** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 الإسلام والانغلاق اللاهوتي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
free men
فريق العمـــــل *****
free men


التوقيع : رئيس ومنسق القسم الفكري

عدد الرسائل : 1500

الموقع : center d enfer
تاريخ التسجيل : 26/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 6

الإسلام والانغلاق اللاهوتي Empty
28122012
مُساهمةالإسلام والانغلاق اللاهوتي

الإسلام والانغلاق اللاهوتي

الإسلام والانغلاق اللاهوتي %20%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD
نشر بتاريخ :8 07 2012 | الساعة 20:45بقلم : . . هاشم صالح
الاسلام والانغلاق اللاهوتي

لماذا أصبحت الأصولية الاسلامية المشكلة رقم واحد للعالم؟



هاشم صالح

"الاسلام والانغلاق اللاهوتي" لهاشم صالح كتاب صدر مؤخّرا عن دار
الطّليعة بالتّعاون مع رابطة العقلانيين العرب. وقد رأينا أن ننشر مقدّمة
الكتاب من باب التّعريف به.

متى ينتهي قرن ويبتدئ قرن آخر؟ وهل تقاس القرون بعدد السنوات، أي
بمائة سنة كلّ مرّة، أم أن هناك مقياساً آخر أكثر جدية؟ عموماً يتفق
المؤرخون على القول بأنه ينبغي أن يحصل حدث هائل يفصل ما قبله عما بعده كي
يبتدئ فعلاً عصر جديد في التاريخ. بهذا المعنى فإنّ القرن الثامن عشر
ابتدأ عام 1670 وليس عام 1700 أو 1701 كما نعتقد عادة. لقد ابتدأ مع صدور
أوّل كتاب مهمّ لسبينوزا "مقالة في اللاهوت والسياسة"(1)، وانتهى بالثورة
الفرنسية عام 1789 وانتصار التنوير على النظام الأصولي القديم. هذا يعني
أنه دام قرابة المائة والعشرين عاماً!… ولكنّ البعض الآخر من المؤرخين
يقولون بأنه ابتدأ عام 1715 لأنّ التنوير لم ينتشر في الأوساط المثقفة
فعلاً إلا بدءاً من ذلك التاريخ. صحيح أنّ سبينوزا وجّه ضربة موجعة للنظام
اللاهوتي اليهودي- المسيحي بنشره لكتابه التفجيري أو التفكيكي المذكور.
ولكنّه ظلّ ظاهرة معزولة في وقته، وكان يشتغل بشكل سرّي جدّا مع قلّة
قليلة من المفكرين المعزولين الخائفين. ولم تخرج الظاهرة النقدية للدين
إلى العلن ولم تسفر عن وجهها الحقيقيّ في وضح النهار ولم تتحوّل إلى تيّار
شعبيّ إلا بعد عام 1715. وهكذا يصبح عصر التنوير قصيراً جداً لأنه لم
يستمرّ أكثر من خمسة وسبعين عاماً لأنّه ينتهي بالثورة الفرنسية في كل
الأحوال. ومعلوم أنّها كانت الترجمة السياسية له ولأفكاره على أرض الواقع.
وإذن فكلّ شيء يعتمد على الزاوية التي ننظر منها إلى الأمور من أجل قراءة
القرون أو قياسها. أمّا القرن التاسع عشر فكان طويلاً جدّاً بإجماع
المؤرخين. فقد ابتدأ بعد الثورة الفرنسية مباشرة، ولم ينته إلا على أبواب
الحرب العالمية الأولى 1914: أي أنّه طال أكثر من مائة وعشرين عاماً.

أمّا القرن العشرون فعلى العكس: لقد كان قصيراً إذ ابتدأ بعد الحرب
العالمية الأولى وانتهى بسقوط الشيوعية وجدار برلين وحرب الخليج الثانية
التي تلتها مباشرة (1914-1990). وهذا يعني أنه لم يدم أكثر من خمسة وسبعين
عاماً. نستنتج من ذلك أنّ القرن الواحد والعشرين، أي قرننا الحالي، ابتدأ
عام 1990 وليس عام 2000 أو 2001. ولكن المشكلة هي أنّ هذه السنة شهدت
حدثاً جللا لا يقل أهمية عن سقوط الشيوعية وجدار برلين وحرب الخليج ألا
وهو: تفجيرات 11 سبتمبر وحرب أفغانستان. فبأيّهما نؤرخ لهذا القرن إذن؟
أعتقد أنه يمكن أن نؤرخ له بهما معاً. وبالتالي فالقرن الحادي والعشرون
ابتدأ مرتين: المرة الأولى مع سقوط الشيوعية وحرب الخليج التي تلتها
مباشرة، والمرة الثانية مع أحداث 11 سبتمبر. وإن كنت أعتقد أنه ابتدأ
بالفعل بعد 11 سبتمبر. فإذا كان سقوط الشيوعية قد أغلق القرن العشرين فإن
11 سبتمبر قد دشن القرن الحادي والعشرين. وفي كلّ مرة ابتدأ بحرب شبه
عالمية. فصراع الحضارة الغربية إن لم نقل العالم كله مع صدام حسين والتصور
الفاشي للقومية العربية، وصراعها حالياً مع أسامة بن لادن والتصور الظلامي
والفاشي أيضا للأصولية الإسلامية ما هما إلا استمرارية لنفس البداية
التدشينية. وعندئذ يصبح السؤال المطروح هو التالي: لماذا كنّا نحن، من بين
كل شعوب الأرض، العقبة الكأداء في وجه انتشار الحضارة الحديثة؟ لماذا كان
ينبغي أن يُدشَّن القرن الحادي والعشرون على أكتافنا أو أنقاضنا؟ لماذا لم
تصطدم الحضارة الحديثة مع النطاقات الحضارية الأخرى بنفس الفرقعة والعنف:
كالنطاق الهندوسي مثلاً، أو النطاق البوذي، أو النطاق الصيني
الكونفوشيوسي، أو حتى النطاق الأرثوذكسي الروسي؟ أطرح هذه الأسئلة
المتلاحقة ونحن ندخل هذا العام (2010)عقدا جديدا من القرن الحادي والعشرين.

طرح السؤال بهذه الطريقة يدل على أننا مهمون جدا ولو بشكل سلبيّ!
فالمشاكسون تبقى لهم أهميتهم حتى ولو بالخطأ(2). وأنْ تتوقف أنفاس العالم
كله بناء على حماقة هائلة نرتكبها(غزو الكويت، أو 11 سبتمبر) دليل على
انحطاطنا أو انسدادنا التاريخي بدون شك، ولكنه أيضا دليل على أننا أصبحنا
مشكلة العالم مرتين خلال عشر سنوات فقط. وحسم مصير العالم توقف، مرتين،
بناء على قرار اتُّخذ حيالنا، أو ضدنا. ولكن يبقى السؤال مطروحاً: لماذا
أصبحنا المشكلة رقم واحد بالنسبة للعالم كله؟ وما هو الشيء الذي يميزنا عن
بقية أمم الأرض لكي نصبح العدو الذي يتجرأ على تحدي أكبر حضارة على وجه
الأرض: قصدت الحضارة الغربية الحديثة؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يُطرح
الآن. والإجابة عليه ينبغي أن تكون واضحة، صريحة، بدون لفّ أو دوران. وهذا
ما سأفعله هنا مدركاً مدى مسؤولية، بل وخطورة الكلام في هذه اللحظة. سوف
أقول ما يلي:

أظن أننا الحضارة الوحيدة على وجه الأرض التي تعتقد بأنها تمتلك
الحقيقة الإلهية المطلقة(3). لا ريب في أن الحضارات الأخرى تتمحور حول
نفسها وتعتقد بمركزيتها وتحب ذاتها . هذا شيء طبيعي. الحضارة الصينية كانت
تعتقد ذلك وتعتبر نفسها إمبراطورية الوسط. ولكن ولا واحدة منها تعتقد
بأنها تمتلك الحقيقة الإلهية مثلنا، أو قل تحتكرها احتكارا كاملا ونهائيا
لوحدها. وأقصد بذلك الحقيقة العمودية الشاقولية النازلة من فوق إلى تحت،
أو من السماء إلى الأرض. وهذا الاعتقاد الذي ربما كان سبب فتوحاتنا وقوتنا
وعظمتنا في الماضي أصبح الآن عالة علينا. بمعنى آخر: فان ما كان سبب قوتنا
أصبح الآن سبب ضعفنا أو جمودنا او توقفنا عن التطور والنمو.

ضمن هذا المنظور تتخذ مشكلة الأصولية كل أبعادها وخطورتها. فالأصولية
الإسلامية تمثل حالياً العدو الأكبر للحضارة الحديثة. إنها تمثل العدو
المطلق بامتياز. وهي على أي حال لا تخفي ذلك، وإنما تعلنه على رؤوس
الأشهاد في كل لحظة. فاحتقارها لقيم الحداثة أشهر من نار على علم. وإذا
كانت تأخذ منها الجانب التكنولوجي أو التقني المحض فإنها تحرص أشد الحرص
على ألا يكون "ملوثاً" بالجانب الفكري أو الفلسفي أو "الوثني" الخ.. ثم
إنها تأخذه لكي تعكسه ضد الغرب أو لكي تواجهه به وتدمره به إذا استطاعت.
معنى ذلك أن محاربة الغرب الذي يشكل مركز الحضارة الحديثة منذ أربعة قرون
أصبحت غاية بحد ذاتها. لقد أصبحت هدفاً يتعالى على كل هدف بدلاً من محاولة
الاستفادة منه ومن تقدمه كما تفعل الأمم الأكبر حجماً وأهمية منا نحن
العرب: كالصين والهند مثلاً وقبلهما اليابان. لماذا أصبحت محاربة الغرب
غاية لا وسيلة تنتهي بانتهاء مسبّباتها؟ لماذا أصبح الخطاب السياسي العربي
مع استثناءات قليلة مجيَّشاً كله لمحاربة الحضارة الغربية(4)؟ بل ولماذا
أصبح الخطاب الفكري العربي، وهنا أيضا مع استثناءات قليلة، مُحْتَكَراً من
قبل القومويين العرب أو الأصوليين الإسلامويين؟

لماذا تحولت كل الخطابات التي نقرؤها في الجرائد والمجلات
والتلفزيونات والمؤلفات إلى خطاب واحد جبار يهدر صاخباً من المحيط إلى
الخليج بكره الغرب واحتقار الغرب؟ قد تختلف الأسماء التي توقع على هذه
الخطابات وتتعدد إلى ما لانهاية ولكن المضمون يبقى واحداً والخطاب هو هو.
وهل هذه الامتثالية الإجماعية المخيفة دليل صحة وعافية، أم علامة على
المرض والانحطاط؟ ولماذا لا توجد أكثر من عشرة أسماء تمشي عكس التيار، أو
تفكر بشكل مختلف، أو تخرج عن هذا الإجماع الجبار؟ لماذا تحولت معاندة
الغرب إلى شيء مجاني، عدمي، انتحاري؟ لماذا تحولت إلى تدمير ذاتي للذات؟
أسئلة كثيرة تتلاحق وراء بعضها البعض…

أعتقد أن سبب هذا الإجماع لاهوتي عميق الجذور في تاريخنا. فمنذ أن كان
الخليفة القادر بالله قد أعلن قبل حوالي الألف سنة –نعم ألف سنة !- أن دم
المعتزلة مباح لأنهم يقولون بخلق القرآن، تعودنا على الفكر الواحد،
والمذهب الواحد، والرأي الواحد(5). وتعودنا على قمع كل رأي مضاد أو مختلف.
ومنذ أن كان الغزالي قد كفّر الفلاسفة وخاصة ابن سينا والفارابي أصبح
التفسير العقلاني للدين كفراً ما بعده كفر…وهكذا حلت أرثوذكسية أحادية
الجانب محل التعددية الفكرية الثرية التي سادت العصر الذهبي المجيد من عمر
الحضارة العربية الإسلامية(6). لقد تعودنا على هذه الامتثالية الفكرية
طيلة القرون التالية إلى درجة أن أي انحراف عن الخط العام، أو أي اختلاف
في الفكر أصبح يعتبر زندقة، أو هرطقة، أو خيانة… والدليل على ذلك إجماع
المثقفين العرب عام 1990على تأييد غزو الكويت واستباحة أهلها، ثم إجماعهم
تقريباً عام 2001 على تأييد بن لادن وضربة 11 سبتمبر ! من يصدق ذلك؟ من
يستطيع تصديق ذلك؟ وإلى أي منحدر انحطت هذه الأمة لكي تتخذ نخبتها المثقفة
مثل هذه المواقف؟ وكيف غابت الرؤيا أو ضلَّت إلى مثل هذا الحد؟ في تاريخ
الغرب، كل المفكرين الذين ظهروا، كانوا يضيئون للأمة الطريق، كانوا
يهدونها إلى درب الحقيقة. كانوا يرون الأشياء قبل أن تُرى. كانوا يستشعرون
المستقبل ويستكشفون آفاته عن طريق "الرادار الفلسفي" الكشاف. أما في عصرنا
الراهن فقد أصبح "كبار المثقفين العرب" أو من يدعونهم كذلك مضللين للبشر
أو يسبقونهم إلى الخطأ والغوغائية أو يلهثون وراء الشارع العربي والشعبوية
الأصولية والقومجية بدلاً من أن يعارضوا كل ذلك ويفتحوا لنا الطريق… مصيبة
حالة هذه الأمة ومأساة حقاً. فإذا كان مفكروها لا يرون إلى أبعد من أنفهم،
فما بالك بعامة البشر !

يبقى السؤال مطروحاً: لماذا كل هذا الكره للحضارة الغربية الحديثة؟
ولماذا لا نجده في أي نطاق عالمي آخر؟ لا ريب في أنه توجد في الصين أصولية
كونفوشيوسية أو تراثية لا تحبذ الانفتاح كثيراً على الحداثة بل وتحذر من
هجمة الأفكار الغربية مثلما تفعل أصوليتنا… وقل الأمر ذاته عن الأصولية
الهندوسية أو اليابانية أو السلافية الروسية الأرثوذكسية(7)، الخ… ولكن
يبقى التيار العام منفتحاً على التفاعل الحضاري ولا يعاني من أية عقدة في
الأخذ عن الغرب أو الاستفادة من إنجازاته الحضارية. فالحضارة تؤخذ حيث
وجدت، واطلبوا العلم ولو في الصين… أعتقد أن مزعم أصوليتنا في امتلاك
الحقيقة الإلهية المطلقة يشكل العقبة الكأداء التي تحول بيننا وبين
الانفتاح على الحداثة أو التفاعل معها كما ينبغي. نحن ضحية أنفسنا قبل أي
شيء آخر، نحن ضحية الحقيقة المطلقة النهائية التي نتوهم امتلاكها. فمن
يمتلك الحقيقة المطلقة والنهائية ليس بحاجة إلى أن يأخذ عن الآخرين. من
يمتلك الحقيقة الإلهية لا يأخذ عمن يمتلكون الحقيقة البشرية فقط. بل إن
على الآخرين أن ينضموا إليه ويعتنقوا عقيدته . من ختم العلم ليس بحاجة إلى
المزيد من العلم أو إلى البحث والاستكشاف والتقدم! ما دام هذا اليقين
سارياً فينا بشكل واع أو لا واع، وبالأخص لا واع، فإنه يستحيل علينا أن
نقوم بالمهمتين الأساسيتين التاليتين:

أولا: الحفر الأركيولوجي في الأعماق بحثاً عن جذور عقائدنا ويقينياتنا
التي تحجرت وتجمدت وتكلست إلى درجة أنها أصبحت تبدو وكأنها فوق الواقع
وفوق التاريخ كليا. وهكذا تحولت إلى حجر عثرة تحول بيننا وبين الانطلاقة
الجديدة التي تؤدي لاحقا إلى معانقة العصر، أو التصالح مع العصر.

وثانيا: التخلي عن عنجهيتنا الفارغة التي توهمنا بأننا مركز العالم،
في حين أننا لم نعد حتى على هامشه ! هذه العملية مؤلمة وقاسية وجارحة
للنرجسية الذاتية، ولذا فلن يكون من السهل على الشخصية العربية أو
الإسلامية أن تتحرر من استلابها وأوهامها المزمنة في السنوات القادمة. سوف
يكون الاستيقاظ مزعجاً حقاً إذا ما حصل، ولكنه سوف يحصل بإذن الله يوماً
ما. عندئذ سوف نصحو على تاريخنا، على تراثنا، وسوف نراه بعيون جديدة
وكأننا نراه لأول مرة !!.. عندئذ سوف نشعر وكأننا نولد من جديد، وكأننا
نُبْعث من مرقدنا كما بُعث أهل الكهف ! الفرق الوحيد هو أنهم ناموا فقط
ثلاثمائة سنة ونيف، هذا في حين أننا نمنا على التاريخ، على الفعل الحضاري
أكثر من ثمانمائة سنة (منذ هزيمة الفكر الفلسفي في الساحة الإسلامية
وانتصار الفكر الأصولي الضيق…أو منذ انتصار كتاب الغزالي: تهافت الفلاسفة
،على كتاب ابن رشد: تهافت التهافت). وبالتالي فاستيقاظنا سوف يكون أصعب من
استيقاظ أهل الكهف وأكثر مرارة.. ولكن كم من الضربات على الرأس تلزمنا لكي
نستيقظ على التاريخ، لكي نصحو على الحقيقة ؟ ! ألا تكفينا ضربة حرب
الخليج، ثم ضربة ابن لادن الأخيرة ثم قبلهما هزيمة 5 حزيران 67؟ أما آن
الأوان لكي نطرح السؤال الأول على تراثنا، على هويتنا، على أصوليتنا؟ أما
آن الأوان لكي ننخرط في قراءة علمية وتاريخية لتراثنا الديني والعقائدي
بدءاً من ظهور الإسلام وحتى اليوم، بدءا من بسم الله الرحمن الرحيم وحتى
آخر خطبة لآخر شيخ؟ أما آن لنا أن ننخرط في عملية الحفر الاركيولوجي في
الأعماق(8) لكي نصل إلى أس المرض والداء العضال؟ وهل يمكن أن نتوصل إلى
برّ الأمان إذا ما عاندنا حركة التاريخ ورفضنا القيام بهذه العملية
الجراحية الخطيرة. آخر الدواء الكيّ كما تقول العرب. وقد آن أوان الكيّ
وإعمال المبضع الجراح في أعماقنا فقد استفحلت أمورنا وتفاقمت إلى درجة أنه
لم يعد هناك من طريق آخر. إني أرى أمامنا مرحلة هائلة تنفتح: أرى بداياتها
ولا أرى نهاياتها. ولكني أشعر بأنها تفتح فمها وتدعونا للانخراط فيها.
إنها مغامرة في المجهول، مجهول الكشف، والتحدي، والغوص في أعماق الذات.
لقد عشنا طيلة القرن الماضي على فكرة الجهاد ضد الآخر، ضد الخارج. ونسينا
أن الجهاد الأكبر هو ضد الذات !

في بداية هذا الحديث قلت بأن كتاب سبينوزا عن "اللاهوت والسياسة" يمكن
أن يعتبر كبداية لقرن بأكمله. ووضعته على قدم المساواة مع حدث تاريخي ضخم
كالثورة الفرنسية. وربما استغرب بعضهم ذلك واعتبره من قبيل التضخيم
والمبالغة. ولا ريب في أني بالغت إلى حد ما. ولكن يخطئ من يظن أن الحدث
الفكري يقل أهمية عن الحدث السياسي. فلولا هذا لما كان ذاك. لولا كتاب
سبينوزا وكتب فولتير ومونتسكيو وروسو والموسوعيين وسواهم لما كانت الثورة
الفرنسية. لولا التغيير الفكري لما كان التغيير السياسي. لولا الفكر
العملاق، العبقري، المضيء، الذي يشق دياجير الظلام لما اهتدت البشرية
الأوروبية إلى طريق الخلاص ولما أمسكت بأول الخيط الذي يؤدي الى النور..
لولا الثورة الفكرية التي زلزلت اليقينيات والمعتقدات والمعصوميات
التراثية المسيحية لما كانت الثورة السياسية التي كنست كل تراكمات الماضي
وجسدت روح العصور الحديثة على ارض الواقع وفي المؤسسات. وأنا لا أزال
أنتظر ظهور حدث فكري في الساحة الإسلامية أو العربية يشبه ذلك الحدث
الصاعق الذي مثَّله ظهور كتاب ديكارت مقال في المنهج عام 1637، أو كتاب
تلميذه سبينوزا عن اللاهوت السياسي عام 1670، أو كتاب فولتير رسائل فلسفية
عام 1732، أو كتاب روسو العقد الاجتماعي عام 1762 أو كتابه الآخر إميل أو
في التربية في نفس العام، أو كتاب كانط نقد العقل الخالص عام 1781، أو
كتاب هيغل علم تجليات الفكر والروح عام 1806 الخ… أنتظر ظهور كلام آخر عن
التراث الإسلامي غير ذلك الكلام الامتثالي الشائع المجتر المكرور الذي
يهيمن علينا منذ مئات السنين في المدارس والجوامع والجامعات، والذي يسدّ
الأفق منذ مئات السنين. أنتظر ظهوره بفارغ الصبر… فقد مللنا من لغة
التكرار والاجترار المحنطة والمتكلسة. أنتظر ظهور المفكرين الأحرار
القادرين على تحليل مشكلة التراث أو تشخيص مرض التراث(9). أنتظر ظهور كتاب
في اللغة العربية –كتاب واحد- له معنى: أي يعرف كيف يطبق المناهج الحديثة
على تراثنا الإسلامي العريق. وعندئذ سأقول بأن الخطوة الأولى ابتدأت،
والظهور اقترب!.. وكالعطشان في الصحراء، صحراء الفكر، أنتظر تطبيق المناهج
اللغوية والتاريخية والسوسيولوجية على النصوص المقدسة لكي تتوضح العلاقة
بين السماء والأرض، لكي تنجلي على حقيقتها، لكي ينكشف عن الأشياء غطاؤها.

ذكريات شخصية

أو كيف يختلط الخاص بالعام؟

أخيرا لا بد من بعض الاعترافات لموضعة الكتاب ضمن سياق حياتي وهمومي
الشخصية(10). في الواقع إن فكرته تعود إلى سنوات طويلة. يمكن القول بأنها
ترافقني منذ البدايات الأولى: أي حتى قبل أن أصل إلى فرنسا في 8/10/1976.
صحيح أن الخميني لم يكن قد وصل إلى السلطة آنذاك، بل ولم أكن قد سمعت
باسمه من قبل قط . ولكن زئير الحركات الأصولية كان قد ابتدأ يُسمع من هنا
او من هناك ومن كل مكان. وكانت الأزمة قد اندلعت بين الإخوان المسلمين
والأنظمة وأصبح شبح الحرب الأهلية يخيم على البلاد. وكانت الاغتيالات باسم
الدين قد ابتدأت تحصل في مصر وسوريا والسودان وسواها من البلدان وتحصد
عشرات المثقفين والصحفيين والكوادر العلمية والجامعية وحتى الأطباء
والمهندسين.. وكالعادة راح المثقفون اليساريون او من يدعون كذلك يؤيدونها
أو يغضون الطرف عنها بحجة معارضة الأنظمة القائمة والالتصاق بالشعب! فهل
تريد ان تكون ضد الشعب؟ الشعب مع الإخوان والأصوليين وبالتالي فنحن معهم
أيضا(11)..ولتذهب إلى الجحيم كل الأفكار التقدمية واليسارية السطحية الهشة
التي سرعان ما تبخرت من أول مواجهة(12). ثم كرت الأعوام والسنوات. وفي أحد
الأيام كنت أقضي العطلة الصيفية في مدينة الصويرة المغربية المستلقية بكل
استرخاء وطمأنينة على شواطئ البحر مع أسماء وعائلتها فحصلت لي حكاية طريفة
أيقظتني من سباتي العميق. ففي كل صباح تقريبا كنت أنزل إلى "مخدع"
الانترنيت لكي أستشير رسائلي الاليكترونية وأطلع على الصحف العربية
كعادتي. وانه لشيء جميل أن تجد في شوارع المغرب تقريبا حوانيت الانترنيت
التي تدعى باسم يثير فيّ دائما روح الدعابة والابتسامة: المخدع، مخدع
الهاتف أو مخدع الانترنيت..عادة المخدع هو المكان الوثير المخصص للاختلاء
بالعشيقة وليس للاتصالات الهاتفية! ولكن لم لا؟ لقد أحببت الاستخدام
المغربي لهذه الكلمة وتعلقت به وان كان قد فاجئني للوهلة الأولى. في كل
شارع كنت أجد مخدعا وأبتسم وأضحك بيني وبين نفسي. يكفي أنها أضحكتني. شكرا
للمخادع.. ولم أعد أستغرب كيف أن الحساسية اللغوية المغربية لا تجد حرجا
في إطلاقها على أشياء أخرى مختلفة تماما عما نفعله نحن المشارقة. لم لا؟

المهم ان تبقى هذه الكلمة الجميلة حية في أقصى المغرب الجميل. وقد
حصلت صداقة بيني وبين الشاب المشرف على المخدع المذكور وجرت أحاديث فهمت
منها أنه خريج كلية الفلسفة.وكان مهذبا جدا على عادة المغاربة ومحترما.
فعمقنا الحديث أكثر. وفي أحد الأيام سألته بشكل طبيعي دون أن أدرك مدى
التهور في سؤالي بسبب إقامتي المتواصلة في أوروبا منذ أكثر من ثلاثين سنة:
من هم أهم المثقفين الذين ينتقدون الدين أو يدرسونه دراسة فلسفية نقدية في
المغرب؟ ففتح عينيه واسعا ونظر إليّ نظرة اندهاش واستنكار أخافتني تقريبا.
قال لي: ينتقدون الدين؟ كيف ينتقدون الدين؟ الدين لا يُنقد؟ القرآن والسنة
فوق النقد. أدركت خطئي وتهوّري فتراجعت فورا وقلت له: لم أقصد الهجوم على
الدين وإنما فقط دراسة التراث بشكل علمي وتاريخي وفلسفي. ثم غيرت الحديث
بعد أن عرفت أني تجاوزت الحدود وكل الخطوط الحمر. عندئذ تذكرت أني لم أعد
في فرنسا أو أوروبا وأنه ينبغي عليّ أن أراقب نفسي عندما أفتح فمي وأخوض
في مواضيع حساسة كالدين في أي بلد عربي أو إسلامي. وتذكرت طفولتي وبيئتي
الأولى التي كنت قد نسيتها من شدة البعد وطول الاغتراب. فما يمكن أن يقال
على هذه الضفة الشمالية أو الغربية من المتوسط لا يمكن أن يقال على ضفته
الجنوبية الشرقية. عندئذ عرفت معنى التواجد في أوروبا أو في فرنسا تحديدا:
أي في بلد علماني محرر كليا من رهبة الأصولية الدينية وإرهابها: بلد يسمح
لك بممارسة الحرية النقدية الكاملة على الدين المسيحي دون أن يقلقك احد
ودون أن تخشى على نفسك من أي مكروه. فهنا تستطيع أن تنتقد العقائد
المسيحية كما تشاء وتشتهي بل وان تنكر حتى وجود المسيح تاريخيا دون ان
يصيبك أي مكروه.

لكن يمكن القول أيضا بأن فكرة هذا الكتاب ترافقني أيضا منذ اندلاع
أحداث العنف الرهيبة في سوريا الثمانينات أو جزائر التسعينات الخ..وصعود
الموجة الأصولية الهادرة..لا ريب في أني أبحث عن حل للمشكلة الطائفية التي
تمنع حتى الآن تشكل الوحدة الوطنية بل وتهدد الجميع بحرب أهلية لا تبقي
ولا تذر.. وهي مشكلة موجودة لدى كل الطوائف أقلية كانت أم أكثرية. ولا
يمكن أن يحصل الاستقرار، وبالتالي النهوض والعمران، إلا بعد إيجاد حل
معقول لها. إنها بدون شك أكبر مشكلة مطروحة علينا في السنوات القادمة(13).

ولكن يمكن القول بان فكرة هذا الكتاب ترافقني منذ الطفولة الأولى بشكل
من الأشكال إذا ما أردت أن أعود إلى أعمق نقطة في حياتي. فمسألة الدين
مسألة شخصية بالنسبة لي قبل أن تتحول إلى مسألة عامة ويختلط فيها الخاص
بالعام، الحابل بالنابل، حتى لا تعود تعرف كيف تفرق هذا عن ذاك.

لا ريب في أن بحوثي عن الدين وكذلك ترجماتي لصاحب "نقد العقل
الإسلامي" وكتاباتي عن التنوير الأوروبي ما هي إلا عبارة عن تحليل نفسي
للطفولة الأولى(14). فبما أني تربيت تربية دينية قرآنية صارمة، بل وحتى
تربية متزمتة شبه إرهابية، فاني أشعر بالحاجة إلى التحرر منها بأي شكل.
وهذا التحرر لا يمكن أن يتحقق إلا بعد أن أخوض المعركة مع نفسي وأعماق
أعماقي الثقافية والسيكولوجية. اللاهوت الديني يسحرني بقدر ما يرعبني. كل
أعماقي دينية لاهوتية لان طفولتي كلها كانت مغموسة بالدين وطمأنينته
وجلالته وقدسيته. ولكن بعد أن كبرت عرفت أن الدين أديان أو مذاهب وطوائف
وانه بقدر ما يزرع الثقة والطمأنينة والأخلاق الحميدة في النفوس يمكن أن
يزرع بذور العنف والشقاق وكره الآخر والحروب المذهبية. بمعنى آخر فانه
سلاح ذو حدين. ولذلك وجب علي ان أحيّد الشحنات اللاهوتية الكامنة في
أعماقي والتربية القروسطية والفهم المرعب للدين. هنا تكمن إحدى مشاكلي
الأساسية. من هنا تركيزي على مفكري عصر النهضة والتنوير الأوروبي الذين
أتعلق بهم وبأفكارهم وطروحاتهم كخشبة خلاص تنقذني من الظلام اللاهوتي
المرعب الذي يلف طفولتي ويلف العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه أيضا في
هذه اللحظة. فعند هؤلاء المفكرين النهضويين أو التنويريين أجد ضالتي: أجد
نفسي، بهجتي، أفقي المنفتح. بهم أستعين لكي أزيح الكابوس الأخطبوطي المرعب
عن حياتي ووجودي(15)..

قد يقول قائل مستغربا: انك تتحدث عن القمع الديني وكأنك ولدت في بيئة
حنبلية وهابية، هذا في حين انك ولدت في بيئة علوية شيعية لا تتقيد بالطقوس
والشعائر كثيرا؟ وللإجابة على هذا الاعتراض المشروع أقول: لا أعتقد أن
هناك فرقا كبيرا بين المذاهب، ولا حتى بين الأديان، على الصعيد الذي
أقصده. فالمنظور القروسطي الظلامي للدين يهيمن على كل فرق السنة والشيعة
دون استثناء. التخويف من النار وعذاب القبر ومنكر ونكير وكره الحياة
الدنيا والشعور بالإثم والخطيئة والذنب وكل الرعب الذي يلف الدين موجود
لدى كل الطوائف والمذاهب(16). نحن جميعا غاطسون في غياهب العصور
الوسطى(17). يكفي أن تذهب إلى مجتمعات الغرب وتعيش فيها لفترة طويلة نسبيا
لكي تدرك الفرق بيننا وبينهم ولكي تحسدهم على أنهم تحرروا من كل ذلك
المناخ السوداوي القاتم. بمعنى آخر فان الفهم القروسطي القمعي للدين هو
السائد عندنا وليس الفهم الحديث الذي نراه لدى المسيحيين الليبراليين في
أوروبا مثلا. لهذا السبب ينبغي التفريق بين أوروبا التي عاشت معركة
التنوير وعانتها ونجحت في عبورها، وبين العالم العربي أو الإسلامي الذي لم
يدخلها او لم يخضها بعد ولكنه أصبح على أبوابها أو هذا ما نأمله. هذه
مسألة ابيستمولوجية، أي معرفية عميقة، شديدة الأهمية. ولهذا السبب توقفت
طويلا في الماضي عند مفهوم القطيعة الابيستمولوجية بل وكرست لها كتابا
كاملا(18). هناك قطيعة كبرى بين العصور الوسطى، والعصور الحديثة. والفكر
العربي لم يعبرها أو لم يقطعها بعد على عكس الفكر الأوروبي. ربما كنا قد
أصبحنا الآن على مشارفها: أي على مشارف الدخول فيها دون أن نتجرأ على
اقتحامها. لن يعرف معنى الحرية، حرية الروح في أعماق أعماقها، إلا من أتيح
له أن يعيش في بلد علماني محرر كليا من لا هوت القرون الوسطى وفقهها
وأحكامها المسبقة من طائفية ومذهبية. ولكن المشكلة هو ان عبورها سوف
يكلفنا تضحيات جسام: كل المفهوم القروسطي للدين سوف ينهار. كل التراث
الموروث عن القرون الوسطى سوف نجد أنفسنا مضطرين لتفكيكه حجرة، حجرة،
وقطعة، قطعة، ثم الإطاحة به. عشرات أو مئات الأفكار الراسخة واليقينيات
المعصومة سوف تنهار كقصر من كرتون. وبانهيارها سوف تنهار حياتنا نفسها: أي
كل ما تربينا عليه منذ طفولتنا ونعومة أظفارنا. حقا لقد حان زمن التفكيك
والتكنيس والتعزيل الكبير..ولكن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر.
وبالتالي فليس من السهل أن نقتلع كل هذه الأفكار الخاطئة واليقينيات
الجبارة من عقولنا(19).

ثم أصبحت مشكلة الإسلام الشغل الشاغل للعالم بعد 11 سبتمبر كما هو
معلوم. وعندئذ شعرت بان المشكلة الشخصية كبرت وتضخمت حتى لأصبحت بحجم
العالم. لقد تجاوزت نطاق العالم العربي بل وحتى الإسلامي لكي تصل إلى تخوم
العالم كله. أو قل إن الإسلام تحول إلى مشكلة عالمية بعد ذلك التاريخ بعد
أن كان مشكلة محلية. وأعترف بان ذلك قد سرني كل السرور وحررني داخليا من
همي ووسواسي. وقد تستغربون قائلين: هذا الشخص لا يتحرر إلا عن طريق
الكوارث والنكبات! هل ينبغي أن يحصل زلزال أو إعصار لكي تنحل مشكلته؟
والواقع أن فلسفة التاريخ التي أتبناها تقول بان هناك مشاكل ضخمة نائمة لا
يمكن أن تستيقظ إلا على هيئة التفجيرات الكبرى. بمعنى آخر: لا يمكن ان
ندرك خطورتها إلا بعد أن تنفجر في وجوهنا أو أمام أعيننا كالقنبلة
الموقوتة. أنا شخصيا كنت أدرك أن المشكلة الأصولية من الخطورة بمكان ولن
تنحل بدون فرقعة كبرى. وهكذا جاءت ضربة 11 سبتمبر لكي تؤكد على حدسي
الأساسي الذي كنت أحمله معي من سوريا حتى قبل الوصول إلى فرنسا. ولهذا
السبب فلم أفعل شيئا آخر تقريبا إلا الدوران حول هذه المشكلة لمعرفة سرها
وجوهرها المكنون. كل ترجماتي وكتاباتي تشهد على ذلك. كنت أبحث عن الحلقة
المفقودة الضائعة. أقصد بذلك أني كنت أبحث عن كيفية تقاطع الخاص بالعام،
أو المشكلة الشخصية بالمشكلة العربية فالعالمية. وعندما تجد نقطة التقاطع
هذه فانك تشعر بالارتياح لان مشكلتك لم تعد شخصية وإنما أصبحت شاملة بحجم
العالم. تشعر بان مشكلتك حقيقية وليست وهمية وان العالم كله أصبح معنيا
بحلها وليس أنت فقط. وهكذا ينزاح عن كاهلك عبء ثقيل وكابوس تاريخي
طويل(20). ليتحمل العالم مسؤوليته أيضا فأنا عاجز عن حل هذه المشكلة
لوحدي. وبعد اليوم لم أعد وحدي. عندئذ تشعر بان مشكلتك لها ما يبررها
تاريخيا وموضوعيا على أرض الواقع، بل إنها مشكلة العصر كله ولم تعد مشكلة
شخصية. عندئذ تشعر بأن حدسك الأولي لم يكن خاطئا عندما اعتقدت بان مشكلة
الدين بالنسبة للعالم العربي هي المشكلة الأولى رقم واحد ولا شيء غيرها.
هذا لا يعني بالطبع أن الحركات الأصولية لم تكن تشغل بال النخب العربية
سابقا أو أنّي كنت أول من أنتبه إليها! هذا هراء وسخف بالطبع. فأنا تلميذ
صغير لمن سبقوني من كبار النهضويين والمثقفين العرب الرائدين. ولكني أعتقد
أن إحساسي بها بسبب تربيتي الأولى وظروف أخرى أيضا كان حادا إلى درجة
هائلة بل واستثنائية. هل أبالغ إذا قلت بأنها كانت تلاحقني ليلا نهارا
فقط؟ الوعاء ينضح بما فيه. وأنا كنت مفعما بالتربية القديمة والتصورات
التراثية. وكنت أبحث عن شيء واحد فقط حتى قبل وصولي إلى فرنسا: كيف يمكن
أن أتحرر منها، أن أنزلها عن ظهري، أن أتنفس الصعداء ولو قليلا(21). وكنت
أستغرب كيف لا ينشغل بها الجميع ويدركون تفاعلاتها المتلاحقة وما تنطوي
عليه من أخطار تفجيرية. بل وكنت أقول بيني وبين نفسي: كل مثقف عربي غير
مهووس بمشكلة الأصولية أو بمشكلة الدين ليس مثقفا(22). إنها المشكلة رقم
واحد لعصرنا بل وحتى للعصور والأجيال المقبلة. كنت أشعر ولا أزال بأنها
صاعدة من أعماق أعماق التاريخ العربي ولم تقل كلمتها الأخيرة بعد. لا ريب
في أن النخب العربية بل وحتى الغربية من قادة ثقافيين وسياسيين كانت تشعر
بها وتحسب لها الحساب. فالواقع أن انفجارها العنيف في الجزائر ومصر وسوريا
والسودان وتونس وإيران والباكستان وكل أنحاء العالم العربي الإسلامي كان
مقلقا ومنذرا بالأعاصير والزلازل. ولكنها لم تكن هاجسا قويا يحتل مرتبة
الأولوية القصوى بالنسبة لهذه النخب أو بالنسبة للقوى العظمى مثلما حصل
بعد تلك الضربة الشهيرة صبيحة 11 سبتمبر والتي تشبه يوم القيامة في رأيي
إذا كنا نعرف كيف ما هو يوم القيامة بطبيعة الحال..ولكن البعض وأنا منهم
رأى في ذلك الحدث العلامة التي لا تخطئ على أن حركة التاريخ ابتدأت تتحلحل
في الاتجاه الصحيح وأن الأمور بعده لن تعود كما كانت قبله. بمعنى آخر فان
هذا الحدث كان مليئا بالدلالة والمغزى على التوجه الذي سوف ينتهجه التاريخ
العربي الإسلامي في العقود المقبلة من السنين. ولهذا السبب رأى الكثيرون
أن ضربة 11 سبتمبر سرّعت من حركة التاريخ العربي أو الإسلامي إلى أقصى حد
ممكن بل وكانت ضرورية لكي يستشعر العالم مدى خطورة الأصولية الإسلامية على
الشعوب الإسلامية أولا ثم على العالم كله ثانيا. هل كان إحساسي الحاد
بمشكلة الأصولية منذ السبعينات يصل إلى حد الاستباق الغامض على كل هذه
التفاعلات المتلاحقة التي توجت ب 11 سبتمبر؟ أخشى أن أجيب بالإيجاب لكيلا
أتهم بالادعاء والغرور وانعدام أي حس للتواضع لدي..لنقل إني كنت أشعر بان
القصة لا تزال في بداياتها وان مشكلة الأصولية سوف تستفحل وتستفحل حتى تصل
إلى الذروة، إلى نهاياتها. أقصد بأنها لن تتوقف قبل أن تقذف بكل الحمم
والتراكمات المخزونة في أحشاء أحشائها..وهو ما لا يزال حاصلا حتى هذه
اللحظة.

قبل أن أواصل حديثي حول هذه النقطة أحب أن أقدم لمحة فلسفية عامة عن
الهوة السحيقة التي تفصل بين الفكر العربي والفكر الأوروبي فيما يخص مسألة
الدين والحرية الفكرية. فاندهاش ذلك الشاب المغربي اللطيف والمهذب من
سؤالي أو استهجانه له لا يمكن فهم كل مدلولاته وملابساته العميقة إلا إذا
موضعنا الأمور ضمن منظور تاريخي مقارن وواسع. السؤال المطروح هنا هو
التالي: لماذا يحق لك أن تنقد الدين المسيحي في أوروبا وتصول وتجول في كل
القضايا الدينية دون أن يزعجك أحد(23)؟ ولماذا لا تستطيع أن تفعل نفس
الشيء في أي بلد عربي أو إسلامي؟ لماذا لا يستطيع أي مثقف حديث أن يواجه
أي رجل دين على شاشات التلفزيون؟ لماذا تستحيل المناقشات الحرة حول الدين
أو العقائد الدينية في أي مكان عندنا وعلى أي مستوى كان؟ لماذا لا يوجد
إلا ذلك الخطاب السلفي التقليدي المهيمن الجبار عن الدين من أقصى العالم
الإسلامي الى أقصاه؟ لان المحطات الكبرى التي قطعها الفكر الأوروبي منذ
عصر النهضة وحتى اليوم لم تخطر حتى هذه اللحظة على بال الفكر العربي.
لأننا لم نهضم بعد نفس التجارب الفكرية والسياسية التي شهدوها. لأننا لم
نشهد بعد معركة الذات مع ذاتها، أو اشتغال الذات على ذاتها، كما حصل في
فرنسا مثلا أو كل أوروبا. من هنا فرادة التجربة الأوروبية وأكاد أقول
"معجزة" هذه التجربة واستثنائيتها بالقياس إلى كل النطاقات التراثية أو
الثقافية الأخرى.. إنها تعني بكل بساطة شيئا واحدا: الانتصار على الذات!
لكي أعطي فكرة دقيقة عن الموضوع سوف أستعين بمفكر فرنسي معاصر هو لوك فيري
كان قد درس بشكل ممتاز كل الفتوحات التي حققها الفكر في أوروبا على مدار
الأربعمائة سنة الماضية بل وحتى على مسافة ألفين وخمسمائة سنة وحتى اليوم:
أي منذ اليونان وحتى يومنا هذا. وميز عندئذ بين عدة محطات أساسية: أولا
المحطة اليونانية الفلسفية الوثنية المستمرة منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو
وحتى انتصار المسيحية. ثم المحطة المسيحية القروسطية المستمرة مدة ألف سنة
منذ القرن الخامس الميلادي وحتى الخامس عشر. وبعدئذ ابتدأت المحطة الكبرى
للعصور الحديثة والخروج من التدريجي من المسيحية بدءا من عصر النهضة وحتى
نهايات عصر التنوير والثورة الفرنسية. وفي أثناء هذه العصور الحديثة حلت
الأنظمة الفلسفية الكبرى لديكارت وسبينوزا وكانط وهيغل واوغست كونت وسواهم
محل اللاهوت المسيحي الذي تم تفكيكه من قبل فلاسفة التنوير بالذات. ولكن
بدءا من نيتشه دخلنا في مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد الحداثة: أي المرحلة
التي شهدنا أثناءها تفكيك هذه الأنظمة الفلسفية الشمولية الكبرى بالذات.

وهكذا عاش الغرب تفكيكين كبيرين لا تفكيكا واحدا: الأول ضد المسيحية
والثاني ضد الفلسفة الكلاسيكية. واستمرت عملية التفكيك هذه على يد هيدغر
وتلامذته الفرنسيين من أمثال فوكو ودريدا وجيل ديلوز الخ..هكذا نلاحظ ان
الفكر الأوروبي شهد عملية التفكيك الكبير، أي التحرير الكبير مرتين: في
المرة الأولى حصل تفكيك للعقائد اللاهوتية المسيحية، وفي المرة الثانية
حصل تفكيك للأنظمة الفلسفية الكبرى التي حلت محلها. هذا في حين ان الفكر
العربي الإسلامي لم يشهد بعد تفكيكه الأول: أقصد لم يتجرأ بعد على تفكيك
اللاهوت والمعتقدات الإسلامية المتراكمة منذ أربعة عشرة قرنا على الأقلّ.
إذا لم نموضع الأمور ضمن هذا المنظور الطويل العريض فإننا لن نفهم سبب
الصدام المروع الحاصل حاليا بين العالم الإسلامي والغرب. بل ولن نفهم
موقعنا على خارطة العالم ونوعية المشاكل التي نعاني منها. وبالتالي فسوف
نفشل في التشخيص والعلاج في آن معا. ينبغي إذن أن نأخذ تلك الفجوة العميقة
بيننا وبينهم بعين الاعتبار. لإيضاح كل هذه الإشكاليات سوف أبتدئ بتقديم
فكرة عن التفكيك الذي شهده الفكر الأوروبي عدة مرات على مدار القرون
الثلاثة الماضية، وذلك قبل أن أنتقل إلى التفكيك الأول الذي سوف يشهده
الفكر العربي الإسلامي عما قريب. بل وابتدأ يشهده منذ فترة على يد مفكرين
طليعيين عرب وأجانب.

لكن ومنعا لكل التباس لابد من كلمة أخيرة قبل الشروع في ذلك. غني عن
القول بان اللاهوت المقصود بالتفكيك هنا هو لاهوت القرون الوسطى وليس
اللاهوت في المطلق. فمن الواضح انه ليست لدي أي مشكلة مع لاهوت التحرير
الذي ظهر في أميركا اللاتينية ولا بالطبع مع لاهوت الحداثة أو ما بعد
الحداثة المنتشر الآن في أوروبا. اللاهوت المستهدف بالتفكيك والنقد هو
اللاهوت الطائفي الموروث عن عصور الانحطاط والذي يقدم نفسه كحقيقة مطلقة
لا تناقش ولا ترد. هذا اللاهوت، أو قل هذا التفسير المتكلس والمتحنط
للدين، هو الذي يهيمن على مدارسنا وحياتنا وجامعاتنا. وقد آن الأوان
للتصدي له. لكن ما هو اللاهوت يا ترى؟ هل هو شيء مادي محسوس؟ لا. انه قوة
"لامادية" ولكنه قد يتحول أحيانا إلى قوة مادية مرعبة، جبارة. انظر كيف
هيج الخميني الشارع بالملايين عن طريق هذا اللاهوت بالذات بكل مصطلحاته
وشعاراته التراثية المعروفة. اللاهوت هو المقدس الأعلى، والمقدس قوة تخترق
التاريخ وتؤثر عليه إيجابا أو سلبا. اللاهوت هو علم الله أو علم الدين.
وهو علم متطور وليس جامدا ولا ثابتا على عكس ما نظن. وقد مر بعدة مراحل
كما سنرى من خلال استعراض نظريات عالم اللاهوت المسيحي: هانز كونغ.
وبالتالي فليكفوا عن اتهامي باني ضد الدين أو أريد تدمير الدين! لا، أنا
لا أريد تدمير الدين في المطلق لاني أحترم العاطفة الدينية وأعرف معناها
وسموها وتعاليها وأنحني أمامها. ولكني بدون شك أريد تدمير اللاهوت الطائفي
الذي سبب المجازر المرعبة سواء في تاريخ المسيحية أو في تاريخ الإسلام.
بمعنى آخر: فان لاهوت "القاعدة" وما أشبهها أصبح مستهدفا، وعلى أنقاضه سوف
ينهض لاهوت إسلامي تحريري جديد.

متكاملة عن المعرفة، والأخلاق، والدين، والسياسة، واللغة، والقانون،
الخ… كان كل فيلسوف يشكل رؤيا متكاملة عن العالم، رؤيا تنافس تلك الرؤيا
التي قدمها الدين المسيحي وعاشت عليها أوروبا طيلة خمسة عشر قرنا على
الأقلّ . وهكذا تحولت الفلسفة إلى نوع من دين جديد بعد أن كانت خادمة
مطيعة للدين أو لعلم اللاهوت المسيحي طيلة العصور الوسطى(24). لقد تحولت
إلى دين قائم على العقل والبرهان فقط لا على الغيبيات وعقائد التسليم
اللاهوتية. وكان الفيلسوف يعتبر نفسه مسؤولاً عن هداية معاصريه على كلا
المستويين النظري والعملي. هذا ما كان يشعر به ديكارت أو لابنتز أو
سبينوزا أو كانط أو هيغل الخ. وقد حصل عندئذ انقلاب معرفي هائل زعزع
اليقينيات المسيحية وأذهل المعاصرين. وهذا الانقلاب يمتد من عام 1534
تاريخ ظهور كتاب كوبرنيكوس: ثورات المدارات السماوية، وحتى كتاب نيوتن:
المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية عام 1687، مرورا بكتاب ديكارت: مبادئ
الفلسفة عام 1644 ثم أطروحات.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

الإسلام والانغلاق اللاهوتي :: تعاليق

avatar
رد: الإسلام والانغلاق اللاهوتي
مُساهمة السبت يناير 05, 2013 1:43 pm من طرف بن عبد الله
.
avatar
رد: الإسلام والانغلاق اللاهوتي
مُساهمة الخميس يوليو 11, 2013 8:32 pm من طرف بن عبد الله
.
 

الإسلام والانغلاق اللاهوتي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الإسلام والديمقراطية
» نحو اضمحلال الإنسان اللاهوتي…
» جدليات السياسة وحضور اللاهوتي: بعد الحادي عشر من سبتمبر
» الإسلام أمة
» هل الإسلام دين أم فيل أبيض؟

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: