التفكيك.. هل هو مدرسة نقدية؟مجدي ممدوح برغم تصريحات عرّاب التفكيك جاك دريدا
المتكررة أن التفكيك ليس ، بالضرورة ، مذهباً في النقد الأدبي بل هو مذهب
فلسفي ، وأنه ليس متأكداً من صلاحية التفكيك بوصفه ممارسة نقدية في الأدب ،
إلا أن التفكيك منذ انطلاقته الأولى تبلور بوصفه استراتيجية جديدة في
مقاربة النصوص الأدبية ، وهنا لا بد من التركيز على مصطلح "الاستراتيجية"
المقترنة بالتفكيك لأن دريدا وأقطاب التفكيك جميعاً يرفضون نعت التفكيك
بالمذهب أو المدرسة: لأنهم ـ ببساطة ـ يرفضون كل المذاهب والمدارس ويميلون
إلى تحطيم كل القواعد والأسس التي اعتادها النقاد في مقارباتهم النصوص
الإبداعية.
ويجب أن ننتبه إلى أن التفكيك لا يقدم
بديلاً لكل المذاهب التي سعى إلى تدميرها. وبرغم أن مصطلح "الاستراتيجية"
مصطلح عائم بعض الشيء إلا أنه يوحي ، بكل الأحوال ، بأن الممارسة التفكيكية
تمتاز بالمرونة، وأن كل نص إبداعي هو الذي يفرز بالضرورة الشروط والأسس
التي يقوم عليها النص النقدي المقابل،
بالإضافة إلى ذلك ظهر إلى الوجود جنس أدبي نقدي جديد هو "الميتانقد" وهو
عبارة عن مقاربة أو نقد للنص النقدي ، ويستعمل لغة نقدية جديدة (ميتالغة) ،
ومن المرجح أن كاتب نص 'الميتانقد' لم يقرأ النص الإبداعي الأصلي ، ما
يؤدي بالضرورة إلى ازدياد الفجوة التي تفصل النص الإبداعي عن النص النقدي ،
أو الميتانقدي بشكل أكبر ، والحقيقة أنني لم أطلع علي أي نماذج عربية لما
يدعى بنقد النقد (الميتانقد) حتى تلك النماذج التي وصفها أصحابها
بالميتانقد فهي أبعد ما تكون عن ذلك من حيث اللغة ومن حيث التقنيات المتبعة
، والحقيقة أن النص النقدي التفكيكي لم يظهر بشكل واضح ، لغاية الآن ، في
ثقافتنا العربية ، فالنقد ما زال في أدبنا العربي ينحو منحى الدراسة ولم
يستطع أن يطرح نفسه نصاً مستقلاً له كينونته.
لقد تجاوز النقد التفكيكي الدراسة النقدية
التقليدية وطرح ما يسمى بالنص النقدي الذي أصبح له كينونته المستقلة عن
النص الإبداعي ، في بعض الأحيان ربما يلجأ الناقد التفكيكي إلى تأسيس نص
شعري ، مثلاً ، لمقاربة نص شعري آخر من دون أن يشير ، لا من قريب ولا من
بعيد ، إلى النص الشعري الأصلي ، ولكن بعد قراءة النص النقدي الشعري سيتضح
أنه كان سانداً ومفسراً للنص ، ومساعداً على إنارته. ولقد قمت شخصياً
بتجربة من هذا القبيل ، ففي معرض قراءتي لقصيدة "أوراد الدمعة" للشاعرة
الجزائرية رشيدة محمدي كنت مضطراً لإنشاء نص شعري آخر بعنوان "أوراد الآهة"
حيث إن الآهة هنا كانت مكمّله للدمعة واستطاعت أن تقول كل ما لم تستطع
الدمعة أن تقوله ، واستطاعت أن تعطي الدمعة بعداً أنطولوجيا كانت تفتقده
عندما بقيت معلقة في عالم الإمكان ، ونلاحظ أن التفكيكيين استبدلوا مفهوم
الدراسة النقدية بمفهوم جديد هو مفهوم النص النقدي ، ما يعني بالضرورة أن
النص النقدي يمتلك كل مقومات النص ويطرح نفسه نصاً يقف على قدم المساواة مع
النص الإبداعي ، ولم يعد دراسة ملحقة أو تابعة للنص الأصلي ، بل إنه يمتلك
مقومات الحياة بوصفه نصاً له استقلاله وعدم اعتماده على النص الإبداعي ،
فالنص النقدي يمكن للمتلقي أن يقرأه من دون الحاجة إلى الإحالة المستمرة
على النص الإبداعي ، كما يحصل في الدراسات النقدية الكلاسيكية ، وهذا
بالطبع ربما يثير القلق لدى مبدع النص الذي يتخوف دائماً من توجه النص
النقدي إلى تجاوز نصه والعبث به في ظل غياب القواعد والأسس الواضحة في
الممارسة التفكيكية ، والواقع أن هذا صحيح إلى حد ما ، فالممارسة التفكيكية
قد ذهبت بعيداً في تجاوز النصوص الإبداعية حتى أصبح من العسير على المبدع
أن يتعرف على نصه الإبداعي داخل النص النقدي ، وكأن النص النقدي يتكلم عن
نص آخر لا علاقة له بنصه. والواقع أن هذا نابع ، بالدرجة الأولى ، من
فعالية التقنيات الجديدة التي وضعها التفكيك تحت تصرف الناقد بحيث أصبح
بمقدور الناقد ، وبجرعة عالية من التفكيك ، أن يدمر بوصلة النصوص الإبداعية
، ومن هنا لا بد من التأكيد أن النقد التفكيكي هو مسؤولية وربما مسؤولية
أخلاقية تجاه الإبداع ، ففي ظل غياب القواعد النقدية الصارمة واستبدالها
"باللعب الحر" لم يبق هناك سوى المسؤولية الأخلاقية تجاه النصوص الإبداعية.
إن المداترس النقدية كافة ، التي تتبنى التفكيك ، دعت إلى تقييد حرية
الناقد وعدم إعطائه الحرية المطلقة ، حيث إنه ما يزال هناك بعض القواعد
التي يجب الالتزام بها أثناء تمثل النص الإبداعي ، فالتفكيك يعطي حرية
باعتدال ، ونلاحظ ، أيضاً ، هذا التوجه لدى قطب مهم هو أمبرتو إيكو الذي
يميل إلى التأويل المعتدل في مقاربة النصوص. ولكن هذه القواعد ـ كما أسلفتُ
ـ لم تكن ملزمة أو صارمة في ظل وجود تقنيات التفكيك المدمرة المتحررة من
كل القيود ، والتوجه نحو "اللعب الحر" على اعتباره بديلاً عن المذاهب ،
والواقع أنه قد أسيء استخدام التفكيك "واللعب الحر" للعبث بالنصوص
الإبداعية وتقويلها ما لم تقله ، وقد لجأ كثير من النقاد إلى تعذيب النصوص
وجعلها تنطق بما ليس فيها ، وأنا ـ شخصياً ـ أمارس التفكيك في مقاربة
النصوص ، ولكن بمسؤولية واعتدال ، ففي الوقت الذي أقوم فيه بملء الفراغات
والصوامت والفجوات الموجودة في النص ، ومساعدة المبدع على قول الأشياء التي
لم يستطع قولها ، فإنني ـ بالمقابل ـ أضع بوصلة تقود عملية النقد دائماً
ولا أخفي سراً أن هذه البوصلة هي في الأغلب ''العنصر المهيمن'' الذي لا زلت
أعتبره مهماً وأساسيا في أي نص نقدي ، سواء كان كلاسيكيا أم حداثياً أم
تفكيكياً ، وهو الكفيل بالحفاظ على روح النص الإبداعي أثناء عملية التمثل.
بالطبع أنا مقتنع تماماً بتعدد القراءات ، بل بلانهائية القراءات ، بشرط أن
يكون مرجعها جميعاً النص الإبداعي نفسه ، أما أن يتحرر الناقد من سلطة
النص الأصلي بالكامل فهذا يقود إلى الشطط وتدمير النصوص. لقد قمت بقراءة
الكثير من النصوص الإبداعية قراءات متعددة ، وكانت كل قراءة من هذه
القراءات تضيء جانباً معيناً من جوانب النص ، وتقوم بإنطاق الصوامت والبوح
باللامفكر فيه والمسكوت عنه ، ولكن ذلك كله كان على اعتبار النص مرجعاً
نهائياً في أي مقاربة ، فلا يعقل ، مثلا ، الحديث عن واقعية نص تجريدي أو
تجريد نص واقعي ، علينا ـ دائماً ـ اللعب في ساحة النص وليس في ساحة أخرى ،
هكذا يصبح التفكيك أداة فعالة في إنارة النصوص ، وفي إغناء النصوص.
ومن الملاحظ أن النقد التفكيكي استطاع أن
ينتج عدداً لانهائياً من الدلالات للنص الإبداعي ، وهنا تكمن أهمية التفكيك
بوصفه ممارسة نقدية: لأن شبح انهيار المشروع النقدي البنيوي لا زال ماثلاً
أمامنا ، فبرغم أن البنيوية حققت نجاحاً على صعيد التحليل اللغوي للنص
الأدبي ، واستطاعت تحليل النص إلى البنى اللغوية التي يتكون منها ، ابتداء
بالأكبر ثم الأصغر ، وانتهاءً بالفونيم ، إلا أنها فشلت فشلاً مؤكداً في
توضيح الآلية التي ينبثق المعنى على وفقها من هذه البنية اللغوية ، وهكذا
جاءت التفكيكية لكي تنتج عدداً لانهائياً من الدلالات ، وليصبح التفكيك
متسيداً الساحة النقدية على أنقاض البنيوية ، منذ محاضرة دريدا في جامعة
جون هوبكنز عام ,1966
عود على بدء نلاحظ أن التفكيكيكية استعملت
بنجاح في مقاربة النصوص ، والتفكيكية برغم كونها إبستومولوجيا جديدة
وفلسفة في اللغة إلا أن أقطاب التفكيك ، جميعاً ، قد استخدموها في الممارسة
النقدية ، من مثل: بلوم ، ودي مان ، وجوليا كريستيفا ، وحتى دريدا نفسه.
إن فلسفة التفكيك هي ، بالطبع ، أوسع من
أن نحصرها في الممارسة النقدية للنصوص الأدبية ، فالإفرازات المهمة ، بل
الأكثر أهمية ، للفلسفة التفكيكية كانت على الصعيد الأونطولوجي. لقد غير
دريدا بالكامل نظرتنا إلى الوجود عندما أوضح كم أن الفكر البشري هو فكر
متمركز حول اللوغوس ، إننا نعطي الكلمة بمفهومها الأقنومي معنى
ميتافيزيقياً حين نحدث نوعاً من التماهي بين الكلمة والوجود الذي تحيل إليه
لتتحول ، بالتالي ، إلى لوغوس وتصبح هذه الكلمة عبارة عن أقنوم غير قابل
للتجزئة أو التفكيك ، ولقد عمدت فلسفة دريدا إلى تفكيك أكثر المفاهيم بداهة
، أو المفاهيم التي تخيلنا أنها بديهية ، من مثل العقل الذي تحيله
التفكيكية إلى سيرورة تاريخية ، وتقوم بتفكيكه إلى شروط كينونته لنكتشف أن
هذا الوجود الذي هو العقل ليس الأقنوم الذي نظنه ، وأنه قابل لتفكيك إلى
أقانيم أصغر وأصغر.
ولقد جاهد دريدا في إعطاء الكلمة المكتوبة
أولية على الكلمة المنطوقة: لأن التمركز حول اللوغوس كان ، دائماً ،
مرتبطاً بالملفوظ الصوتي للكلمة ، فعندما ننطق بكلمة 'عقل' ، مثلاً ، يحضر
فوراً الأقنوم الذي يتماهى مع هذه الكلمة ، ومن أجل كسر هذا التماهي يلجأ
دريدا إلى شيء من التجريد في توجهه نحو الكلمة المكتوبة لكي يدمر هذا
الترابط الحسي بين الألفاظ والأقنوم.