركات ولا أثق أو أعتقد في ذلك. هذه الصراحة في الاعتراف بمحدودية تجربتي كانسان التي لا أريد أن أخفيها عليك فمهما حاولت تقوية مناطق ظلي وترميم الوهن والضعف وحالات الانكسار والهزيمة التي كانت تتسكع بوقاحة بشعة وبسلوكات بلطجية في أعماق قلبي وهي تحكم سيطرتها على نفسيتي دون شفقة ولا رحمة فأنني لم أستطع أن أقلب الطاولة وأمارس التغيير بشكل جذري وثوري إلى أبعد الحدود داخل ذاتي إلا بفضل رواية”ألان..هنا“أو شرق المتوسط مرة أخرى” لعبد الرحمن منيف فأنا مدين بالشيء الكثير لهذا الإنسان والروائي العظيم الذي متعني بجمالية فنه الشائق المتميز وأسهم في جعلي أرى الوجوه المتعددة والمتنوعة والمختلفة الأشكال والمستويات للحياة إلى جانب طبعا الكثير من النصوص الأخرى التي اندفعت فجأة ودون سابق إنذار وبعيدا عن أي تخطيط أو تفكير مسبق من منطقة مجهولة بالنسبة لي في ذاكرتي والأمر يتعلق طبعا بالكثير من أدب السجون “كمجنون الأمل” و“كان وأخواتها” بالإضافة إلى كتابات نظرية لمفكرين رائعين. وإلى حدود اليوم لا أعرف السر الكامن وراء هذا الاختيار الرائع والسديد الذي أخذت زمام مبادرته جهة أو أناة مجهولة في أعماقي. لقد قرأت الكثير من الكتب إذ كنت مدمنا على القراءة إلى درجة أزعج فيها عائلتي بهذه العادة المبالغ فيها والقريبة من شر الوسواس الخناس كما يقولون وهم يقدحون في هذا الارتباط الجنوني بالكتاب. والجميل في هذا أيضا أنني لم أشعر في حياتي إلى اليوم بالتعب أو الإرهاق و الملل من القراءة والمطالعة بل أكاد أجن كلما وجدت نفسي في ظروف طارئة بدون كتاب. وكم يكون حزني وألمي كبيرين حين لا أتمكن من شراء بعض الكتب لأن دفع زكاتها يتجاوزني فأكون في حكم المرتد متمنيا أن يكون لي في ميسر الجوطية للكتب المستعملة أو المسروقة توبة لاقتنائها قبل أن يصدر الحكم بهدر دمي. هكذا تجعلنا كتب في نشأة المجتمعات والفكر والدولة خارج الدولة مجرد شعوب حمم بركان على أهبة الانفجار. أحيانا تجد نفسك في رحمة دواليب الجاهلية وهي هنا تعني فن أو ذكاء تدبير العيش الشعبي وأنت مسلم أي إنسان مكره في كل حين على إعلان إسلامك أو إنسانيتك في حرب ضروس لاحتكار شرعية العنف والخطاب والمكانة والسمو والرفعة والمال المؤهل للسدة العالية. كلا بل تحبون العاجلة. وتحبون المال حبا جما.
فلولا حبي الكبير لممارسة الرياضة كلعب الكرة مع الأصدقاء أو العدو في الطبيعة لأصبت بعاهات التمترس المبالغ فيه وراء قراءة الكتب. لقد نشأت بطريقة أعتبرها في نظري رائعة وممتازة كيف حدث ذلك لا أعرف ولا أستطيع التبجح أو ادعاء ما لم يكن في الحسبان. لقد استطعت أن أكون في الوقت نفسه إنسانا منعزلا واجتماعيا إذ لا أجد أية صعوبة في أن أبقى مع كتبي في المنزل ليس لساعات فقط بل قد تصل العزلة إلى أيام لا أرى فيها غير أفراد أسرتي. وأذكر ذلك الصيف الحار الجميل حيث اعتصمت في نوع من الصوم أدفع كفارة أجهلها داخل غرفتي لشهرين متتابعين وأنا ألتهم برغبة عارمة ممزوجة بشره الجوع المعرفي العشرات من الأوراق دفعة واحدة دون تخطيط أو تفكير مسبق. أما عندما أجد نفسي مع الآخرين فلا أشعر بأي تكلف أو عوائق في الاندماج والانخراط بشكل تلقائي في الدردشة والحوار والنقاش. وأيضا لا أعرف كيف استطعت اكتساب هذا الارتياح النفسي المعرفي الاجتماعي كانسان مرن منفتح متخلق ومشاكس عنيد إلى أبعد الحدود في رفض الجاهز غير المنطقي واللاعقلاني وبدون أية مساومات أو نفاق أخلاقي مهما كلفني ذلك من مشاكل في العلاقات الاجتماعية لكن دون أن يصل بي الأمر إلى نوع من القطعية الحادة في الاعتقاد بوهم امتلاك الصواب الصحيح والحقيقة النهائية. لحسن الحظ أن الشعور بالذنب قد ساعدني في تأسيس بنى أولية في المراجعة والنقد الذاتي ولعل هوايتي ربما في المطالعة حررتني من الوجه السلبي لعقدة الشعور بالذنب الذي لم يتمكن من الزج بي في دهاليز النكوص وتأثيم الذات. هكذا عرف شعوري بالذنب مسارات ايجابية في الاستعداد للتفاعل والتعلم من الآخرين والانفتاح على المختلف في المعرفة والناس والحياة. وكان ذلك ربما بداية للابتعاد عن التصلب والتعصب للرأي، كما كان منطلقا لإدراك الحاجة إلى ضرورة التنوع والتعدد والاختلاف في الذات ومع الآخرين والعالم .
لكن الشيء الذي لا أستطيع في تجربتي الثانية مع المرض أن أنكره أو أخفيه عليك أن “الآن..هنا” كانت سندي النفسي الكبير في التشبث بالحياة والعيش بتفاؤل واثق جياش بعيدا عن الاستسلام لإرهاب خوف الموت والثقة بالله الذي يعني عند الناس أشياء كثيرة متقاربة أو متناقضة إلى أبعد حد ممكن، حسب الحاجات النفسية والمادية والمصالح ومستويات الصراع، والثقة أيضا بنفسي على قدرتي في خوض المعركة دون الإحساس بخيانة حق الدفاع عن الحياة كمبدأ جوهري يؤسس لإنسانيتي. هكذا جعلت من تجربتي قضية أرفع وأسمى وتتطلب مني الكثير من الصبر والصمود والثورة ضد كل ما يمكن ان يجهض رغبتي في عشق وحب الحياة.
أظن ربما أنني استسلمت لإغراءات الكتابة ودسائس منطق واليات اشتغالها والا لماذا لم أبدأ كلامي بالصيغة المباشرة بنوع من السرد المتهاطل كمطر صيفي فألخص كل ما أريد قوله في بضعة أسطر فأرتاح من حمل هذا العبء الثقيل ومن فضول القارئ المسربل أحيانا أو غالبا بالشك والغمز والسخرية المبطنة والصريحة. وهل أستطيع حقا أن أفعل ذلك دون أن أشعر بالحزن والقلق وبنوع من اللوم بالدونية وتبخيس حق الذات في عيش الحياة والتمتع بكل عناصرها بما في ذلك حق الكلام والتعبير عن النفس بكل صدق و أمانة في عدم تقديم أي تنازل للخوف والانكسار والهزيمة. لأن ما يشغلني بشكل كبير وحسب اعتقادي البسيط والمتواضع أن ما عشته في هذه التجربة مهما كانت قيمتها في نظر الآخرين لم يعد يخصني وعلي أن أحكيه للآخرين ربما رأوا فيه ما يستحق القراءة والإفادة أو السخرية والازدراء أو سارعوا إلى قراءة “الآن..هنا” ليتأكدوا بالفعل أن الإنسان كائن عظيم وله قدرة خارقة على تجاوز المحن والكثير من الصعاب وأن بين الصمود والسقوط لحظة صغيرة في الزمن كومض البرق وليتأكدوا بشكل أساسي على قدرة الكلمات والأفكار على تغيير حياة الناس وإسقاط العدد الوفير من الأقنعة التي تخفي التنوع والتعدد والاختلاف الذي يطبع الحياة والابتعاد نهائيا عن الأخذ بالأحادية في الفهم والقراءة والتأويل و النظر والنقد والرؤية والتفكير والتخييل والحلم، وفي إنتاج المعاني والدلالات والتأسيس لعلاقات العشق والحب والتواصل والتعاون وفي احتمال ولادة الجديد وغير المألوف...
أعتقد بأنني ورطت نفسي في حيل الكتابة وفخاخها مع العلم أنني لست بعلها أو بغلها الماهر المعترف به من قبل أحد دكاكين اتحادات الكتاب العرب المرمية الآن في سوق النخاسة نتيجة عجزها عن فهم ما يحدث الآن ناهيك عن الإسهام فيه. لذلك علي أن أجد شقوقا سردية بسيطة لإخراج كل هذا العذاب من الكلام المندس والمكبوت والمندفع بقوة الجموع رغبة في الموت أو الاحتراق. هكذا يكون سحر النور الوهاج لليلة الفلق المقموع والمكبوت أو المرعوب بهمجية الاستبداد بجميع أشكاله. في منعطفات مثل هذه يكون الإنسان أو الشعب كل حسب تمرده وثورته في وضع أقرب إلى كليم الله. وليس بدعة أن نقول في مثل هذه الحالات الإنسان كليم الله أو الشعب كليم الله. وإذا تجاوزت سطحية الرمز في الاقتباس سترى ما لا تدركه الأبصار وعندها تعرف بأن الحياة هي التي تتكلم وتخاطبك وهي تعبر عن أجمل و أعظم قوانينها في التجدد والتغير والثورة.
أهكذا إذن لعبة أو لعنة الكتابة تتمنع وهي تتلاعب بصاحبها وتزرع الريبة والشك في القارئ حتى يسيء الظن بصاحبه وربما رماه بوصف ذميم الخلقة والخلق في تمثل التلقي الجمالي لفنه أو مسخه متجاهلا سياقات عنف متخيل الكتابة وهي تقودني بعيدا عن رغبتي الذاتية في نشر غسيلي الطيب أو القذر بأسرع وقت ممكن و بأقل الكلمات، خاصة وأنا أفضل شعار خير الكلام ما قل ودل.
في الحقيقة هناك فرق كبير بيني وبين الشخص الأخر الذي كنته في تجربتي الأولى مع المرض. كنت خائفا مذعورا وجبانا وأنا أعيش تجربة المرض في بداياتها. واستمر الرعب والخوف المرهب سلطانا علي وبذلك تحالفت ضد نفسي وسلمت كل أسلحتي وتركت المرض يقودني نحو المذبح و المسلخ دون رحمة، وبتعبير أدق كنت في وضعية القربان المختار الأقرب في الدلالة إلى العبودية المختارة. صحيح بأني خضعت للعلاج في المرة الأولى وهشمت الأشعة رأسي بما فيه الكفاية أو يزيد، وضعفت قواي وأنا أشم لحمي المحروق بتأثير الأشعة. وصحيح أيضا ان فترة العلاج الأولى مرت في ظروف صعبة إذ كنت ضيفا عندي أختي بالعاصمة وكانت المسكينة تعيش رفقة أولادها و زوجها المتقاعد ظروفا مادية ومعنوية في غاية الصعوبة والتعقيد. إلا أن الظروف المادية الصعبة في نظري لا يمكن أن تكون سببا أو مبررا للكثير من الاضطرابات والتمزقات المنتجة للأمراض المزمنة النفسية والجسدية ولحالات القنوط واليأس التي يرزح الإنسان تحت وطأتها. إن المنطق الثقافي الاجتماعي السياسي المسؤول عن صياغة الذهنية وتكوين الشخصية هو الذي يتحكم في نمط الوجود وأسلوب الحياة، أي في ذلك الهروب اللاهث دون مهلة تفكير أو لحظة استراحة صغيرة لاكتشاف أن ما يبدو ضروريا أو طبيعيا ليس كذلك حقيقة، بل هي قوة اجتماعية سياسية تتخفى وراء وهم الرزق و لقمة العيش والحلم بمستقبل مختزل في متساوي الأضلاع يبدأ بالوظيفة والزوجة والأولاد والشقة، وإذا انحرف أحد الأضلاع قليلا تدخل السيارة كضيف ثقيل يزين الوجاهة الاجتماعية. هذا هو التجسيد الحي للهيبوتلاموس، أي لما تبقى للإنسان في انحداره الوجودي إلى المستوى الأدنى في الحضيض الأسفل لممارسة عيش الحياة : الانفعال والأكل والشرب والجنس البدائي.
قلت كنت وأنا أتابع العلاج في تجربتي الأولى منهارا إلى أبعد الحدود ولم أكن راغبا إطلاقا في قراءة أي شيء. كنت أشعر برغبة جامحة في الكتابة لكن لأسباب كثيرة منها ربما حالتي النفسية المحبطة وغياب أي تفاعل إيجابي كسند ودعم نفسي عاطفي لم أستطع أن أكتب حرفا واحدا وضاعت بذلك أجمل النصوص مهما كانت قيمتها الفنية والمعرفية.
كم هو محزن ومقلق أن يغيب الأخصائي النفسي والاجتماعي عن مدارسنا ومستشفياتنا. بحكم التجربة التي عشتها أثناء العلاج أقول إننا نحتاج إلى هؤلاء بالدرجة الأولى أكثر مما نحتاج إلى التعلم والغذاء والدواء. ومجتمعاتنا في ثقافتها ومؤسساتها التربوية والصحية والاجتماعية بعيدة كليا عن الاعتراف بالإنسان قبل أي شيء أخر. عندما تفتح بلادنا في القرى والمدن ذراعيها للأخصائي النفسي والاجتماعي ويرشد الفقيه المرضى إلى هؤلاء عوض أن يخرب العقول ويدمر القلوب ويحبط العزائم وينهك المريض وأسرته بعذابات الخرافة والشعوذة والأباطيل البعيدة عن روح الإيمان والعلم، فذلك مؤشر قوي على أننا نسلك الطريق الصحيح في الحرية والديمقراطية والتنمية.
كنت وحيدا بائسا وأنا أصارع الخوف من الموت بسلاح الخوف، ولا كتفا أتكئ عليه. هذا هو الفقر المدقع الحقيقي الذي على الإنسان أن يضعه في الحسبان ويفكر جديا في عدم السقوط في حبائله وفخاخه. لأنه عندما يكون الإنسان في وضعية مثل هذه لانعدام الأمل، فهو بذلك يتعرض بمحض إرادته بشكل ذاتي لأقصى أنواع الإرهاب.
كان علي أن أحضر إلى مصحة الأنكولوجيا كل صباح قبل الساعة الثامنة حتى أتمكن من أخذ دوري للعلاج في الوقت المناسب، وهناك في الطابق الأرضي أو السرداب كنت ألتقي بالمرضى مثلي والكثير من هن نساء وقد كنت الصغير سنا الذي لم يتجاوز عقده الثالث بين الرجال، وبين النساء أيضا كانت هناك فتاة في عمري نفسه أو تصغرني قليلا وهي تعاني من سرطان الثدي. وكنت أسمع حرقة الألم من كلام الجميع حين تدخل الفتاة لأخذ حصتها من الأشعة. المسكينة لا تزال صغيرة، كيف تعرضت للإصابة. ينسى كل مريض نفسه ويحفر تحت تأثير الخوف والدهشة في تساؤلات الاستغراب الصلب عن سر همجية المرض الخبيث الذي لا يميز بين الصغير والكبير. إنه الموت في أحد تجلياته الرهيبة و البشعة. وكنت أشارك بتعليقات خجولة في هذا اللافهم المرضي في الوضع البشري. وما كان يدور من كلام وراء ظهر الفتاة عندما يغيبها السرداب ينطبق علي أيضا لكوني كنت أصغرهم. ومع الأيام بدأت أتخيل تعليقاتهن وتعليقاتهم عندما أنزل إلى عمق السرداب لأخذ حصتي من الأشعة. لعل تفاوتات وضعنا الصحي كانت تسمح بنوع من المقارنة المولدة للأمل الشاق الذي سرعان ما يتلاشى حلمه مخلفا غبارا خانقا تحت ضغط اليأس و الرعب و الفزع و العجز الذي ترخي أسمال ظلامه سطوة بطش المرض في قهره المحكم للنفس المتعبة المرهقة والمنكوبة بخراب قنابل متفجرات الألم النفسي التي لا تكف عن تدمير الحياة في الأعماق. وفي بعض المرات تجرأت مع نفسي بصمت مذعور خائف فتساءلت عن السر في عدم وجود الطبيب أو الأخصائي النفسي. كنت في أمس الحاجة إلى الكلام لكن الصمت القامع كان سيد الموقف. وهل يمكن عبور الصحراء بدون ماء؟ إلى اليوم مازالت حرقة عطش الكلام موشومة، ليس بالحديد والنار، بل بالديناميت المخصب، في كل جزء حي من ذاتي كلها. ولن تستطيع ألاف الصفحات أن تطفئ ذلك العطش الحارق المكبوت والمقموع. كنت في قرارة أعماقي أعتقد أننا في أمس الحاجة إلى من يسند معركتنا نفسيا ومن العيب والعار الإنساني أن نترك وحدنا عزلا في ساحة الموت في انتظار الدفن. أن يموت الإنسان ليس ذلك مشكلة كبيرة لكن أن يعيش موته كمن تسحبه مياه الغرق لحظة بلحظة دون أن يملك حق الصراخ والناس من حوله غارقون في سجود السهو لعبودية لقمة العيش ساهون أو يتفرجون ويتحسرون بأدب وأخلاق ثقافة ليست كاذبة فقط وإنما متعهرة وداعرة ومشاركة في القتل بشكل أو بأخر. هل يمكنني الآن أن أفهم لماذا نتفرج على قتل الإنسان، في كل مكان في العالم، وحتى في فلسطين المحتلة، وفي مجازر البلدان العربية والإسلامية ذات الاحتلال المحلي، بحياد الخوف الأناني البارد؟
ولا أخفيكم سرا إذا قلت بأنني في تلك اللحظات الأليمة أحسست و شعرت بحزن كبير لا حد له في الحجم والعمق والاتساع، وفي الحدة والشدة والتكرار، وأنا أرى في تلك اللحظة موت أمي قبل هذا التاريخ من مرضي بسنتين نوعا من الهجر أو الغدر المقصود. ثم لماذا يبدو لي موتها هكذا الآن وأنا أواجه المرض وحدي. هكذا وبتلقائية أجهل خباياها العميقة والملتبسة عشت قلق سيكولوجية الهجر أو الانفصال بشكل مضاعف وأنا أستحضر روح أمي في هذا الجو النفسي القاهر برعبه ووطأته الثقيلة والحارقة، كما لو كنت تحت تأثير وقع سوط أسياخ النار التي يجلدني بها عطش الكلام المقموع. ولا أعرف لماذا كنت واثقا من نفسي أنه لو كانت أمي حية ترزق بجانبي لهان المصاب الجلل ولتغلبت عليه بكل سهولة. هل ربما ذلك العطش النفسي في التعبير والكلام هو الذي كان مصدر هذه الأفكار و الأوهام أو الخيالات العرجاء؟ أم ذلك الغياب للمؤازرة والدعم النفسي هو الذي فجر هذه الرغبة المدفونة في القلب للعودة إلى حضن الأم والالتحام بحبل السرة من جديد رفضا لبشاعة هذا العالم النابذ؟ أعترف بحبي الكبير لأمي، هذه المرأة أو الإنسانة الشجاعة العاقلة الواعية المبادرة والطموحة ذات الرؤية النقدية الواسعة والصارمة في تقدير متطلبات الواقع الحي وما يستلزمه من مهام في الفعل والجد والممارسة. كنت بشكل ما تحت ضغط نمذجتها في التعلم الاجتماعي والانفعالي، كما أنها لم تكن تسلبنا أنا وإخوتي حقنا في التميز والاستقلالية. وإلى اليوم أنا مدين لها بالكثير خاصة بذلك الاسم الذي حلمت به وهي أمازيغية لا تعرف من العربية إلا القليل. قالت بأنها رأت في منامها رجلين يصعدان الدرج ويدخلان معها في حوار ملتبس حول اسم المولود وأنا نائم لم أتجاوز يومي السابع. فاتفقوا على أن أسمى... لكن السلطة الأبوية رفضت ذلك وهكذا منذ طفولتي لم أتخل بدوافع غامضة عن الاسمين معا، وأحد أبوي رسمي في الأوراق الثبوتية لهويتي، والآخر في القلب والذاكرة والتواصل الأسري الحميم. كما أنني أكتب بالاسمين، و قد نشرت نصوصا كثيرة بهذا الاسم الأمومي الجميل في مواقع كثيرة منها منبر الأوان ولا أتقنع تحت اسم مستعار ولا أشعر بأي تناقض بين الأناتين بل بنوع من التكامل المفعم بالحساب العسير من طرف أنا اسم الأم النقدية الصارمة المتمسكة بالعقلانية والرفض والتمرد وعدم التساهل إزاء السائد المتعفن. أما أنا الأب ففيها الكثير من الرزانة والهدوء والمناورة والنفاق الأخلاقي والاجتماعي والشهوة في التغلب والقهر في المكانة والسيادة والأكل والشرب والجنس. لكن لحسن حظي أن أنا الاسم الأمومي تحسم الكثير من التعفن في داخلي وتجعلني إنسانا رائعا مرتاحا لصورتي وهويتي الذاتية. لكن هذه اللوحة المتزلزلة الجميلة لهويتي لا أحصل عليها بشكل مجاني، بل لابد علي كل يوم وساعة ولحظة من دفع الثمن، وهو ما يتجلى في الزلزلة التي تعرفها أعماقي. ويمكنني أن أحيل القارئ الصبور إلى نص الزلزلة المنشور في موقع الأوان. أما لماذا لم أنشر هذا النص باسمي الآخر فذلك راجع إلى أن تلك الأنا الأمومية تنظر إلى كتابة من هذا الشكل والنوع على أنها مجرد ترهات و أسطوانات صوفية رديئة لا يستسيغها القارئ الذي أغلب همه هو البحث عن المتعة واللذة الآنية كضوء هارب، يعيش حياته وفق إيقاع الإمساك بهواماتها وسراب أحلامها. على أي لقد نجحت إلى حد ما في أن أخصب في داخلي هذا التنوع والتعدد ألاختلافي التكاملي بين المقدس والمدنس بين الوفاء والخيانة بين الإبداع والقذارة بين الذكورة والأنوثة وكل ما يمكن أن يبدو لك ثنائيا بين الايجابي والسلبي بالمعنى الأخلاقي هو ليس كذلك، لسبب ليس بسيطا هو أنك كالأعمى الذي تورطه ضحالة وفقر وجهل الشجيرات العصبية لدماغ ثقافته المنحطة في سلم الخبرة المعاشة والتجربة الوجودية والمعرفة العلمية والثقافة الأخلاقية الإنسانية في مستنقع المغالطات الذهنية و البصرية والحياتية كما لو أن الأرض لا تدور. أنا لا أريد أن أخرف عليك بنوع من الهلوسة الأقرب إلى الحمق الأدبي. فأنت عندما تجعلك عيون جهازك العصبي الثقافي ترى المقدس فيما أريد له أن يكون المدنس والوفاء في الخيانة والإبداع في القذارة والأنوثة في الذكورة فإنك حتما لن تجد مثلا صعوبة في رؤية العفة والوفاء والإبداع والجمال الساحر الأخاذ في امرأة سافرة.
في الحقيقة أصارحك بصعوبة القول في هذا الشأن ورتق فواجع عذابات ألم التجربة بخيوط الكلام، وإلا لماذا أخاطبك بصيغة المذكر؟ مرة أخرى علي بأخذ الحيطة والحذر من هذه الحفر التي تنصبها الكتابة فتبعدني عن لغة السرد الجوال التي أريدها مطية لي وللقارئ في هذا السفر والسفر الحكائي.
لا أنكر المودة والتعاطف الرائع من طرف إخوتي وأبي لكن من أين لي بذلك الزاد أو ذخيرة المحبة الصامتة وأنا بعيد عنهم تفصلنا المئات من الكلمترات؟ ما أبشعنا في ثقافتنا التي تربينا وفقها ونحن نخجل بنوع من الوقار والحشمة اللئيمة ونصاب بالعجز عن التعبير عن عواطفنا تجاه أمهاتنا وإخوتنا وعن ممارسة حبنا الرائع معهم بتفاعل خلاق ومنمي للذات والآخرين. كان أبي رحمة الله عليه حزينا وهو يعاني بصمت حين توجهت إلى العلاج قاصدا العاصمة.
حدث ذلك في نهاية سنة 2000 وبالتحديد في شهر شتنبر من السنة نفسها إذ اكتشفت بشكل حدسي أن ما أعاني منه هو عبارة عن ورم خبيث لقد خمنت ذلك بناء على ما تحصل لدي بسبب قراءاتي المتنوعة من ثقافة صحية. ولأسباب كثيرة أهملت المشكلة إلى حد ما. صحيح بأنني قمت بزيارة طبيبين في الطب العام و أثناء الفحوصات كنت لا أخفي للطبيب وساوسي أو شكي أو حدسي بخطورة المشكلة لكنه ابتسم واستبعد ذلك، بل وبخني بطريقة لبقة وهو يطلب مني أن أبتعد ما أمكنني ذلك عن الغرق في بحر الوسواس خاصة وأنني شاب في مقتبل العمر وقوية البنية والبنيان. لكن لا أعرف ما الذي جعلني عارفا عالما بحقيقة أو طبيعة المرض في وقت عجز فيه الطبيب عن تخمين ذلك وجعله احتمالا ضمن احتمالات كثيرة أم أن الطبيب بطبيعة عمله ووعيه وتجربته كمسؤولية صعبة لا يحب أن يورط مريضه في مشكلات صحية نفسية تحتاج إلى هدوء المتابعة وحسن التشخيص؟ وقد ساهم بعدي في إهمالي للمشكلة المطروحة خلال تلك السنة عن المدن الكبرى بما في ذلك العاصمة حيث كل المرافق الإدارية والعلمية الثقافية والمستشفيات الكبيرة والمصحات الخاصة لا توجد في الجنوب. فكل شيء متجمع متمركز ومتركز في العاصمة وما يقربها من مدن كبيرة لهذا لم أباشر التحليلات إلا ابتداء من شهر يوليو من سنة 2001 في إحدى المدن الكبيرة القريبة من العاصمة. كنت واثقا خلال انتظاري لنتيجة تحليل عينة من الورم أن الأمر يتعلق بورم خبيث حيث حسمت المشكلة نهائيا فكنت في وضعية نفسية هشة متعبا مرهقا ومتوترا في دواخلي بنوع من عنف الضبط المفرط للذات، والتألم بصمت دون القدرة على التفكير في شكل أو أسلوب للتجلد والصبر والمقاومة. وهنا تكمن خطورة الهالات المبالغ فيها التي يكونها الحس المشترك للثقافة العامة حول الكثير من الظواهر والقضايا بما في ذلك الأمراض الصعبة المزمنة والمستعصية على العلاج. فبسبب من تأثير هذه اللغة والثقافة العلمية الصحية السائدة لم يكن أمامي سوى الاستسلام للقدر المخبأ. والذي أضعف من قدرتي على المقاومة وأجهز على أي أمل في التغلب أو الانتصار على المرض هو بشاعة ثقافة الحس المشترك الرائجة بين الناس لذلك كان كل أفراد عائلتي ينظرون إلي بنوع من الشفقة الممزوجة بقوة التعاطف المشحون بالعجز عن الفعل أو في تقديم أي شكل من المساعدة، لأن وقاحة المرض وهمجيته محسومة سلفا، وبذلك كانت كل العيون سلبية ومؤدية رغم أنها لم تكن إطلاقا تقصد ذلك وهي تتمزق ألما. هكذا وجدت نفسي وحيدا هشا منهزما في ساحة المعركة قبل خوض النزال حيث رفعت الراية البيضاء بشكل تلقائي خائفا مذعورا من حقيقة ما أعيشه مستغربا خيانة جسدي والغدر بي و أنا مازلت شابا ينتظرني الكثير من الأحلام والطموحات والتطلعات المستقبلية. بعد أن أكدت نتيجة التحليلات شكوكي وحدسي تمت إحالتي على العاصمة حيث يوجد مركز الانكولوجيا لبدء العلاج.
أهكذا إذن منطق الذاكرة في السرد لها إرادتها الخاصة وآليات اشتغالها المستقلة إذ تعتمد على البتر والتجزيء والإظهار والطمس والتلاعب بالزمن والوقائع والمتن، فلشكل أو مبنى التذكر حيله وخدعه بما يتجاوز رغبتي في مواصلة خطية الحكي والإتيان على كل التفاصيل مرة واحدة كما لو كنت أخرج القذيفة من فوهة المدفع العملاق دفعة واحدة وبعدها أشم أجزاء الغبار المتناثر لكياني الحي وأملأ صدري برائحة دخان جوفي المحترق فأستريح من لم شتات أشلاء معاناة وعذبات هذه التجربة. كيف لي أن أحسم هذا التردد في الاستمرار في الكتابة أو بتبييض بنقرة إلغاء كل ما كتبته من صفحات تجاوزتني فيها الكتابة بمنطق اشتغالها المتسلط الرافض لاحتضان الكثير من التفاصيل التي اعتبرت في عداد وقائع المتن المفقودة؟ هناك الكثير من التفاصيل المهمة التي همشت بذرائع أجهلها وبحجج ملتبسة في التخمين و غير مقنعة، أو ربما تؤجل نفسها بتواطؤ مع خيانة لغة الكتابة لصفاء وبداهة ما حدث أو اعتقدت أنه حدث بتلك الطريقة التي أتخيلها الآن وأتصورها قوية الحضور في السيطرة والهيمنة على دواخلي. وربما كنت عاجزا عن امتلاك لغة الخرق والخدش والمراوغة للجاهز الناجز السائد في الكلمات والتعابير، وفي التركيب والدلالة. هذا الوفاء السلطوي في اللغة والكلام المتحكم في آليات الحلم والتخييل والتفكير الذي تربينا في حضن عنف سلطته الثقافية والاجتماعية والسياسية يخنقنا من الداخل ويحول بيننا وبين ذواتنا فنعجز حتى عن محاولة قول الحقيقة عن الذات لأنفسنا وللآخرين. عندما أكتشف الآن عجزي عن الحضور بقوة في ما أقوله وأخطه بيدي أدرك مدى سذاجة التحرر الذي كنت أتشدق باحتجاج مفاهيمه الغاضبة والثورية في العناد والرفض والدعوة للتغيير والثورة. فالأداة الثورية الأولى التي يكون الإنسان الثوري في أمس الحاجة إليها لا تكمن في امتلاك نظرية ايديولوجية ثورية بالكلمات والمصطلحات الفخمة الرنانة. إنها ببساطة تكمن في السهل الممتنع هو أن يمتلك الإنسان لغته الخاصة القادرة على الفساد في تناول كل الممنوعات والمحرمات دون أن يرف له جفن عقدة الشعور بالذنب بل أن يزداد كل يوم جرأة في خلخلة وخرق الذنب الذي تسيجه به سلطة اللغة ولغة السلطة. هل عرفت الآن لماذا أعيش كل يوم سيرورة زلزلة لا تنتهي. أمارس هذه الزلزلة بعشق كبير لخيانة الوفاء للاستقرار والهدوء والعواطف والأفكار والثوابت والحب الكاذب علي بهوامات أساطير العشق الأبوي القادم من سراب الغزل العذري لرمال الشرق الملتهبة بشهوة السلطة والعنف. كم هو جميل أن أتمتع الآن بتأمل صفائحي الباطنية الداخلية العميقة في النفس والفكر والحلم والخيال.. أن أتمتع برجاتها وتشققها وارتطامها الجنوني الأهوج. لقد دفعت الثمن من كياني الحي لأكون هكذا ومع ذلك أنا فقط في بداية التحول والتغير لهذا أشعر بحقد شديد تجاه هذه اللغة العاهرة المتكبرة التي تحول بيني وبين العذابات النفسية الرهيبة التي عشتها في تجربتي مع المرض. قد تقول بأنني كنت خائفا وجبانا أكثر من اللازم. لكن دعك مني وقم بجولة سريعة في جناح المصحات والمستشفيات الخاصة والعامة لترى أشباح الألم الرهيب بأظافرها المضرجة بالدماء تحت شمس النهار المشعة بشكل واضح كيف تخنق الكلام وتطفئ عيون المرضى وهي تنظر ولا ترى وتطرد الفرحة والابتسام وتمنع نفسية المريض حتى من الأنين والشكوى. عندها ستدرك أن الخيانة هي المبدأ الصحي الوحيد المتبقي للناس البسطاء لاكتساب وتقوية المناعة الصحية النفسية والفكرية والاجتماعية في وجه كل الأمراض. فثقافتنا وكل ما تربينا عليه لا يؤهلنا إطلاقا للصمود والمقاومة في وجه الظلم والمحن والقهر والاستبداد والأمراض.
بعد نهاية العلاج عدت إلى بلدتي الصغيرة في الجنوب، عدت ليلا عبر الحافلة التي كانت تلتهم الطريق لأكثر من عشر ساعات. ولك أن تتخيل كل ما هو جميل وممتع في مثل هذا السفر من الصداع والأرق وصراخ الأطفال وبكاء الرضع وشجار الكبار والكثير من الحوارات المجانية التي تخفي النفس اللوامة الماجنة والادعاءات الكاذبة الصريحة في المكانة والوجاهة والأخلاق والوعي والروائح النتنة وأصوات القيء المنبعثة من هنا وهناك وتصنع الصبر وإسكات فزع الخوف بسوط الاستماع لآيات من الذكر الحكيم. كانت نفسيتي مهترئة ومملوءة بثقوب عذابات لا تكف عن الصهيل. تحولت إلى مجرد أطلال إنسان غادرته دينامية الحياة. سرعت انهيار وخراب مناعتي النفسية ولم أكن في مستوى الموقف المطلوب مني اتخاذه وترجمته إلى فعل ملموس ينم عن المقاومة والمجابهة أو الصمود والتحدي. هكذا وضعت نفسي في مأزق مخنوق ومسدود ولا أمل في التخلص من أسره وجبروت عنفه الرهيب.
رجعت مرات كثيرة إلى العاصمة استجابة لمواعد المتابعة الطبية. وفي كل مرة كنت أنتظر عودة المرض خلال فحوصات أجريها هناك. كنت وفيا مخلصا في انتظاري ولم أحاول بقليل أو كثير مجابهته ومقاومته ولو بالخيانة والحيلة مادام قويا بهذا الشكل المبالغ فيه في ذاكرة الناس النفسية والثقافية. ونتيجة ذلك الإخلاص مني عاد بشكل مخيف.
أذكر عندما توصلت بنتيجة الفحص وأنا أعيد قراءة الأوراق في الشارع طويتها ووضعتها في ملف ثم غبت بعيدا في دهاليز رعب الموت غير منتبه للعبور السليم للطريق الذي تمزقه السيارات والشاحنات والحافلات من كل الجهات. فجأة جمد جسدي وسرت فيه قشعريرة باردة وانتفض شيء في داخلي كما يفعل طائر أخافه سكين الغدر والذبح. لقد مرت بجانبي على بعد ملمترات من جسمي الحي حافلة مملوءة بالركاب العائدين إلى منازلهم الموجودة على أطراف مركز المدينة. لقد حملت نفسي إلى مذبح الموت قربانا طيعا خنوعا خاضعا لكنه رفضني ولفظني بسخرية واستهزاء حقير. تراجعت عن مكاني بضعة خطوات إلى الوراء رفعت رأسي و قرأت اللوم والعتاب وأشياء أخرى قاسية وعنيفة في عيون المارة الذين رأوا ما يشبه الانتحار الفاشل في سهوي وغفلتي وهذياني المحموم. ثم بدأ يأخذ ذلك الشيء الغريب الذي انتفض واهتز في أعماقي ملامح غضب داخلي ضد نفسي المنهارة المهزومة عندها قلت بتلقائية: الحادثة بشارة خير فالموت أجل النزال وعلي أن أساعد نفسي للخروج من المأزق. في دقائق سريعة عنفت ذاتي واستغربت كيف استسلمت بهذا الشكل البشع. هكذا ومنذ هذه اللحظة بدأ يستيقظ مع الأيام جزئي الحي، أي آخري المغمور والمسجون في أعماقي. ربما يتعلق الأمر بتلك الأنا لذلك الاسم الأمومي وهذا ما أرجحه. ودون أن أعرف كيف انفجرت وتدفقت من مكان مجهول من ذاتي “الآن..هنا” وهي الرواية الرائعة التي قرأتها في سنة 1992 ثلاث مرات، وبعدها قرأت العشرات من الكتب ومنها الروايات، بمعنى أنني كنت أعتقد بنسيانها.
(نحن العرب عباقرة في توهم الأحزان ثم في الاستسلام لها !)
(يجب أن أتحول إلى صخرة)
( جسد الإنسان صخرة، طاقة لا تنضب ولا تعرف الانتهاء. والإرادة، رغم أنها تبددت وخبت، إلا أن ذلك الفتيل الباقي يجعل كل شيء قابلا للاشتعال من جديد.)
كيف استطاعت أن تعود إلى ذاكرتي مقاطع كثيرة، تحرضني على المقاومة والصمود؟
سأكون أكبر كذاب أو مشعوذ معاصر لو جازفت وقدمت جوابا ما. وبكل صراحة لم أكن معنيا ببحث هذا السؤال قدر ما كنت معنيا باستفزاز الذاكرة على استحضار المزيد. وغالبا ما عدت إلى الرواية من أجل تعبئة قواي النفسية وحشد وإطلاق طاقاتي المقموعة.
(الإنسان مخلوق جبار قوي وذكي لأنه قادر على تحمل المصاعب وتجاوزها)
(وأتذكر تلك الليالي الطويلة كنت أحشد إرادتي وأنا أرى عيونهم المحتقنة تطل مثل فوهات النار وأسمع أصواتهم تهدر من كل مكان. يجب أن تعترف فأقول لنفسي الفرق بين الحياة والموت لحظة والفرق بين الصمود والسقوط لحظة)
(أنت الآن في مواجهة التحدي الكبير، إما أن تصمد أو أن تسقط. ويشمخ في داخلي نداء عات. صوت كأنه الطوفان.الإنسان لحظة قوة. وقفة عز، فاحذر)
(تتقوى ثقة الإنسان بنفسه بقواه الظاهرة والكامنة التي يعرفها أو التي يدركها في لحظة المواجهة. يكتشفها بفرح عارم: الله.. كم في الإنسان من قوى غير قابلة للكسر والإلغاء)
(كنت أمتلئ بشيء غامض لكن طاغ وكثيف وقد افترضت أن أية تضحية في سبيل هذا الشيء ليست مقبولة فقط بل وضرورية إلى أقصى الحدود)
(من العار بعد هذا الإذلال والعذاب أن أقدم لهم لحمي عشاء شهيا يتمتعون به. ثم إني أدافع عن قضية عادلة وبسيطة. حقي وحق الآخرين في الحياة والحرية وهم يدافعون عن امتيازاتهم وعن السلاطين والشيوخ الفاسدين ولذلك يجب أن أكون أقوى منهم، لأن قضيتي هي المشروعة)
هكذا تغيرت أو قل بشكل أدق عثرت على أناي الحقيقية الماردة والمتمردة والثائرة الحالمة. وفوجئت بهذه الرواية بشكل رئيسي وغيرها من الكتب التي قرأتها تقف إلى جانبي وتمنحني حق الكلام والتفريج عن النفس وتقوية مناطق ضعفي والتغلب على خنوعي وانكساري. سررت بهذا التحول النفسي والفكري والوجداني العاطفي وانعكس ذلك بايجابية على تفكيري مما جعلني قويا أفكر في أساليب الصمود والمقاومة إلى أخر لحظة، بل افترضت في أغلب اللحظات قدرتي على الصمود والانتصار. وكثيرا ما كررت مع نفسي ومع أصدقائي أن صمودي هو شكل من أشكال الانتصار. لذلك بدأت أفكر في الإلمام الجيد بالمرض وبالتالي تجريب وممارسة كل ما يمكن فعله من علاج. فكان أول شيء قمت به بعد بحث طويل وقراءة متواصلة لأنواع الطب البديل هو تغيير نمطي الغذائي بالتخلي نهائيا عن اللحوم والبيض والسكر والملح المركب والزيوت والخبز الأبيض والمشروبات الغازية...
صحيح بأنني تابعت العلاج مرة أخرى في المصحة لكن بنفسية عالية جدا في معنوياتي جعلتني أستأنف ممارستي للرياضة في المنزل والمحافظة على النظافة مع الالتزام بنظام غذائي يرتكز على الحبوب الكاملة خاصة الذرة البيضاء والخضر والفواكه والقليل من البقوليات وبعد أربعة أشهر أضفت إلى غذائي القليل من السمك الأبيض وفواكه البحر وزيت الزيتون. وفي كل يوم كنت أذهب إلى المصحة وأنا أزداد قوة ونشاطا ومرحا وكلي ثقة في الانتصار والشفاء. انخفض وزني وزادت ابتسامتي وتضاعف فرحي الداخلي وعدت للقراءة مرة أخرى، أو بالأحرى أعدت قراءة الكتب التي استيقظت فجأة في أعماقي لتمنحني القوة والصلابة ودينامية الحياة. ما الذي جعل تلك الكتب تغط في نوم عميق في التجربة الأولى؟ وكيف أخذت زمام المبادرة في المعركة الثانية بثقة عالية وبقوة لا تقهر؟
في تلك اللحظات لم أكن منشغلا بكل هذه الأسئلة، والآن وأنا أطرحها لا أفكر إطلاقا في البحث لها عن الإجابات الصحيحة أو المحتملة. لأن ما كان يهمني هو أن ألتحم بكل قواي الظاهرة أو التي أكتشفها كل يوم. لذلك ركزت برغبة ذاتية عميقة خلال قراءاتي على كتب علم النفس والتحليل النفسي فقرأت بشكل خاص كتب مصطفى حجازي في الصحة النفسية والتخلف الاجتماعي والإنسان المهدور...إلى جانب كتب أخرى.
هكذا أحمد الله الذي هداني بتلقائية الصدفة إلى قراءة “الآن..هنا” وغيرها من الكتب التي منحتني الثقة والطاقة والقدرة على المقاومة والتحدي. وإلى حدود اليوم أعيش بصحة عالية وأصاب كباقي الناس ببعض الأمراض الموسمية. ولم تغادرني مرحلة الشباب لذلك أنا ممعن في هذا الشغب الجنوني لعشق الحياة وحب الناس. وصرت أكره الوفاء والإخلاص لكل ما لا يقبل سنة الحياة في التحول والتبدل والتغيير والموت والولادة. وإذا كانت خلايا الأورام تصر على الخلود والتكاثر إلى أن تنهي حياة الإنسان فماذا عن الأورام الفكرية والثقافية والحضارية لثوابت تلتف على النفس والعقل والفكر والحياة فتسفك الدماء وتنشر الخراب؟