النخبة السياسية والنخبة الثقافية
في مغرب ما بعد الاستقلال
لا يستطيع المرء أن
يتخلص كليا من الالتباسات، والأوهام المتعلقة بموضوعة النخبة. لكن الحذر
الابستمولوجي والفلسفي تجاه هذا المفهوم يمكن أن يلطف قليلا من بعض هذه
الالتباسات والتوهمات.
مفهوم النخبة مفهوم وصفي تقريبي يشير إلى الفئات التي تحظى بنوع
من التميز داخل حقل اجتماعي ما كما تمارس نوعا من الريادة داخل هذا الحقل.
يكتب أفراد هذه الفئة بعض هذه السمات إما عبر آلية التوارث أو عبر آلية
الاكتساب. وفي كلتا الحالتين يكون عملية الحصول على الصفة ناتجة عن مجهود
وخاضعة لسياق تنافسي وصراعي. وبالتالي فإن النخبة خاضعة موضوعيا لدينامية
الصراع الاجتماعي ببعدية الأفقي والعمودي. ومن ثمة قانون التنافر وعدم
التجانس سواء داخل النخبة الواحدة أو بين النخب.
لكن مع ذلك لم يسلم
مفهوم النخبة من انتقادات وإنكارات إذ أن هناك من السوسيولوجيين من يعتبر
النخب واقعا عينيا لا يمكن إنكاره، وأن النخب هي التي تحرك التاريخ كما
يقول بذلك بارتيو والمدرسة الإيطالية والمدرسة الألمانية ويتفوغل،
مانهايم.
وهناك من ينكر دور النخب ويعتبرها إما جماعات تعبر عن مصالح
فردية أو فئات تعبر فقط عن مصالح مجموعات، وجماهير أوسع وأن ما يسمى
الفاعلية التاريخية للنخب يخفي فاعلية الجماهير ودورها في تحريك وصناعة
التاريخ.
وقد شهدت الساحة الفكرية
في العقود الأخيرة من القرن العشرين تحت تأثير روح التوجس التي ولدها
تقدم العلوم الإنسانية وبخاصة التحليل النفسي والأنتروبولوجيا البنيوية
شهدت تشكيكا في نية الفاعل وفي دوره وفي خطابه انطلاقا من أن الفئات
الاجتماعية تميل إلى إضفاء طابع مثالي ويوتوبي على خطابها وسلوكها، في
إطار ميل طبيعي إلى التمويه وإلى التمجيد الذاتي. وفي هذا السياق وجهت
العديد من الانتقادات إلى دور النخبة وإلى ادعاءاتها وإلى سعيها إلى إبراز
دورها على حساب إقصاء وتهميش الفعاليات الأخرى، تحت ذريعة التحدث باسمها
أو "بالنيابة" عنها.
من الالتباسات الكبرى
التي طالت مفهوم النخبة مسألة التصنيف، ذلك أن هناك تضاربا في تصنيف النخب
إما على أساس بسيط قطاعي (نخبة عسكرية-نخبة سياسية-نخبة تقنية-نخبة
مالية) أو موضعي (نخبة محلية-نخبة وطنية..) أو موضوعاتي (نخب الثروة-نخب
القوة-نخب المعرفة-نخب الاستحقاق- نخب الوراثة-نخب السلطة...)، لكن
التصنيف المتواتر هو التصنيف القطاعي المتداول لبساطته ووضوحه النسبي. وهو
التصنيف الذي سنعتمده هنا خاصة وأن موضوعنا هنا محدد في العلاقة بين
النخبتين السياسية والثقافية في مغرب ما بعد إعلان الاستقلال.
يبدو من الزاوية
النظرية أن النخبة السياسية هي "نخبة النخب" بمعنى تكويني لا بمعنى
معياري. النخبة السياسية هي العصارة أو الخلاصة النهائية لتفاعل النخب،
بمعنى أنكل النخب تصب في النهاية في النخبة السياسية وتتجه بشرائحها العليا
إلى الانخراط فيها. وهو ما يفسر عدم تجانس النخبة السياسية لأن أصولها
وتدرجاتها تعود إلى كافة القطاعات الاجتماعية، حتى وإن بدا أن هناك نخبا
ذات تواتر أكبر في دائرة النخبة السياسية كأصحاب المهن الليبرالية
(محامون-أطباء-تقنيون … ) بيروقراطية الدولة، أو الاحتراف السياسي الخالص.
بهذا المعنى تكون النخبة السياسية قطاعا واسعا باتساع مفهوم السياسة ولا
يقتصر فقط على بيروقراطية الدولة ومباشري السلطة المركزيين والإقليميين
(كما فعل وارتربورى في كتابه "أمير المؤمنين")، خاصة مع مأسسة الديمقراطية
في مجالس بلدية وقروية ومجلس النواب والمستشارين، وكذا البيروقراطيات
الحزبية، وأفراد المجتمع المدني الفاعل والمنشغل بقضايا الشأن العام.
وهذه النخبة هي بدورها
متراتبة ومتدرجة وهرمية، فهيب تعكس إلى حد كبير هرمية جهاز الدولة، كما
تخضع بدورها لقانون المنافسة الشرسة والناعمة التي تحكم الحقل السياسي
عامة والفضاء الاجتماعي برمته، وبالتالي فهي ليست متجانسة في مشاربها
السياسية ولا في موقعها الاجتماعي.
لكن للنخبة السياسية
ميلا عضويا قويا إلى أن تصبح هي "نخبة النخب" بالمعنى المعياري، أي "سيدة
النخب". فهي النخبة التي تهفو إليها كل النخب الفرعية، النخبة التي تعتبر
نفسها فوق كل النخب، وربما "قائدة" المجتمع ورائدة النخب.
ولعل هذه المكانة
المتميزة التي تحتلها النخبة السياسية تعود إلى أن مسار السياسة هو
السلطة، وأن تمحور الصراع حول حيازة السلطة يؤشر إلى درجة سلطوية المجتمع
أي إلى ضخامة كمية السلطة المتوزعة في ثنايا الجسم الاجتماعي وإلى كون
السلطة تقليديا في مجتمعنا هي البوابة الكبرى إلى الوجاهة الاجتماعية
والتميز والأمن والثروة والنفوذ.
جاذبية التميز والريادة التي تتحكم موضوعيا في دينامية
النخبة السياسية تعود من جهة إلى قوة السلطة ومفاعيلها الاجتماعية
المختلفة مما يدفعها إلى الاستعلاء عن النخب الأخرى عن طريق امتصاص رحيقها
عبر استدماج فئاتها أو نخبها العليا واستعمال خبرتها وفكرها واستخدامه
وكأنه متولد عن النخبة السياسية ذاتها بعد صهره وتكييفه.
في هذا الإطار يمكن تطارح العلاقة بين النخبة السياسية
والنخبة الثقافية في مجتمعنا، وهي العلاقة التي يحكمها القانون الاجتماعي
العام قانون الصراع والتنافس.
تقدم النخبة الثقافية
نفسها كنخبة تشعر بالتميز وتسعى إلى الريادة وكمستنبت مهم للأطر السياسية،
وتدخل في صراع وتنافس طويل مع النخبة السياسية حيث تنجح النخبة السياسية
(أي السياسة) في استدراج العديد من الأطر المنتمية للنخبة الثقافية ويتم
إخضاعها لعمليات تعويد واختبار وتدجين واقتلاع مخالب وغربلة وتصفيات
نهائية.
وتظل العلاقة بين النخبتين علاقة تنافس تتراوح بين الصراع
الناعم والصراع الشرس والإقصائي ونوع العلاقة تشرطه المعطيات التاريخية
الظرفية.
لكل نخبة من هاتين
النخبتين إيديولوجيتها ويوتوبياها ونرجسيتها وأوهامها عن نفسها وعن
الآخرين، وأركان قوتها وآلياتها الصراعية.
ومن ثم فالعلاقة بين النخبتين -سواء نظريا إليها كعلاقة بين
كيانين أوكوحدات فردية- ليست علاقة خطية مطردة وواضحة، إذ تتناوبها فترات
تفاهم وتعاون وتحالف كما تتخللها علاقات تنابذ وإقصاء وتوتر.
وإذا ما حاولت رسم خط بياني لهذه العلاقة فإن هذا المنحنى
لن يكون إلا الحركة الجيبية أو المتموجة. هناك فترات تناغم وفترات تنابذ
بين النخبتين. وهنا لابد من التمييز بين صنفين من النخبة السياسية: النخبة
السياسية التي هي فوقع السلطة، والنخبة السياسية التي هي في طور الصعود
إلى السلطة أي في طور المعارضة، كما أجد من الضروري التمييز بين البعد
الإيديولوجي (التبريري) والبعد اليوتوبي، وكذا بين بعدي التدبير
والاستشراف في كل ممارسة سياسية.
وكما تردد ذلك
السوسيولوجيا الألمانية فإن الحركات السياسية تكون ثورية في مرحلة الصعود
ومحافظة في مرحلة الاستقرار في موقع السلطة وميالة إلى السوداوية والتشاؤم
في حالات الانهيار أو الأفول أو الهبوط. ويكاد هذا المنحنى أن يكون بمثابة
قانون تاريخي لصعود وهبوط الحركات السياسية.
لا تشذ الحركات السياسية
المغربية عن هذا القانون فهي تكون ثورية بمعنى ما أي نقدية تجاه النظام
السياسي القائم، لكنها تكتسي ملامح تبريرية بالتدريج كلما اتجهت نحو حيازة
السلطة.
انطلاقا من هذا "القانون" التاريخي افترض أن العلاقة بين النخبة
السياسية والنخبة الثقافية تختلف حسب هذه المراحل الثلاث
(الصعود-الاستقرار-الأفول). فالطبقة السياسية هي أحوج ما تكون إلى الفئة
المثقفة وبالخصوص على الانتلجنسيا القادرة على بلورة ملامح الوعي التاريخي
للحظة وعلى استشراف آفاق تطور وصيرورة النظام السياسي، وعلى تشكيل البعد
اليوتوبي الكفيل بتعبئة كافة القوى الاجتماعية من أجل تحقيق تغيير ذي
ملامح وردية.
كلما تبلورت ملامح مشروع
مجتمعي بديل عن النظام السياسي القائم تكاثفت جهود مختلف النخب، وبخاصة
النخبتين السياسية والثقافية، وتعبأت لنقد القاتم واستشراف القادم
المستجيب للانتظارات. هذا هو الشرط التاريخي القوي للتناسق والتناغم بين
النخبتين في حالات الصعود. وقد شهد المغرب ثلاثة حالات من هذا النوع: حالة
التعبئة ضد الاستعمار حيث حصل انسجام وتناغم بين مختلف مكونات الحركة
الوطنية وبخاصة شقيها السياسي والثقافي. والحالة الثانية هي حالة الحركة
التقدمية خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي حيث تكاثفت النخبتان
وتجندتا لمقاومة مظاهر الاستبداد في النظام السياسي. لكن هذا التحالف
العضوي سيصاب تدريجيا بالارتخاء كلما انخرطت المعارضة السياسية في دواليب
النظام السياسي. أما المثال الثالث فهو التعبئة التي تشهدها الحركة
الإسلامية اليوم حيث نلحظ التعبئة المتبادلة والتناغم بين الشق السياسي
والشق الثقافي في النخبة الإسلامية في إطار تعبئة تاريخية من أجل تحقيق
نموذج مجتمعي وفكري معين.
إن ضمور المشروع
الاستشرافي، وضبابية الرؤية بعد سقوط المثال الاشتراكي على المستوى
الكوني، وبعد التغيير الكبير المتمثل في انتقال المعارضة إلى الحكم هي
تحولات كبرى من اليسير تقديم استجابة سريعة عنها وخاصة إذا ما كان مرسوما
لهذه الاستجابة أن تكون تكييفية وتبريرية بالدرجة الأولى.
لقد انتفى إذن الشرط التاريخي الأساسي المؤطر والشارط لحمية النخبة
المثقفة. إلا أن هذه لم تتخل عن دورها التنويري ووظيفتها المعرفة. إن
الأحكام المتواترة اليوم في الصحافة المغربية حول "الاستقالة الجماعية
للمثقفين" وتقاعس وغياب وموت المثقف...إلخ هي أحكام سطحية وغير دقيقة.
ليس من مهمة المثقف أن
ينزل إلى الأزقة والدروب ويواكب المهرجانات والاجتماعات، ويصرخ -بدوره-
بأعلى صوته. بل إن دوره الملاحظة والتحليل وفتح النقاش المعمق حول القضايا
بروح نقدية واستشرافية، والمساهمة في عقلنة الرؤية والثقافة والممارسة.
فعندما يعود المثقف إلى البحث في الحداثة والتقليد والتراث
الفكري وبنية العقل وغيرها من القضايا التي يبدو أنها بعيدة عن الاهتمامات
العمومية اليومية فذلك لأنه اكتشف أن مظاهر تخلفنا ليست فقط اقتصادية
وسياسية آنية، بل هي أيضا تضمر مظاهر تخلف أعمق، تخلف فكري يضرب بجذوره في
قرون التاريخ. المثقف محكوم بمنطق البحث والفكر وبالمدة التاريخية
الطويلة، وباللاشعور الثقافي الثاوي وراء السلوكات والتصورات. وهذا ليس
استقالة من التاريخ بل حفرا في أعماقه البعيدة.
والحملة الحالية المتواترة ضد المثقف ليست إلا شكلا من
أشكال ضغط السياسي عليه حتى يواكب التحولات والانعطافات ويندرج في مسارها
وينتج خطابا إيديولوجيا (تبريريا) داعما لما سمي بالانتقال الديمقراطي،
والتناوب التوافقي، والتحويل من الداخل،...
إن ارتخاء الوشائج بين
النخبة الثقافية الحداثية والنخبة السياسية التحديثية لا يرجع لتقاعس
أفراد أو "خيانة" البعض أو حتى "الاستقالة الجماعية للمثقفين" بل تعود إلى
الشرطية التاريخية المتمثلة في الانتقال من استراتيجية المعارضة
الاستشرافية إلى سياق الاندراج من بنية النظام السياسي والتخلي الخجول عن
الإيديولوجيا المتبناة سابقا والتبني الخجول للإيديولوجيا الليبرالية
عمليا مع إنكارها نظريا.
وأنا لا أورد هذه
الملاحظة المتعلقة بالتحولات كمآخذ ومعايب، بل أوردها كمعطيات وصفية
موضوعية يمكن أن نفهم من خلالها تطور العلاقات السياسية والإيديولوجية
والثقافية في مجتمعنا في العقود الأخيرة. فهذه التحولات -تحولات النظام
السياسي والتحولات الإيديولوجية التي طالت القطاع السياسي مثلما طالت
النخبة المثقفة- يمكن أن ينظر إليها من حيث هي نتاج تفاعل وصراع بين قوى
اجتماعية/سياسية مختلفة، مثلما يتعين أن ينظر إليها كنتاج لتحولات بنيوية
تعكس أصداء وتوجهات التحولات العالمية الكبرى منذ سقوط جدار برلين
والمعسكر الشيوعي.
في العقود الأولى من
الاستقلال كانت السلطة في وفاق تام مع الفئة التقليدية من المثقفين، لكن
في صراع مع المثقفين (والسياسيين) العصريين أو الحداثيين. ومع التحولات
العالمية الكبرى التي حدثت في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد
والعشرين، ومع الظهور المدوي للإسلام السياسي بدأ نوع من التوتر ؟؟؟؟
مع المثقف العصري، التقليدي الذي يعيب على النظام استلابيته المؤسسية
السياسية والثقافية داعيا إلى الحد من غربنة النظام والمجتمع والثقافة
وإلى الأصالة والثوابت وإلى الهوية بتصوره.