دعني أتكلم، ولو للمرّة الأخيرة في حياتي وحياتك. دعني أفعل هذا حتى أحس بأن حياتي لم تذهب هباءً. حتى أحس بأن وقوفك ولمعانك تحت الشمس الصيفية في عز الظهيرة لم يكن وهماً... حتى أحس بأن الثمن الباهظ الذي دفعته معك من أجل تجنب الموت هو ثمن أغلى وأشرف من كل الأثمان... حتى أنه أغلى من ثمن الحرية التي ننادي بها. ألم نقهر الموت معاً في تلك الحجرة اللعينة...على ذلك الدرج اللعين... وفي كل الأماكن في دمشق؟!
((نزلت من عينيك دمعة، متعبة، حزينة، عكست صورة الماضي. والماضي حملٌ ثقيل نشر أمامك بحراً من الجراح. قضيتَ عمراً هائماً على وجهك في مدينة تتربص بذاكرتك في كل شبر، بينما تختبئ بين كل شبرٍ وشبر. الحمى لديك كانت تزداد بينما أسمع همساتك “أليس هذا ما كنتِ تريدينه؟”
مؤلمةً كانت طفولتك ومراهقتك في وطنٍ فيه الكثير من المرارة الغامضة.
مؤلماً كان شبابك وأنت تنتقل من جرحٍ إلى آخر.
مؤلماً كان لقائي بكَ بعد خمس وثلاثين عاماً في ذلك المساء)).
أأنت حيٌ أم ميت؟... نحن كلنا؟...
أتذكر الآن الظلام الذي لف حجرتك مع الحمى التي غزت جسدك يوماً. ساقاك كانتا واهنتان، كنت تركض من منفاك الداخلي نحو منفاك الخارجي. تغوص قدماك في أرضٍ مغمورةً بالوحل. تركض... تركض. لإيمانك بالطفل الذي كان يجب أن تنجبه قبل فوات الأوان بينما كابوس المتسلطين والمتآمرين والسارقين للقمة الخبز تلاحقك. ارتعدت فرائصك... نزلت من عينيك دمعة، لتغمض عينيك على رؤيا طفل يملأ عليك منفاك الداخلي وأنت تتأمل ما حولك بدهشة مريضٍ يلتقط أنفاسه الأخيرة. ثم ذبت بين الجميع كالطيف، حاولت الاتحاد بهم وأنت في بحثك عن وجهي الذي أضعته طواعية... وجهٍ غائبٍ عشقته يوماً. الوجوه كثيرة؟ لكن. لماذا في أزمة الوجوه نبحث عن الوجوه الغائبة؟
كنت تبحث، تسير كالمجنون، لا تحس بجسدك ولا بذاكرتك، لتضاجع أخرى خنت بها نفسك. تحترق إليَّ وأنت تهمس في أذنها ((أين أنتِ وسط هذا الزحام؟ لو كانت كتفي تطاوعني لأخذتكِ بين ذراعي كما لم آخذ امرأةً قبلك. يا لروعة المرات التي كنت تتركين فيها العالم وتأتين إليَّ! يا لهذا الجنون! أريد أن أنفرد بك حتى آخر العمر. لكن هل سأجرؤ على ذلك وأنا أعرف أنكِ ملكٌ لرجلٍ آخر؟ لو كانت علاقتي بكِ هي الرغبة لحسمت الموضوع منذ زمن، ولما عدت من منفاي إلى منفىً أقسى. هنالك الكثيرات يمكن للرجل أن يستميلهن دون جهد، تعلمت هذا مع الزمن. لكن بالمقابل هنالك مبادئ لا يمكنني التخلي عنها، فقد كنت أعرف أنكِ مستحيل آخر سيضاف إلى مستحيلات كثيرة في هذه الحياة. المهم ألا نفقد احترام ذاتنا ونحن نمنحه لمن نحبه فعلاً. لقد فضلت أن أسبب لكِ ألماً فظيعاً على أن أخدعكِ وأكذب عليكِ لأنك مخلوق شجاع وطيب جداً... وبعيد جداً، وأجسادنا لها حقٌ علينا.أنتِ ضميري في هذه الحياة، وأُفضِل أن أراكِ تعيسة على أن أراكِ مهانة. لأنه في النهاية لنا، أنا وأنتِ، شرفنا وكرامتنا. وهذه الحمى اللعينة، يا للخيبة)).
ولماذا كنت تستغرب حينها!؟ منذ الأزل ونحن نعيش في خيباتنا الصغيرة منها قبل الكبيرة، عندما تصبح ذاكرتنا عبئاً علينا، عندما تتحول إلى شوارع سكناها، عندما نحتاج إلى حطبٍ بكل ما نملكه من نقود من أجل شتاءٍ كامل، عندما تجتاحنا الرغبة لإحراق كل هذا الحطب في ليلة واحدة من أجل نيل نظرة رضا من عيني من نحب. أنظر الآن، سواء كنت ميتاً أو حياً؟... هذا شارع يحمل اسم (أحمد خاني) وها أنت تمشي على خطاه وتمتلئ فجأة بشعورٍ مليءٍ بالحمى والغرور. لا يمكننا أن ننتمي إلى مدينة لم نحب فيها حتى الأعماق. الحب هنا وقارٌ ورجولة، وسنوات من التحدي والصلابة. ما زالت صورة (أحمد خاني) بلحيته الوقورة تحكم هذه المدينة حتى بعد قرونٍ على موته، وما زالت همسته التاريخية الكلمة الوحيدة التي حفظتها وأنا إلى جانبك.
كنت تقوم بحركات غريبة وقتها، وكنت أحس بك وأراك. تضحك، تبكي، تصرخ، تضاجع أخرى وأنت تشتعل رغبة. لتمر أمام ناظريك صور الماضي، الحاضر، وأنا التي أضعتها عن طيب خاطر، ثم الطفل الذي اكتشفت أنك لا تريده إلا من رحمي. تحس بثقل الهواء لتفاجئك ضحكة مربكة وذاكرتك شيخ ينخره المرض من الداخل.
الحمى كانت تزداد، ولياليك قاسية مع وحدتك الأزلية، فتزداد رغبتك في المضاجعة. لكنك كنت غريباً في الوطن من دوني ومكانك هو منفاك. ولا أعرف لِمَ أرسلت لي يوماً هذا الإيميل بعد أن صوبت رصاصة إلى جبيني لتبعدني أكثر مما أبعدني الله عنك بحجة أن أجسادنا لها حقٌ علينا ((عزيزتي. اليوم نظرت إلى وجهي في المرآة. إنه نحيف وشاحب جداً بسبب حرارة الصيف الذي لن ينتهي على ما يبدو. وأنا بحاجة إلى شيء عصري يبرد غرفتي. لكن من أين لي النقود؟ لهذا أظل أعمل بقرب الشباك المفتوح طوال النهار. الصيف مُغبر، لذا حتى إن أردت إغلاق الشباك فزجاجه مكسور، والطلاء يتساقط من السقف والجدران. باختصار السكن هنا غير مريح والإيجار غالٍ. المعذرة. فبرغم كل ما حدث ليس لي غيركِ لأشكو إليه همي. فإذا كانت نهاراتنا هكذا فما بالكِ بالليالي التي يتوقف فيها الهواء ويختنق الجو من الحرارة المكبوتة. لقد كرهت كل هذا. مللت الحر. أنا بحاجة لمن تطري لي حجرتي البائسة حتى إن لم تصبح أماً لطفلي الذي (من دون شك) لن يأتي. وفي هذه الليالي بعكس تفاؤلي بالصيف معكِ أحلم بشتاء الشام. وفي الحلم أرى نفسي في قمة قاسيون وقد سافرت إلى حمص الطرية وحلب، وأُصِبتُ برصاصة بين عيني وأخرى في رأسي حتى امتلأت عيناي وأذناي وفمي دماً. لكن لا تقلقي، فأنا لم أمت)).
أين أنت؟ أين أنتَ وسط هذا الزحام المجنون. كيف أخبرك... أو أتراك عرفت شيئاً عن قلبي الذي نبض بعد خمس وثلاثين عاماً بين يديك في ذلك الصيف وما يزال يواصل نبضه حباً وحسرة وهو ينتقل من صيفٍ إلى صيف؟ أي جنون أن تأخذ ملامحك ملامح منفاك!؟ وأن تبقى في وجداني كنهر النيل، أسطورةً من أساطير الآلهة، تحمل نكهة خاصة لا علاقة لها بمياه الآبار والأنهار.
عرفتُ وقتها أنك وجدت الحل للخروج من كل هذا العذاب عندما ختمت كل ما كان بإيميل أخير ((لدي أخبار سارة ومفرحة لكِ. جميلٌ أننا لم ننجب ولداً، لأن أغلب الأولاد ينفشون ريشهم كالطاووس عندما يكبرون، طفلٌ كهذا ماذا بوسعه أن يعمل عندما يكبر ويفشل في دراسته. آهٍ لو كانت بنتاً لهان الأمر، فالبنات يصلحن لكل شيء. بالمناسبة، وصلتني رسالة من سوزان، أنتِ تعرفينها. وهي راغبة في أن نلتقي بعد أن تحدثَت كثيراً عن حبها لي. أنا محتار في اتخاذ قراري، لأن أموراً كثيرة حدثت منذ أن غادرتِ بيتي بعد أن شاهدتِها في سريري ولم تطرق سوزان بابي من وقتها. فقد تحدثت عني بسوء أمام الأصدقاء عندما عرفت عن علاقتي الجدية معكِ، وهي عزيزة عليَّ كما تعلمين. لكن لا عجب. فالمعزة كالنبع، وحين يجف النبع لا يمتلئ ثانيةً. وقد اعتذرت منها. لكن ماذا يفيد الاعتذار. فليس لدي ما أقوله لها كما أنني أحترمها كثيراً. أخيراً ستزورني سوزان اليوم بعد أن سامَحَتني. سأوافيكِ بالأخبار حال حدوث شيء. لا تقلقي.))
قررتَ بعدها ما كان محتماً عليك فعله، وما لا يمكنني نسيانه أو غفرانه، عندما أوجدت المسافة الكافية بينك وبين الموت، مسافة السير نحو السرير، لتلعن قلبك المليء بأحزان المنفى وتواصل كلامك في أذني هامساً بينما الحمى في ازدياد “لم يعد البقاء ممكناً. يجب أن أبحث عن نهاية أقل وجعاً، لتكن هذه اللحظة كل فراقنا. هكذا يجب أن تكون نهايتي. ما زلتِ رقراقة الحنين. فما أشقاكِ اليوم وما أغباني. بعد أن كان الحلم سيصبح واقعاً... وبعد أن كنتِ ابتدأتِ في قطع المسافات أفسدتُ ما كان عليَّ ألا أفسده”.
سقطت على السرير لافظاً أنفاسك الأخيرة، حتى أنك رفضت الأنين. قُبرة كانت تنوح خلف زجاجك المكسور وخبر موتك انتشر. وجهك لفه تعبير حنون، بينما عيناك كانتا تجوبان كل الاتجاهات لتلتقيان مع امرأة عارية قادمة من أقاصي المعمورة لترقص في مدخل شريانك ولتهمس في أذنك الفاقد للحياة: “ذهبت الآن وألقيت نظرة على طفلتنا النائمة يا عزيزي. إنها بيضاء، فمها مورد وشعرها أسود. لقد دفعت برجلها الغطاء فأعدته كي لا تأخذ برداً. فقد جاء الشتاء كما تعلم والبرد يجوب المنزل. لكن لا تقلق، سأهتم بها”