“تَفقِدُ الحياة معناها في اللحظة التي نفقد فيها وَهْم كوننا خالدين”.
جان بول سارتر
ربما أكون سعيدا، أو بالأحرى أنا سعيد جدا، لأنني مقتنع بما أملك في داخلي كلما ولجت عميقا ً إلى هذه الذات، سعيد لأني لا أستلهم ذاتي من أقنعة الآخرين الملونة، ومن كلماتهم المغسولة بالوهم، ربما لا أملك سوى مشاريع صغيرة بسيطة أنجزتها لكن بحب عظيم وعطاء مستمر. الكثير من رجال المال والأعمال، والكثير من المشاهير والفنانين والأدباء، ممن يتصدرون واجهات الصحف وشاشات التلفزة، لا يملكون ما أملك، فهم يعيشون في بؤس روحي تام، وعذابات مستمرة ودوامة من الأفكار الإجرامية التي قد تنتهي بانتحارهم وفنائهم، رغم مسحة الحزن التي تعتري ملامحي البريئة أحياناً، ورغم الدمعة الشفيفة التي تنز من القلب بين فترة وأخرى، ورغم عصارة الألم الممزوجة بالكوابيس والهواجس، إلا أنني استطعت تحويل كتلة الألم إلى فرح صاخب يغمر القلب الإنساني المعذب، وبسمة ندية تغسل أدران الروح، قد يتساءل البعض عن الموت والحياة، عن العدم والوجود، عن الحقيقة والجنون وعن أشياء أخرى تثبت أننا كائنات باحثة عن السعادة، أو كائنات هلامية هاربة من خوفها إلى خوفها، ولكن عليك أن ترى بقلبك لا بعينك، وإن رأيت سترى أن هناك خيطا شفافا يفصل بين العدم والوجود، خيط شفاف يفصل بين فردوسك وجحيمك.
وقد يتساءل البعض عن العلوم والمعرفة وعن متعة اللذة الوجودية وأنت تبحث في ثناياها عن الحقيقة. أسمى أنواع المعرفة هي معرفة الذات.. هي ذلك الوعي غير المؤطر بالأشكال المادية والتصنيفات الذهنية، هي تلك السعادة الغامضة والسحرية التي تنتشي بها رويدا.. رويدا، ويصيب الخدر روحك القلقة كلما فتحت لك الحقيقة نافذة من نوافذها المضيئة، قليلون هم من يستطيعون تحويل الصمت إلى معزوفة خالدة، وقليلون من أدركوا أن اللحظة الحالية..هي لحظة سرمدية ..لا يعرفها إلا من ذاقت روحه طعم السكينة، وحلقت أحلامه فوق أجنحة السحاب وغفت بين أهداب الكون، هكذا استطعت أن أحول جحيم سارتر إلى فرح أزلي للكينونة، ربما أكون شخصا يعيش خلف كواليس الحياة، أو ملكا ً لفضاء لا متناه من السكون.
أنا من أنا؟؟ ما أنا سوى ذرة صغيرة من ذرات الوجود، أو فراغ كبير في متاهات العدم وأنا على هذه الأرض كائن سماوي عائد من الرماد إلى البرزخ، منفي من حلم إلى آخر كلما لسعني الصحو، وحاصرتني الأصوات بنحيبها القادم من بعيد. منفي من حلم إلى آخر، أقود عربات النجوم بنورها المتوثب خلف صباحات التاريخ، منفي من حلم إلى آخر، كلما اربد ظلام الأزمنة واختبأ القمر الهارب في كوة من جدار الذاكرة.
لا أرض لي ولا وطن، لا هوية تحدد ملامحي في زمن تنخره العتمة، سيتآكل هذا الزمن المريض وسيدفن مع أوهامه وأساطيره الزائفة. أو ربما سيحرق بدموع المعذبين والبائسين في هذا العالم، قد يتساءل البعض أيضا ما هو الزمن؟ الزمن هو وليد الحركة، لا بد أن تكون الحركة لكي يولد الزمن، ولا بد أن يكون الزمن لكي يولد السرد، ولا بد أن يكون السرد لكي تولد هذه الحكاية بتفاصيلها الدقيقة، ولا بد أن تعود الحكاية أخيرا ً إلى سكونها المطلق، هكذا يبتدئ الرحيل دوما وهكذا ينتهي المسير، من وهج البدايات إلى عتمة النهايات لكنني واثق تماما ً أن الزمن القادم هو زمن اللازمن.. هو زمني، زمن الهوامش والظلال، الزمن الذي سيرسم أولى النهايات بريشته الجريجة، هو ذلك الزمن الذي سيكتب على جبهته السمراء..تقدم أيها الظل .
ربما أكون سعيدا ..أو بالأحرى أنا سعيد جدا.