ها أنت مرمي في جسد لا يشبهك إرادة وقوَّة وعزيمة، كلَّما صلبت فيه جانبا انهار فيه ما كنت تعتقده متينا لا يقهر. تحاول أن تجعله صديقا رغما عنك بدل أن تيأس منه، وتكيل له اللّعنات، أو تنزل عليه السُّخط العارم لإحباط النَّفس. أنت واع بخطورة الموقف حيث لا مجال لسوء النّيَّة في أنَّه خانك أو تخلَّى عنك، فقد يكون هو نفسه في أمس الحاجة إليك لتسنده برفق، وتشدّ على يديه بحرارة ترفع معنويات تكوينه الجينيّ ومناعته. لأنَّك تدرك أنَّ الانسان معجزة في إبداع تكيف الحياة، وأنت تقول في نفسك: الحياة قاعدة والموت استثناء، يملك إرهابه ورعبه في فجائيته الصَّادمة.
ها أنت معنيٌّ بسؤال الحياة في أن تزيح عن جسدك خوف الخوف، تلك البوابة اللَّئيمة لخراب الرُّوح والجسد. تهدئ من فزع رهابه المروع حين يراك تغازل الشَّمس بحنين الحبّ في مضاجعة نور الضّياء، عند أبواب المدينة، ساخرا من أشباح ظلام المقبرة. قبلة واحدة على شفتي هذا الجنون الوهَّاج لرعشة الفجر تعلن أنَّك حيٌّ.. وحيٌّ لا يموت.
شهوة الحياة في أعماقك تفجّر حزامها النَّاسف لكوابيس خراب النَّفس وخسران معركة المصير. تلتمع في ذهنك حكمة أستاذك مهدي عامل الَّذي علَّمك فكَّ سحر الحروف وطلاسم الواقع: “لست منهزما ما دمت تقاوم”. قتلوه.. لكن ما قتلوه بل خلدوه حيًّا في قلبي لا يموت.
شهوة الحياة في أعماقك تفجّر حزامها النَّاسف لرعب الموت واللَّيل أشلاء تدروّها رياح فجر عاشق، هزَّه عنفوان شوق لم يعد يقوى على الانتظار. فجأة يمتلئ شاطئ الحياة بعري حرارة جسد نهار تطارد برودة ليل موت هزمه عشق دفء أنوار ليلة القدر: “لا تنس نصيبك من الدُّنيا ”
شغوفا بالسَّهر، تبيض سواد اللَّيل بأحلام شمس تشرق على الجميع ولا تستثني أحدا. هل حقًّا كنت مجنونا أو ممسوسا أو عاشقا كما قالت أمَّهات الحيّ، أم أنَّ قسوة حياة الفقر والبؤس والذُّل كانت تغزل شوك القهر في الأعماق؟ لم تملأ رئتيك بدخان التَّبغ الرَّديء ولا الجيّد. لم تجرّب ذلك، لسبب بسيط هو أنَّه لم تقتنع بابتلاع هذا السُّمّ القاتل. كان يبدو لك الأمر تافها وساذجا في أن تسود أعماقك بسمّ التَّلوث الرَّهيب. جنون عشق فرح الحياة وحده كان يسدّد خطاك. كنت معجبا ببنية جسدك القويَّة وأنت تزيدها قوَّة في ممارسة الرياضة، بين تلال الجبل أو عند سفوح واحته السَّاحرة بجمالها الأخَّاذ. لكن ميلا واضحا إلى الخمرة كان ينمو في داخلك كما لو كنت ملزما بإطفاء حريق من نوع خاصّ. شيء مَّا كنت عاجزا إلى اليوم عن إدراكه كان يلتهب باستمرار في منطقة مجهولة من هذا الجسد الرَّحيم.
تفلسف الآن وضعك الصعب وأنت تبحث عن حسن تدبير الحال في حالك الحرج، لخلق الأمل من الألم. تخرج عن مألوف لغة المعطى والظُّروف، فتجعل من جسدك إرادتك، ومن إرادتك جسدا يشبهك. تفرح كطفل بلعبة هذا القلب لاستراتيجيَّة التَّحكُّم في التَّفكير، من السَّلبيَّة إلى الإيجابيَّة، من الهزيمة إلى النَّصر، من نسف الحياة إلى تفجير الموت والإجهاز عليه بجنون الرَّغبة في توسيع دائرة الفرح والحبّ الإنسانيّ العميق، وفي التمتُّع بالحياة الدنيا بأقصى ما يمكن من حلم بركان اللَّذة المنبعثة من جوف الجسد الملتهب. تسعفك الكأس ويلازمك الصحو، وأنت تشرب ماء الحياة الَّذي صنعته يداك من التّين المجفَّف الممزوج بعشرات الأعشاب البريَّة. وأنت لا تكفُّ عن تذكير نفسك بجدارة الطبيب الَّذي صرته في الحساب المعلوم لجرعة الخلود. ومع كلّ هذا يتمفصل صوت فيروز الَّذي يخرج الحيَّ فيك من الميّت، فتنج بذلك من قتل النَّاس جميعا، لتنال شرف الاسهام في إحياء النَّاس جميعا. تباغتك ابتسامة لا تخلو من وقاحة نبيلة، حين تضبطك متلبسا بالقول الخافت: أيَّة جرأة هذه؟ كم أنا إنساني إلى هذا الحدّ في الدّفاع عن الحياة!
تبالغ في تأمل اكتشافك الجديد وأنت تدرك الفرق بين جسد يستأصل إرادته كما يفعل الإرهابيُّ، وبين إرادة تتجاوز جسدها الضَّيق لتستوعب الآخرين والعالم الشَّاسع الفسيح بسعة الحلم . شتَّان بين قربان بائع متجوّل في سيدي بوزيد، أو شاب يعدم نهارا أمام أعين النَّاس من طرف المحتل الصهيونيّ، وبين قتل الأبرياء العزل في باريس أو في فلسطين...
ليس سرًّا أن يرهقني توالي الضَّربات فأنا من سلالة القبيلة والعقيدة والغنيمة. هذا الثلاثي المقدَّس للحقيقة والعنف يبتزني بتهمة المروق والكفر إن خاصمت القبيلة مع استثنائي من حقّ الغنيمة. وإذا رفعت صوت المساواة والعدل في تقسيم الغنيمة اهتز صوت مآذن القبيلة بحروب الردَّة.
يا جسدي الرَّائع الطَّاهر الجميل تحمَّل، فأنت ماتزال شابا في مقتبل العمر. أرجوك كن قويًّا، تقيأ ما ابتلعته سرًّا بقرابة الدَّم والجهل والخديعة. أريدك صديقا حميما لي، هيَّا اقترب ولا تخجل من هذا التذاوت الناذر بيننا، كن لي كتفا أتكئ عليه في هذه الزلزلة، لأكون لك سندا ودعما في هدم مستوطنات الأضرحة المنتشرة في ثناياك، وفي إطفاء حرائق الحروب الأهليَّة المشتعلة في ذاكرتك. ولتستردَّ العمر الَّذي هو عمرك من سطو جناة اللَّيل البهيم. لا تنس ما ينتظرنا من جنون المتعة واللَّذةَّ والمسرَّات في الحياة.
للموتى مقابر يدفنون فيها، وللأحياء مدن يسكنونها، أمَّا نحن فقد صرنا مقابر للموتى كما صارت المقابر مدنا لنا، فلا فرق فينا بين الميّت والحيّ.
هل أستطيع حقًّا طرد كلّ هؤلاء الطُّغاة والغزاة الَّذين احتلوا كلَّ كياني واحتموا بالجبال الشَّامخة في تضاريس جسد طفولتيّ، وهو يسمّي الأشياء ويتعرَّف العالم؟ كيف في لحظة براءة الطُّفولة اغتصبوا الكشف السَّاطع للنُّور المتوهّج، لجسد الدّماغ أو دماغ جسدي الصَّغير،عن المستور في عالمي الوجودي.
هكذا دخل الغصاب اللُّصوص كالخفافيش إلى كلّ ما يشكلني جسدا ولغة وفكرا ووعيا...
صاروا كلّ شيء في، وكلُّ الأشياء في هم، لا شريك لهم في اللَّمس والغمز، في الأكل والشُّرب، في القبلة والجنس، في النَّظرة والتَّفكير، و في الكلام والصمت...
صاروا ذاكرة لي ولجسدي وجميع أنواتي، ذاكرة تستعصي على البتر ولا ينالها البتر حتَّى لو كان هناك بتر. هكذا بنوا مستوطنات مقابر موتهم في جوفي الحيّ شيئا فشيئا، فهل أستطيع اليوم أن أخوض الحرب وحدي؟ أيُّها الزّلزال العنيف كن نعمة ورحمة. اضرب في الأعماق ذاكرة غريبة عنّي وعن جسدي. فالعالم من حولي يصرخ في وجهي أن أتخفَّف من أثقال عالم الموتى المندسّ في طيات جسدي. اضرب أيُّها الزّلزال القادم من إخوة شموس لي في الإنسان. زلزل ذاكرة ليست معي بل ضدّي زرعها الغصاب كما تزرع الألغام في بيوغرافيتي الأولى لما قبل تاريخي. لتخرج الأثقال المحنَّطة، زلزل لتتطهَّر الأعماق من وحل المعارك العفنة للأساطير القديمة. لست عليًّا ولا معاوية لست عمرا ولا زيدا لست مذهبيًّا ولا إثنيًّا لست من فخد القبيلة ولا من رأس أو مؤخّرة الطَّائفة والعشيرة. لست أداة ولا ساحة للقتل كما لست نعشا أسودا لجثث الأجداد.. ولست...
آن الأوان أيُّها الأب الملعون بكلّ اللُّغات أن تنزل من على منصة ذاكرتي في كلّ شيء، خاصَّة من جسدي أوَّلا حتَّى أتصالح معه، لأعيد ترتيب العالم في جوفي. اخرج من عيني وعقلي وكلّ جوارح انفعالاتي. لست كفيفا لتكون دليلا وصيًّا تضبط أنفاسي وتموضع خطواتي على حدّ سيف القتل. أوقف تشخيصك المقرف وتقمُّصك الهمجيّ للموات الأبديّ في سبيل الله وأنت أوقف تشخيصك المقرف وتقمصك الهمجيّ للموات الأبديّ في سبيل الله وأنت تسعى في الأرض بالفساد وتسفك الدّماء. انزع قناعك لم يعد جسدي كشَّاف الضَّوء لوجودي في الحياة الدُّنيا مخاطرة أو رهانا لوعدك المزعوم لي بأنَّني حيٌّ عند الله أرزق. ارحل فلست خشبة مسرح لحروبك الأهليَّة في دمي ودم الإنسان.
أريد أن تسقط الآن من ذاتي كلّها وتأخذ رفاة هويَّة موتك المشؤوم إلى أقرب مقبرة أو إلى المزبلة سيَّان.
هيا اخرج من جسدي من كلامي المقدَّس بنعمة الحياة الدُّنيا في الحلم والحبّ، والأمل الشَّاق في عشق الإنسان. ارحل من دمي فأنا منك بريء لأعرف طريقي إلى نفسي والآخرين والعالم.
أيَّة حركة تحرّر داخلي أنا في أمس الحاجة إليها لإخراج المحتلّ الَّذي ابتلعته رغما عنّي، وأنا على صغر سنّي. من بيت أهلي إلى ساحات القبيلة، ومن صلاة الفرقة النَّاجية إلى قاعات الدَّرس، قتلوا فرحي في أن أرى أوراقي مخضرة لا حطاما أصفرا على رصيف التَّاريخ البشريّ. زوروني وحرفوني ليحفظوا الذّكر في ذاكرتي الَّتي تتقاسمها الفرق والطَّوائف والمذاهب بين القبيلة والغنيمة بعنف مقدَّس الحقيقة.
ودون شفقة ولا رحمة مدُّوا جسدي الطَّري العود جسرا لعبور عالمهم إلى جوفي محمّلا بكلّ قوافل الحقد والقذارة في كره الحياة والإنسان، وبغضّ حبّ النّساء، وإلغاء أناي الآخر في الوجود والإنسان. هكذا جعلوني أحمل صخرة الهويَّة المزيَّنة بالألغام في داخلي، فكيف لي بالتَّخلص منها دون أن أنفجر شظايا؟
ما أجملك أيُّها السُّؤال يا كاشف ومفكّك الألغام عندما تولد في باطن الأعماق، فتحرّك صفائح طمأنينة يقين الجهل الَّتي ترفل في ثوابت نعمة الجواب الصَّادق الصحيح، والواحد الوحيد. ما أروعك أيُّها السُّؤال، منك تتخلَّق القيمة الإنسانيَّة الَّتي تجعل من الإنسان إنسانا، بآليات الشَّك والنَّقد والرَّفض والهدم والخيانة لوفاء مستقرّ العادة والمألوف، ومنك يولّد الأنا المارد المتمرّد، الحالم والحلم بمدينة حياة تفتح ذراعيها للإنسان.
ما كنت لأولد من جديد لولا ينابيع الأسئلة الَّتي فجّرتها في الأعماق حمى تحوّلات صيرورة المكان والزَّمان، في أن أكون فردا حرًّا مستقلا متسامحا راغبا بروح العقل والوجدان في حبّ الحياة والخير والإنسان، والشَّوق لعيش التَّعدد والتَّنوُّع والاختلاف.
تناثرت أثقال هويَّتي عارية لا تقوى على ستر فضيحة التَّميُّز وخصوصيَّة أمَّة الفضل. تمزَّقت أسمال عفنة سكنتني في ذاكرة الجسد والعين والعقل. لم تعد عصبيَّة القبيلة الطَّائفة والمذهب والملَّة سقفا يحد أحلامي. ولم أعد أسير الضَّمير الغائب في حكايات حدائق الماضي الذَّهبي المسيّجة بحقّ الغلبة والقهر والاستبداد في الرَّأي والعيش.
شعور عارم في جوفي يغني أنشودة الحياة بهذا النَّصر على أثقال الموت...