القراءة: زاد إيديولوجي أم اختبار ذاتي؟
«لا أحب القراءة». «لا أجد لدي الرغبة في القراءة». «لا أشعر بالحاجة للقراءة». «ما الذي سأجنيه من القراءة؟»...
هذا جزء من مصفوفة عبارات, بعضها يفيد الإجابة وبعضها يفيد السؤال. عبارات ليست قادمة من عالم آخر، أو من وراء حدود نجهل كونها، بل إنها إجابات، وأسئلة لها لبوس الإجابات، تصل نسبتها إلى قرابة المئة بالمئة، عن سؤال بالغ القصر: هل تقرأ؟ سؤال موجه إلى المتعلم العربي على خلاف درجات التعلم.
هل تشكل هذه الإجابات، بصياغاتها المختلفة شيئاً ما، والمتماثلة في الجوهر، سوى نعي صريح وواضح للفضول، كسمة، وخصيصة إنسانية.
موت الفضول، أو عطالته. هل يعقل أن تكون حقيقة يمكن البناء عليها لتفسير العزوف المخزي والمخجل للمتعلمين العرب عن فعل القراءة؟ أم أن فهماً خاصاً، ومتحيزاً، يحكم فهمنا لفعل القراءة، كان السبب في الوصول إلى هذا الاستنتاج دون غيره؟
أقصد، هل أن في المماثلة، التي تتيح استبدال المواقع، بين مفردتي «قراءة» و«معرفة» في حزمة العبارات السابقة، خطأ ما بسبب ما يوفره الاستبدال من إمكانية المطابقة بين حدث «القراءة» وحدث «المعرفة»؟ أم أنه ما من خطأ. إذ ان جوهر الإجابة قبل، وبعد، الاستبدال هو شيء واحد. أي أن: لا أحب القراءة لا أحب المعرفة...إلخ؟
من ناحيتي أجد ميلاً، يتوفر كما أظن، على سبب وجوده، للإجابة بـ «نعم» على السؤال السابق، أي الإقرار بأن عطالة حقيقية قد حكمت الفضول والتوق إلى المعرفة لدى المتعلم العربي، وأدعم صواب الميل بما أعتبره أسباباً قد تكون كافية لإحداث تلك العطالة، أسباباً تنأى عن كونها ذاتية المنشأ والمستقر، لتصف وتشخص تاريخاً من الامتثال ثقافياً واجتماعياً وسياسياً.
ويمكن ربط السبب الأول بمسألة إدراك مدى المسؤولية التي تترتب على المعرفة، وبمدى ارتباط هذه المسؤولية بالحرية.
إذ ان المسؤول هو كائن حر بالضرورة، وكل عارف هو مسؤول. وفي مناخ من انعدام الحرية لا بد من أن تتحول المعرفة، إن تحصلت، إلى طقس سري باطني، مكتفية بذاتها لحلم على قيمتها. ذلك أن أمر تتحول هذه المعرفة إلى عتبة حوار يبدو أمراً عصياً، وبالتالي تبقى إمكانية، أو فعلاً مؤجلاً، ومع التأجيل تزدهر شعارات من نوع: «لا أريد أن أعرف، لا أريد الشقاء».
فيما يمكننا اعتبار السبب الثاني عتبة أفرزتها النتيجة التي كرسها السبب الأول. عتبة تشكلت من قناعات وأخلاقيات وصفت الفضول وشخصته، فجاء بمثابة باب للمتاعب والأهوال. وبات التوق إلى المعرفة نوعاً من الحشرية الضارة ليس إلا. وبعضنا يتذكر النص الذي تضمنه مقرر «القراءة» في المرحلة الابتدائية، والذي كان عنوانه «القرد والنجار» ذلك النص الذي ينتهي بعبارة (لا تتدخل فيما لا يعنيك، تلقى ما لا يرضيك). يضاف إلى تلك المصادرات التي ما انفكت تمارس ضد الإنسان العربي لدرجة(أنت لا تفكر عنا فنفكر عنك) على حد قول الرحابنة. وأما السبب الثالث فتمكن دعوته بـ(تعويم المعرفة) إذ يتم إشباع هذا الفضول نظرياً، بحيث يسيطر وهم أن المعرفة حاضرة في كل لحظة. إنها تنافس الفضاء على أثيره، وانها تجري في الأوعية الضوئية لهذا العام، وكل ما يتطلبه الأمر كبسة زر ليس إلا.
أدرك تماماً أنها ليست كل الأسباب، ولكنها الرئيسة، كما أظن، في تشخيص الحال التي يعيشها المتعلم العربي فيما يخص حدث «القراءة». كما أعتقد بأن كل سبب منها هو موضوع بحث يطول، لكنه ليس المسعى في هذا المقام. والذي سأحاوله هو البقاء بين حدي العنوان والتعاطي مع القراءة كحدث مبتغاه تعزيز الجماعة وتأكيدها، مقابل القراءة كحدث ذاتي محض الهدف منه اختبار حدود الهوية الفردية، والوجود الذي تمثله الذات.
ولكن قبل الدخول بين حدّي العنوان لا بدّ من الإشارة، كمدخل لكليهما، إلى أن الانحياز لفكرة الإنسان القادر والفاعل هو ما يزيد من وتيرة النشاط الإنساني, محولاً إياه إلى شكل من الحوار والجدل مع الكون ومع الآخر. وهذا ما يدخل القراءة في حقل الضرورات، كطريق لا بد منه لامتلاك المعرفة، وبالتالي امتلاك القوة، وتحقيق السيطرة على المستويين الفردي والعام، ومنه تحكم الفرد بمصيره وإدارة قدره كعتبة لتحكم المجموع بمجرى التاريخ. ولكن هذا الأمر الذي نتحدث عنه نظرياً ببساطة واستسهال هو في الحقيقة رهن بوضعية اجتماعية – سياسية تتجسد بالمستوى، أو بالكيفية، التي يكون عليهما الفرد في الكل الاجتماعي الذي يحتويه. وعند هذه النقطة لابد من الإشارة إلى ما سميته «الفاعل الفردي» في مقال سابق. ذلك الفاعل الذي لا يمكنه الوجود من دون وجهة نظر, وموقف واضح, بالنسبة له على الأقل, من العالم. ووجهة النظر هذه تتنامى وتتفاعل بتناسب طردي مع درجة وعي الذات لفرادتها وتميزها. ومع الدرجة التي يسمح فيها الإطار الاجتماعي، وبالتالي المنظومة القانونية. والفاعل الفردي ضمن جماعة منظمة أو ضمن سياق ثقافي متجانس هو القارئ النموذجي أو المثالي والذي بغير وجوده سيحدث الكساد الثقافي بكل تأكيد. إذ سيتعرض قانون العرض والطلب للاعتلال نتيجة لعدم التناسب بين طرفيه. ووجود هذا الفاعل ليس أمراً ذاتياً أو تلبية لرغبة أو أي شيء من قبيل الصنيع الفردي الخالص, لكنه هذه الأشياء الثلاثة مجتمعة.
فيما الانحياز لفكرة الغيبي والمطلق بما يقدمه من طمأنينة ناتجة عن رفع التكليف، وما يترتب على ذلك من إزاحة لهمّ التدخل ومن تبعات الفاعلية يجعل من عملية القراءة شأناً تراتبياً أو نوعاً من الاختصاص، مقصياً إياها عن حقل الأمور الشائعة، أو العامة، وحاذفاً إياها من مصفوفة العادات والتقاليد.
القراءة كزاد أيديولوجي
المعرفة سلطة. مقولة باتت خارج دائرة الأخذ والرد. وكذلك بات خطأ مقولة: السلطة معرفة. ذلك أن السلطة التي تنتجها المعرفة هي مسألة تاريخية بامتياز. إذ انها مسألة هدم وبناء مستمرين، وبالتالي تعبير عن التحول والتبدل. وهنا يتموضع الفاعل الفردي كبنية أولى, عميقة, وأساسية في الموجة الاجتماعية.
ولكن السلطة التي تأتي من خارج المعرفة, أي من خارج التطور الطبيعي للاجتماع, على شكل طفرة, أو على شكل استثناء, وربما بسبب خلل طارئ في سير القانون العام, فإنها, ولكي تكتمل فهي بحاجة إلى المعرفة التي تتجسد في البنية الثقافية للنظام, والمعمّمة على أنها الشكل الوحيد الصالح لرؤية الكون, إنها المعرفة الخاصة المصنّعة على القياس لإخماد الموجة الاجتماعية مرة واحدة وإلى الأبد.
ذلك أن خصوصية هذه المعرفة تجعلها أشبه بالإيمان أو بالعملة الزائفة وهنا كثيراً ما ينزلق الفاعل الفردي كمروج لهذه العملة، وبالتالي يختفي هو الآخر كفاعل إلى الأبد.
حصة من الأدب, ومثلها من السياسة والاقتصاد, وثالثة من الفلسفة والميثولوجيا، هي الزاد التي تتوخاه القراءة بقصد الدفاع عن وجهة نظر معينة وتعزيزها، أي إشباع حالة خاصة أو شكل خاص من الفضول, يضمن الطمأنينة ويصون الاعتقاد.
القراءة التي تحدث وتمارس وتتعرف بهذه الكيفية هي ما أقصده بالزاد الأيديولوجي وهذه القراءة تنتعش وتزدهر في مناخ من الصراعات الفكرية والأيديولوجية ضمن تشكيلة اجتماعية معينة، أي أنها فعل مشروط بالحراك. وهذا الحراك مشروط هو الآخر بمناخ من الحرية، وبالتالي بشيوع «الآخر» كوجود حقيقي فاعل تتعرّف به الأنا بمقدار ما تعرّفه.
إن ارتهان فعل الكتابة في هذه الحالة لفكرة أفكار سابقة, أي حرمانه من الكون موقفاً وممارسة نقدية تقيم فيها الذات حدوداً واضحة بينها وبين موضوع الكتابة، فإنه لا يعدم كونه مرآة للجدل والسجال والمماحكة, وأنه يشكل مقاومة، وإن بدت ملتبسة، تضمن عدم تحوّله إلى عملة مطرودة من ساحة التداول في سوق يحكمه الرأي الواحد، والفكر الواحد، والرؤية الواحدة.
فالطيف الواحد, بعيداً عن الحق في الاختلاف, لا يجعل من فعل القراءة وحده ممارسة من دون طائل، بل تتسع الدائرة حيث تنعدم أفعال الذات خارج حدود ذاتيتها ويتحول معنى الفردية إلى تقوقع وعزل ذاتي.
القراءة كاختبار ذاتي
إذا كانت القراءة كزاد أيديولوجي تجسد الغائية المحض فإن نوعاً من القراءة يمارس من منطلق عكسي تماماً. إذ ان القراءة الأولى تنطلق من الفكرة لتعززها فيما الثانية تمثل بحثاً عن الفكرة, إنها حوار بين الذات وذوات أخرى توجد كوجهات نظر تقدمها الكتابة وتشكل دوماً مع كل مختلف اختباراً للمكان والزمان الذاتيين: أين ومتى؟ غير أن حقيقة لابد من أن تتخلق هنا وتتمثل في أن فعلي القراءة، المختلفين منطلقاً، مشروطان بمناخ الحرية, ولابد من أن تستتبعها حقيقة ثانية هي أن القراءة، كاختبار ذاتي، تمثل عملية استهلاك، إذا استعرنا تعبيراً اقتصادياً، لما ينتج في ميدان الصراع بين الرؤى والأفكار. وعليه فلابد من أن تتأثر هذه القراءة بالشح الذي يسببه مناخ انعدام الحرية أو انخفاض سقفها.
غير أن سمة الاختبار ستبقى على أي حال ويبقى الحوار قائماً بين عالم يتشكل كنصوص وذات تتموضع في المقابل كنص,وهكذا تتحول القراءة كفعل، أو كحدث، إلى جدل بين ذوات نصية يتمثل حده الأول بالنص المكتوب, وحده الثاني بالنص القارئ. ذلك أن القارئ هو تراكم الخبرة التي حازها وتحصّل عليها في المجالات كلها, ومثله النص المكتوب، وإن اختلف قليلاً إذ يجسد جزءاً من خبرة وليس كُلاًّ.
وفي التمعن بفعل القراءة كاختبار, ونتيجة لغياب الشرط الذي يجعل منه تقليداً ملازماً للنشاط الفردي في إطار من النشاط الاجتماعي العام, نجد أنه فعل يقتصر على شريحة اجتماعية من دون غيرها. وهذه الشريحة تتمثل بجزء من الفاعلين الثقافيين الذين يتبادلون المواقع بين القراءة والتأليف، يضاف إليهم عدد قليل من الأشخاص الذين يظهرون الإخلاص لموقعهم كقراء, من دون أن يعني هذا بأن رغبتهم في الكتابة ليست مستيقظة على الدوام. إن القارئ يبحث دوماً عن موقعه في النص عبر معاينته حتى لأوهى الارتباطات التي قد تصلح للكون مفاصل بين منظومته الفكرية أو الثقافية وبين ما يتحرك ضمنه النص المقروء من منظومة مقابلة. وفي عملية البحث هذه قد تتبدل مفاصل عدة كما قد تقترح مفاصل لم يكن طرفاها موجودين أساساً, لا في النص ولا في منظومة القارئ. أي أن القارئ يقترح على النص بقدر ما يقترح هو الآخر عليه. وهنا يتكثف الاختبار وترتفع وتيرة امتحان الذات، ذلك أن القراءة كاختبار ذاتي ليست بحثاً وتنقيباً عن معنى بل هي خلق له. وهي مراجعة للمسبقات على ضوء آلية الخلق الوليدة, بهذا تصبح القراءة كما الكتابة محاولة لفك ما استعصى من مغاليق الذات وإضاءة لما بقي فيها بعيداً عن التكشف والمساءلة.
أخيراً. لابد من أن القارئ قد لاحظ, من دون شك, غياب أي إشارة حول دور المؤسسة التعليمية والتربوية برغم أن ظلالها كانت حاضرة عند كل مفصل مما سبق. ولأن ما بين القراءة, بالمعنى الذي أوردناه, وبين مؤسساتنا التعليمية جرح عصي على الالتئام، فقد تركنا أمر بحثه ودراسته حتى يتسنى لنا ذلك بشكل مستقل.