كل مساء أخطو بخطوات متتابعة بلا انقطاع وأنا أكلم نفسي أو بالأحرى نفسي تكلمني، ما من قصور قادرة على إيوائي، ما من موائد ستغريني بالجلوس، متع الدنيا كلها لن تتمكن من كسر عزلتي. مخمورا بدون خمر أمضي... أنظر إلى العالم كما لو أنني أراه للمرة الأولى، أخاطب نفسي كما لو أنني ألتقي برجل غريب في نهاية الشارع. معجزة أن أتكلم أكبر من معجزة أن أصمت. من أكون أنا، لست إلا جرة كبيرة مملوءة بالخمر السكرانة.
وعيي سجين لأناي. وأنا سجين جسدي، وجسدي سجين لقوانين الطبيعة، وهذه بدورها سجينة لمصفوفة أجهل بدايتها ونهايتها. ما هي الحرية إذن إن لم تكن مغادرة الوعي لحدود الأنا، ومغادرة الأنا لحدود الجسد، ومغادرة الجسد لحدود العالم.
أن أتحرر من اللغة عن طريق الشعر
من المعرفة بواسطة الجمال
من الحب بواسطة الزواج
ومن الزواج بواسطة التدخين
وأخيرا أقلع عن التدخين
بواسطة الحملقة في الفراغ
أتأمل في الذهول العميق لمعنى الوجود، الثقب الذي نفذت منه إلى الكون الفسيح، الرعشة الضائعة في اهتزاز الليل. أحيانا تتلألأ الحياة أمام ناظري في الغور السحيق للوديان العلوية، وأحيانا أخرى يلوح الموت بين كل شهيق وزفير. ثمة رفقة غريبة أشعر بها بجانبي، لا أعرف من هذا الشخص القابع خلف أنفاسي والذي يتعقب خطاي. في الليل أسمع مزلاج الباب يفتح، مطارق وصفارات إنذار تعمل في الجمجمة، انهدام طبقات الصيف الأحمر داخل الروح، إمبراطورية ضباب عجيبة تسير في كرنفال الشارع الأجوف، عنكبوت الساعة المتورمة توازي دقاتها خفقات القلب. محافلي السرية يحضرها أمراء من عالم آخر، ضفادع الغروب في مساءات الصمت. لكم أنا وحيد وفريد أرضع أثداء الذئاب في غابات الله الفسيحة.
كل شيء يستعصي علي أن أنحني كي أفك خيوط حذائي، أن أفتح أزرار قميصي وأطوح به جانبا. أغرق في الليل بدون أفكار وأصلي بدون طقوس.
كل شيء يتمرد علي كل شيء يأتي متأخرا عن موعده. الموت الذي انتظرته طويلا، الحياة التي طالما ابتهجت لقدومها، النوم الذي رجوته. أمواجي الباطنية سكنت في الفقدان الأبدي. ضفادعي التي ربيتها ذهبت تقفز بعيدا فوق الثلوج البيضاء للأبدية.