07 يونيو 2013 بقلم
عبد السلام الطويل قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:الملفت للانتباه - بحسب ميشيل هار، المجلة الأدبية الفرنسية، ع.298، أبريل 1992، ص92 - في البداية، هو هذا الحجم الهائل من النصوص والدروس التي كتبها أو ألقاها هايدغر عن نيتشه: فلقد قدم عنه ولمدة عشرين سنة تقريبا، من سنة 1936 الى 1955، كَمّا هائلا من المقالات والمحاضرات والحواشي والشذرات ... التي لم يتم نشر بعضها إلا بعد وفاته. وهكذا شكلت الدّروس والتّأملات التي رافقتها، لوحدها، أربع كتب ضخمة لم تنشر إلا في الثمانينيات، وفي ألمانيا فقط، والتي لا يمثل الكتاب الذي صار معروفا عند القارئ العربي بعد ترجمته الفرنسية، بجزأيه، إلا قسما واحدا منها. ( فيما يلي "قراءة أخرى"، أو تأملا "متصرفا جدا "، في المقال الهام المشار إليه أعلاه.)
الواقع أنه لم يسبق لأيّ فيلسوف كبير أن قام فيما مضى بقراءة لفيلسوف آخر كبير ومن وطنه بمثل هذا الإسهاب وعلى هذا النحو من التفصيل والإصرار.. لماذا كل هذه المواجهة الضارية؟ لماذا هذا التفكيك الهائل والطموح؟ بالتأكيد من أجل السبب الأساسي: باعتبار أن نيتشه يمثل الذّرْوة التي فيها تجد الميتافيزيقا الغربية اكتمالها، إنه "الفيلسوف الأخير" (حسب نعت نيتشه لنفسه!)، وإن سيكون ممثلا للمرحلة ما قبل الأخيرة، أي أنه الفيلسوف ما قبل الأخير، لاكتمال أكثر اتساعا وخطورة، سوف تجسد إرادة القوة مقدمة وتأسيسا لإرادة الإرادة وسوف تعمل على التفكير سلفا في هياج قوى العدمية الرهيبة التي تطبع العصر الغربي: عصر التقنية، ممثلا في تطور العلم وتحكم الدولة الشمولية في الرقاب (واحتجاب المقدس وتدمير الأرض و"قطيعية" الإنسان = من قطيع "المدخل الى الميتافيزيقا"). فكل هذه المظاهر تحكمها إرادة تخطيطية شرسة تنتمي إلى إرادة للقوة "عقلانية" (أداتية) وحسابية. هذه القراءة لنيتشه فرضتها، على نحو من الأنحاء، موضوعة التحقق النهائي للميتافيزيقا مجسدة في شمولية القدرة التكنولوجية .
غير أن هذا السبب الظاهر يلتقي بسببين آخرين نادرا ما يجري التّصريح بهما، وإن جرى ذلك، ففي حدود ضيقة وبتحفظ: سبب سياسي أولا! فقد كان الحوار مع نيتشه مقاومة وصراعا ضد أيديولوجية "الاشتراكية القومية" وتوظيفها للمثقف. يشير هايدغر لذلك سنة 1945 في رسالة العمادة التي تقدم بها لجامعة فرايبورغ- والتي قال فيها بأنه شرع منذ 1936 في إعداد "سلسلة من الدروس والمحاضرات حول نيتشه... وهي تُشكل بوضوح شرحا ومقاومة روحية. فليس من حقنا أن نعمل على تكييف نيتشه مع الاشتراكية القومية، إنها (النازية) هي محاولة إضفاء للتلاؤم يمنعها سلفا تجريده لما هو أساسي وعداؤه للنزعة المُناهضة للسامية، وموقفه الإيجابي من روسيا. غير أن إماطة الحجاب عن ميتافيزيقا نيتشه هي، بدرجة أعلى، إماطة الحجاب عن العدمية". في الواقع أنه لا يمكن فهم النازية إلاّ ضمن التأويل الهايدغري العريض للعدمية التي ترتبط بالتقنية وبنسيان الكينونة.
أما السبب الثاني والأكثر تخفيا الذي يفسر كل هذا الانكباب فهو يعود الى الانجذاب القديم والإعجاب بنيتشه الذي يعود إلى سنوات الطلب (قرأ "إرادة القوة" بين سنتي 1910 و1914 ). إنه يقر بهذا الإعجاب في الحقيقة، غير أنه لا يعرض له. إن ما يقتسمه مع نيتشه هو الذي يدفع به إلى أن يصنع منه "خصما كبيرا" له ، كما يقول، فاختلافه معه محمول على "القربى الأكثر حميمية "فهو " يرفعه" إلى مقام "نبيّ كل الكوارث " والمنذر " بأعتى الانهيارات " و"غير المبشر بأي فجر" وبأية " إعادة لتجدد الإنسان والعالم". ترى ما الذي يقتسمه تحديدا مع نيتشه؟ أولا كون أن فكرة "موت الألوهية"، هي الشرط الأساسي لكل مسعى فلسفي، ثم الإقرار في نفس الوقت بأن الإلهي لا يختفي هكذا، وإنما يدخل في تحوّل وتغير بحيث ينفلت من الدين نفسه...ثم هناك قرابة أخرى تتمثل في إقصاء النزعة الإنسانية – الإحيائية المتمركزة حول الذات الإنسانية أو الفكرة القائلة بأن الإنسان كائن من اللازم مجاوزته – ولكن ليس من أجل العودة الى التمركز اللاهوتي.
وأخيرا تستثير إعجاب هايدغر إعادة اكتشاف نيتشه المدهشة للفكر الإغريقي الماقبل سقراطي، خاصة، ومعاداته القوية للأفلاطونية، لولا أنه – بحسب هايدغر – بقي، في محاولته للإطاحة بالأفلاطونية، سجينا لتعارضاتها كينونة/صيرورة، حقيقة/ مظهرا، فقد "تورط فيها"، من هنا تلزم إعادة طرح جذرية للسؤال، تقود هايدغر إلى قراءة تزداد استرابة كل مرة من فلسفة نيتشه وذلك للكشف عن كونها تقع كلية في شرك التقليد الميتافيزيقي الذي تدعي هدمه ومجاوزته .
غير أن هذه الأطروحة المغالية في جعل نيتشه ينتمي للميتافيزيقا لم يدافع عنها هايدغر إلا في مرحلة وُسطى: حوالي سنة 1940، 1946 وفي الجزء الثاني من كتابه عن نيتشه، الفصل السادس، و في الدراسة المشهورة: "كلمة نيتشه، موت الله"، المنشورة سنة 1950، و المكتوبة إجمالا سنة 1943، ذلك أن موقفه تطور بهذا الصدد مع الأيام كثيرا، بعد ما كان مختلفا جدا في البداية، أي في الجزء الأول من نيتشه 1936، 1937 عن الجزء الثاني، و بالخصوص في نصه "ماذا يعني التفكير؟" 1951، 1952، حيث نجد فيه نوعا من المُنافحة عنه، و"التبرير" لبعض الثيمات النيتشوية. فقد أعرب في الحالة الأولى عن احتراس مع ذلك في إمكانية اختزال نيتشه إلى شخص تنطلي عليه الميتافيزيقا فيلجأ فقط إلى تكرارها. إن قلب تراتبية الحسي وغير الحسي تحدث نقلة وليس مجرد تكرار للترسيمة الأفلاطونية، ومعنى ذلك، بحسب هايدغر، "قلب للترسيمة القديمة رأسا على عقب"، فالترسيمة الأفلاطونية لا تخرج سليمة من الرّجة التي تعرضت لها. كما يعود في دروس 1951، 1952 إلى هذا الموقف المُتدرّج فيقر بأن نيتشه لا يجعل نهاية فقط لكل بواعث الفكر الغربي كما كان في السّابق، بل يجري عليه تحويلا، هكذا فإن الإنسان الأعلى ليس هو الكائن الإداري الكبير، أي المُخطّط و"موظف التقنية " ولكنه، على عكسه، إنه نموذج آخر لنوع من الإنسان المُتحرّر من نير السلطة التقنوقراطية، منقطع إلى الفن والشعر وقد تخلى عن المساهمة في الجهاز التكنولوجي الكوني.
إذا ما أخذنا قراءة هايدغر لنيتشه ككل، أي خارج التتابع الكرونولوجي، وإذا ما قربنا بين تأويلين متناقضين، فمرة يَعِدُ ب"مرافقة " الموضوعات النيتشوية، مع تنميتها، ومرة يختزلها ويردها بعنف إلى ماضي الميتافيزيقا. هذا التناقض الوجداني (الرغبة في إعادة الاحتياز و الرفض ) واضح إزاء كل "الطروحات" النيتشوية. لنقتصر على المثال التالي: على المعالجة الهايدغرية لإرادة القوة ثم للعود الأبدي. فإرادة القوة هي "الشكل الأصلي للانفعالية": وهذه الانفعالية ليست هي الاستمتاع الذاتي، بل هي واقع إحساس المرء بأنه محمول خارج ذاته، ويحدث هذا بالفرح الإيجابي وبالسلوان الخلاق. يكتشف نيتشه أن كل إرادة هي نتاج يستند على إحساس مجيد يُهَيمن عليه الإحساس بالمرور من حالة معطاة إلى حالة عُلْيا. ستعني إرادة القوة التحقق على نحو كامل، الإحساس بضرورة مجاوزة الذات وتوطيد العزم على ذلك والشعور الفرحان بالقدرة على المجازفة من أجل الإبداع. ستكون "إرادة القوة" هي التعالي و"الإكْستاز" (الانفتان)، المشروع الذي لا يعلله أي تصور إلا الإحساس المتعجل بضرورة الإبداع فقط. غير أن هذا البعد الشعوري والنفسي يختفي في الجزء الثاني من كتاب هايدغر عن نيتشه، وتتحول إرادة القوة إلى إرادة تريد من أجل لا شيء، تريد من أجل أن تريد، مسترشدة بعقلانية ما (الحساب). هذه الإرادة الحسوب بما أنها تعتمد على القيم من أجل تنمية وصيانة درجة قوتها ستكون هي جوهر كل الأشياء .
وعلى غرار ذلك، يصير فكر "العود الأبدي" خاليا من أي بعد لغزي أو باطني، (في الجزء الثاني)، ومن أي تحقق متفرد ويصير مقتصرا على التعبير عن المقولة التجريدية للوجود وعلى الإعراب عن الكينونة في كليتها التي ليس لها من هدف ولا هوية، إنها عبارة عن خليط من الطاقات والمنظورات. إن العود الأبدي مختزل هنا إلى لعبة محدودة من المفاهيم الميتافيزيقية كينونة محمولة على الصيرورة مُتحولة. إنه "الثبوتية الأشد رسوخا للمتقلب". بالمقابل فقد سبق لهايدغر في الدرس الأول، الغني جدا، أن أول العود كإمكانية إيمان بالانطلاق من تجربة اللحظة ال"إكستاتيك "(الانفتانية). فضلا عن أنه سعى إلى فهم الجانب الديني في هذا الفكر الذي وصفه بكونه لاهوتا سلبيا أراد أن ينفي كل الصفات الأنتروبومورفية عن الإلهي. هذا فضلا عن "اللامفكر فيه" المستوفي تفكيرا من طرف هايدغر و الفريد جدا إلى حد أنه لا يكبح جماح إعادة قراءة هايدغر / نيتشه .