صنع من اجله العمل كما يقول
بارت، وهو حتما قارئ ما، فانه يتعين بدءا تحديد مفهوم القراءة بوصفها قراءة
نقدية من الخارج وهو بذلك ليس القارئ المواجه للراوي داخل النص، الذي ميزه
لينتفلت بثلاث مستويات هي على التوالي، القارئ الحقيقي، والقارئ المجرد،
والممثل اوالفاعل. القارئ الذي اقصده هنا ليست له صلة بالمروي له داخل
النص، وإنما هو متصل بناقد يميز نقاط التوهج النصي، وبذلك يضيء مناطق
بعينها على أساس درجة تميزه عن سائر النصوص، والقراءة بهذا المعنى تصبح
تأويلا لدلالة النص الأيديولوجية، كما هي موجودة ومتأصلة في المتن، وتهدف
القراءة بهذا الفهم بالتالي الى تقويل البنية النصية والتغلغل في خفاياها
ومعالجتها معالجة فنية تحليلية، فبعد سقوط الرايخ الثالث دعت الحاجة في
ألمانيا نتيجة لمتطلبات عصر جديد، الى حجب كل ما يرتبط بالحقبة التاريخية
السوداء، فكان ذلك مدعاة لظهور نظرية جديدة دعا إليها كل من فولفانج ايزر
wolfgang Iser وهانز ياوس hans Jauss _وهما ينتميان الى مدرسة كونستانس _
الى نظرية جديدة تثور على المناهج السابقة، سواء تلك التي تركز على بنية
النص المغلق كما في البنيوية أو المناهج التي تركز على المبدع وحياته
وأهملت بالمقابل النص بوصفه كيانا مستقلا عن كاتبه.
من هنا كانت الدعوة الى تلك
النظرية التي تجعل القارئ عنصرا فاعلا في العمل الأدبي، على اعتبار ان النص
هو أصلا قد كتب الى قارئ ما. وقد كان للدراسات في عملية التواصل النقدية
الحديثة فيما بعد دور في إنضاج مفهوم تأويل النص من حيث هو كيان قائم بذاته
ينتظمه تجانس دلالي كفيل بإنجاح قراءة لا تعتمد في مسارها على خارجيات
التجربة الكتابية، بحيث تغدو القراءة الدلالية عونا على ما يحاول النص
تقديمه واستجلاء للمعاني المتخفية عبر دلالاته المكتنزة. وتأتي القراءة
التأويلية في لم المنظومة الدلالية وإبراز الوعي المحدد للمستوى الذي ينتظم
فيه التعبير، من خلال اللغة التي تنحرف عن مسار حياديتها لتكتسب انزياحا
تثريه ذاتية الكاتب. ومن اجل تحقيق قراءة جادة لأي نص لابد من اعتماد آليات
من داخل النص نفسه بتنطيقها على افتراض ان القراءة التأويلية لطبقات
المعنى هي بالأساس تحقق الهدف المنشود، وهذا التأويل حسب تودروف يشكل
اختلاف القراءة حسب الأزمنة او العصور، فالتأويل يدرج العمل الأدبي في نظام
يرتبط بالقارئ وبعلاقة تقيمها القراءة بين النص والكاتب، أو بين النص
وزمنه، في حين يبقى التحليل المهتم بدراسة الوظائف في العمل الأدبي مقتصرا
على العلاقات الداخلية في العمل. وينبغي على التأويل ان يقدم أدلته
وبراهينه المنطقية على ما يقول، سواء أكانت القراءة نفسية او اجتماعية او
غير ذلك. وبالنتيجة يصبح التأويل إدخال العمل الأدبي في علاقة مع القراءة،
إذ لا قراءة خارج التأويل، كما تقول يمنى العيد، والقارئ بهذا المعنى يقع
بالضرورة في نقطة محورية من شبكة العلاقات المكونة للعمل دون التزام منه
بالمسبقات البنائية، وهذا بدوره يمكِّن القارئ من لم شتات القراءة واعادة
تركيبها بما يكفل له الوقوع على الحلول والإجابات التي يتوخاها، ومن ثم
تحديد البناء الذي اتخذه العمل الأدبي هيكلا لموضوعه حسب سيزا قاسم .
تحقق القراءة نوعا من التعالق
بين بنية النص والبنية الدلالية، وتحقق الارتكاز من داخل النص على الاسس
التي يقوم عليها، ما يقتضي أفقا واسعا ومعرفة وادراكا عميقين للدلالات التي
ينبني عليها النص، وان كانت هذه الدلالات مؤولة من وجهة نظر القارئ الذي
يختلف بدوره في إنشاء مجموعة من الأسئلة والأجوبة أو الاسئلة فقط لبناء نص
نقدي جديد يقوم في أساسه على النص الأساس المقروء. في تقديري ان هذه
القراءة نوع من الدراسة العمودية لنص ما، واقصد بالعمودية هنا الدراسة التي
تقتضي استغوار بنيته الدلالية من خلال تأويل لاستجلاء طبقات المعنى، وهذا
يختلف عن الدراسة الأفقية التي هي دراسة نتاج بعينه من خلال التطرق الى
بنيات تشكل هذه الأجزاء المكونة للعمل دون الغوص في دلالته. ومن اجل تحقيق
دراسة هادفة وموضوعية تبتعد عن الأهواء والأمزجة، وتهدف على العكس إلى
إبراز إبداع كاتب ما في نص ما او إظهار إخفاق أدبي، ولكن بشكل لائق دون
الربط بين الكاتب ونصه، بعيدا عن الأهواء الشخصية والعلاقات الاجتماعية،
يمكن ان يتحقق نص محايد،دلالي مقروء من وجهة نظر نقدية واعية لعملية
الإبداع، وهذا يتأتى من خلال التمييز بين هذا العمل او ذاك على أساس مقدار
العمق في الكتابة والتحديث على وفق متطلبات العصر . هنا تحديدا يبرز احتدام
بين وعيين مفكرين، يمثل الاول وعي الكاتب المنشئ للنص، فيما يمثل الثاني
وعي الناقد النافذ إلى أعماق نص ما من خلال قراءة تأويلية جادة، لقد دفع
احتدام هذين الوعيين آيزر إلى أن يصنفهما تحت منحيين فني وجمالي يرتبط
الأول بالكاتب من خلال إنشائه لنصه الذي ينتظم منظومة من الرموز والمضامين
والدلالات الأيديولوجية المرتبطة بفكره المنشئ، التي تشكل في النهاية
اللحمة التي تمثل بنية النص الكلية. يقابله في الطرف الآخر المنحى الجمالي
الذي يكمن في عملية إعادة البناء من خلال قراءة ترقي بالنص من حالته
المجردة الى حالة ملموسة بفضل عملية تأويلية تسبر أغوار النص بحثا عن
الدلالات الخفية الكامنة فيه،
وبذلك يمكن الحصول على نتيجة
مفادها السؤال التوليدي: ما هو المقصود من هذا النص؟ وما هو سر الإبداع في
هذا العمل دون غيره من النصوص التي لم تحرك فينا ساكنا؟
هذا الشعور مرتبط بعملية
القراءة وبالقارئ كون أن القراءة أو النقد بهذا المعنى يرتبطان بالمشاعر
أيضا حسب الناقد الألماني المشهور مارسيل راينسكي الذي ارتبط اسمه بتطور
الأدب في ألمانيا، وفي ضوء ما يراه يكون الناقد جادا حين لا تتوافر لديه
معايير ثابتة تحدد منهجه، وعليه فإن جوهر النقد يكمن في ثقة الناقد بذائقته
الجمالية ووفائه لذاتيته الأدبية. وهنا تظهر أهمية التأويل وتكمن وظيفته
في الكشف عن أبعاد النص من خلال تعدد طبقات المعاني التي يظهرها إلى السطح،
بل انه قد يكشف أحيانا عن عمق أخفى من خلال تلك العلاقة القائمة بين
الناقد والنص في الكشف عن دلالات عبر تلك العلاقة الحوارية بين الناقد
والنص مسفرة عن عملية غوص نحو أعماق ثقافية وفكرية. ولان البحث عن المجهول
واحد من مهمات التأويل، يصبح من غير الممكن للمعطيات المباشرة الدالة في
جسد النص بتشكلاته الخارجية ان تفي بمتطلبات الحداثة، فيتعمق الإنسان من
خلال تسليط الضوء على الذات بعيدا عما يحيط بها من متعلقات خارج سيرورة
التاريخ، وخارج أسوار الزمن، وبذلك يصبح النص قابلا للقراءة في كل عصر،
وهذا أمر لا يعني بالضرورة انه الوجه الأمثل للحقيقة التي يهدف إليه النص
ذلك أن اختلاف القراءات يدحض ادعاء كهذا.
بقي لي ان أقول إن قراءة كل
نص تختلف من عصر لآخر، فقراءة معلقة امرئ القيس تختلف عن قراءة نص حداثي
لأدونيس، والسبب في ذلك واضح إذ أن لكل عصر ثقافته، وكما تختلف القراءة بين
ناقد وآخر لاختلاف الثقافات و تختلف النصوص في قراءتها من زمن لآخر ومن
ناقد لآخر فإنها تختلف في قراءتها من مكان لآخر، وعليه فإن النص الألماني
تختلف قراءته عن نص عربي للسبب نفسه ألا وهو اختلاف ثقافات ...