"لا يمكن لمجتمع أن يعيش بدون دين"، مقولة يجترّها مخادعون حتى في أكثر
البلدان علمانية وتحرّرا، أمّا السواد الأعظم من الناس الأوروبيين فقد
باتوا يعيشون من غير حاجة إلى الله وملائكته والمرسلين والتابعين. وفي
محاولة تبشيريّة بائسة لردّ الاعتبار للكنيسة في أوروبا، نصّب
البابا بنيديكت السادس عشر هذه الأيام مجلسا بابويا بغية إعادة تنصير الناس
من جديد ومن أجل مناهضة العلمنة صراحة!
أمّا في البلدان العربية فقد تسلّح الجهل بالسلطة على حدّ تعبير فولتير،
فلا شغل للدولة وشيوخها سوى العمل على تحويل المواطنين إلى مؤمنين، إلى
كائنات لاهوتية، عن طريق التهديد بالآخرة والشرطة معا.. فلا حديث إلا عن
الله ومشيئته والاتّكال عليه في كلّ كبيرة وصغيرة. من نصر منه في مقابلة
كرة إلى الانتصار في الحرب الجهادية على أعداء الأمّة الكافرين. فكلّ
الأمور بيد الله وما الإنسان سوى قشّة بين يديه.
لكن إذا كان الأمر هكذا فعلا، فلا أحد تساءل يوما عن غاية الله تعالى في
هدم المساجد على رؤوس عشرات المصلين والراكعين، بل وإهلاكه لآلاف الحجّاج
الذين يأتونه زائرين خاضعين في مكّة ذاتها بسيول الأمطار وهول الأوحال!
سيقول البعض : ذلك ابتلاء منه سبحانه وتعالى. ولكن هل يمكن أن نتحدّث عن
ابتلاء حينما يتعلّق الأمر بأطفال يصابون بأخبث الأمراض وشيوخ ونساء
يبتلعهم لهيب النيران أو أمواج البحار أو طين الوديان؟ يقول شوبنهاور وهو
أحيانا أصدق القائلين : " إن كان الله موجودا، فأنا لا أرغب أن أكون مكان
هذا الإله، فبؤس العالم قد يمزّق أحشاء قلبي".
فلماذا لا تعتني العناية الإلهية بأضعف مخلوقاتها؟ وهل الربّ كائن ساديّ
يتلذّذ بتعذيب خلقه أم هو غير موجود أصلا وينسب إليه ما نعجز عن إدراكه
وتقبّله، بل وما نرتكبه من حماقات؟ فهل اخترع الإنسان كلمة 'الله' وصار
عبدا لها؟ وهل حان الوقت ليترك البشر الأساطير المُسكِّنة الواعدة بحياة
بعد الموت والاكتفاء بالإقامة الأرضية وما يترتب جراء ذلك الاقتناع من
أخلاق ومسؤوليات؟
مع الأنوار بدأ بعض المفكرين في مناقشة نفعية فكرة الله بشكل جدّي، وقد
بدا أنّ كلّ ربّ فقد نفعيته وركن إلى السكون والتعالي سرعان ما يفقد هيبته
ومصداقيته، ومن ثمّ يجد نفسه في متحف من المتاحف لاجئا مثبتا في الماضي
كقطعة أثرية من آثار الماضي غير المجدية، لا تستهوي سوى طلاب تاريخ الفنون
والأنتروبولوجيا.
فهل ذاك هو مصير ربّ ما يسمّى ''ديانات التوحيد"؟ أم أنّ المؤمنين ما
زالوا يعثرون على مصلحة في ذكورية هذا الله، وعقابه العنيف ورحمته الواسعة،
وتسخير المرأة لخدمتهم، وتعسّف قدره المسلّط على عباده الطالحين
والصالحين…؟
ولكن من يؤسّس لتأبيد فكرة 'ضرورة الله' رغم تهافتها الفلسفيّ المتوالي؟
أليس من يتوسّطون بين الله والمدفوعين إلى الإيمان به بشتّى الطرق؟ أليس
هؤلاء المعتاشون من تجارة الوهم، من أئمة وحاخامات وقساوسة ودالايلامات
والكثير من المتسلّطين باسم فكرة الله؟ وكلّ الذين لا يعتبرون أنفسهم من
سلالة الأنبياء فحسب بل والذين يتّخذون من ذلك أساسا لإصباغ شرعية على
حكمهم الثيوقراطي المستبدّ؟
لم يتوان حتى من وجدوا أنفسهم على رأس دول مدنية في استغلال فكرة الله
لخداع المواطنين المؤمنين، إذ يجب أن يجدوا للشعب دينا ليكون صمّام أمان،
كما يقول ساخرا ومتحسّرا الثائر باكونين في كتابه 'الله والدولة')(1882).
وهو ما كان قد تنبّه إليه البارون هولباخ في كتابه 'المسيحية عاريةً' حيث
كتب عام 1761: "مهما كان حجم الظلم والجور وجشع الحكام ونفاقهم أو تديّنهم،
عمل القساوسة دائما على تهدئة رعاياهم. فلا ينبغي ن نتعجّب إذن من رؤية
كثير من الأمراء الفاشلين أو الشرّيرين ينحازون بدورهم إلى دين ومصالحه
لأنّ سياستهم الباطلة في حاجة إلى ذلك." وكان نابليون ينظر إلى الكنيسة على
أنها مكمّلة للدولة في الحفاظ على النظام العامّ. وربما هو ما يقصده
بنيديكت السادس عشر حينما قال في سنة 2005 بمناسبة الأيام العالمية للشبيبة
الكاثوليكية بكلولونيا : "من الله وحده، تنبعث الثورة الحقيقية".
لا معبد يرى النور إذا لم يجد النظام السياسي في ذلك مصلحة، ومهما كان
ادّعاء المؤمنين للروحانية تبقى وظيفة الدين الأساسية في النهاية هي ترويض
الناس على الطاعة وإقناعهم بعدم جدوى محاولة تغيير ما أراده الله، وتلقينهم
أنّ التحرّر الإراديّ مجرّد سراب. وإغراقهم في الصلاة والتضرّع والانتظار
السلبي العاجز لذلك اليوم الذي ينتقلون فيه إلى العالم السحري الآخر، جنّة
الخلد والنعيم…وهكذا يضمن الحكّام خضوع الأفراد وهم فرحون بما سيأتي،
فالدنيا متاع الغرور كما يقول القرضاوي نقلا عن كلمة 'الله'. أليس من العقل
أن نغرس في عقول أطفالنا أنّ 'هناك حياة قبل الموت!' كما كتبت يد ثائرة
ذات يوم من أيام مايو 68على أحد جدران جامعة السربون؟
لقد تمكّن النظام اللائكيّ من طرد رجال الدين من دوائر الحكم منذ أكثر من
قرنين، وآن الأوان ليلعب التفكير العقلانيّ التحرّريّ دور المندّد بكلّ
عودة إلى المقدّس كمرجع حينما يكون الأمر متعلقا بالمجال العامّ.
إصلاح، تأويل، ترهين، تحيين، إعادة قراءة.. كلّ الترسانة النيو-أصولية ما هي إلا نفخ في قربة مثقوبة، فالحداثة بيّنة والإسلام بيّن.