10 فبراير 2014 بقلم
كمال عبد اللطيف قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:يثير موضوع الثورات العربية بين الاستقلال والتبعية مشاكل عديدة، إنه يشير من جهة إلى سؤال ليس من السهل الإجابة عليه، في الوقت الراهن على الأقل، حيث ما تزال الثورات العربية وتداعياتها متواصلة، وهو يحيل ثانية، إلى نمط من أنماط تعامل الفكر السياسي العربي مع القضايا العربية والدولية، وهو نمط يعتمد بطريقة ميكانيكية مجموعة من الثنائيات الجاهزة، الأمر الذي يتطلب في نظرنا إنجاز عملية مُركَّبة أثناء التفكير فيه، والإجابة على التقابل الذي تستوعبه صيغة السؤال.
لنبدأ التفكير فيما يحيل إليه الموضوع؛ أي في المضمرات المستوعبة في مفردات السؤال؛ يتعلق الأمر بالثنائية التي تجعل الذي يفكر فيه مضطرا للتعامل معه، انطلاقا من تقابلات مقررة سلفاً. وهذا الأمر يكشف أن السائل ينتظر من المجيب أحد أمرين لا ثالث لهما، في حين أن إشكالات التاريخ والسياسة والثورة أكثر تعقيدًا مما نتصور.
وبناءً عليه، نحن مدعوّون لركوب طريقة أخرى في النظر إلى الموضوع والتفاعل معه، من قبيل القيام بمحاولة التفكير في السؤال نفسه، بهدف بلورة مساعي أخرى في النظر موصولةٍ به قصد تفكيكه، إن لم نقل قصد التخلص منه والتحرر من بعض حدوده، وتركيب ما نعتبره البدائل المناسبة لمقاربات تُسهِّل إمكانيات إدراك الموضوع بصورة أفضل.
إن ما يخفيه السؤال هو حرص السائل على ربط الذات بالآخرين، الاستقلال بالتبعية، ربط الفعل والمُنجزِ الثوري بالتدخل الخارجي، وقس على ذلك، حيث يمكن عرض ثنائيات أخرى متداولة في هذا الباب، ومطابقة في الأغلب الأعم للثنائية الظاهرة في السؤال، وذلك من قبيل الداخل والخارج، الإسلام والغرب، العروبة والصهيونية، إلى غير ذلك من السرديات التي استأنس بنسجها وإعادة نسج خيوطها أجيال من المثقفين والسياسيين العرب.
تبدأ الحكاية بالتلويح بالمؤامرة الخارجية، ومنحها أسماء حركية متعددة، ثم إعلان خيانة القائمين بها وضلوعهم في التهييء للاختراق الأجنبي. وعندما يتواصل الطابع الملحمي للانفجارات التي ملأت كثيرا من الميادين والساحات العمومية في أغلب البلدان العربية، كما هو عليه الحال في انفجارات 2011، يتم إخراج بطاقة الصراع المذهبي والطائفي والقبلي الحاصل أو المفترض الحصول، وإغفال ملامح الفعل الاحتجاجي المُوَاطِن، وما يرتبط به من توجهات إصلاحية، سياقها مؤكد في تاريخنا المعاصر. فننسى، في غمرة ما جرى ويجري، أن للحكاية تأثير كبير ومرغوب فيه، من أجل التمكن من تحويل النظر عن جوانب بعينها في الحدث، نحو جوانب أخرى يراد لها أن تكون وراء الحدث.
يقتضي النظر في حدث الثورات العربية، عدم التعامل بإيجابية مطلقة معها؛ أي مع ما حصل في تونس ومصر، وما حصل ويحصل في ليبيا واليمن وسوريا؛ ذلك أنه بجوار الفعل التاريخي، المندفع والصانع للحدث المزلزل لقواعد الطغيان، تبقى جوانب عديدة مليئة بالألغام والألغاز، من قبيل نوعية التدخل الذي تمارسه التفاعلات القومية والإقليمية والدولية على الحدث، وعلى طبيعة تحوله. كما تبقى أمامنا في قلب أمكنة الحدث المرسوم في جغرافيات، وإن تباعدت بينها المسافات، فقد وَحَّدتها الأنظمة والهزائم. يبقى أمامنا وسط كل هذا الفعل في لحظات تشكله، جثث الضحايا وتخريب المنشآت، إضافة إلى نتائج الآثار التي تنشأ عن تعميم أشكال جديدة من الفوضى، من قبيل حصول انكسارات عميقة في لحظة معينة من التاريخ، انكسارات لا يمكن الادعاء أبدا بسهولة لملمتها، وربطها بأفق واضح في التحول التاريخي، القادر على تركيب الطموحات التي حملها الذين كانوا يرفعون أصواتهم بنداءات التغيير والحرية والكرامة والعمل.
ينبغي التسلح، في تصورنا، بفضيلة الاحتراز في لحظات متابعة ما جرى ويجري، وفي أفق هذا الاحتراز ينبغي احتضان الحدث والانخراط فيه، وإعادة تأسيسه عند تجاوز عتبة بدايات سقوط النظام، ذلك أن إسقاط النظام، تليه مرحلة إعادة تأسيس البديل التاريخي المأمول، إعادة تركيب شرعية دستورية جديدة، والانطلاق في بناء مشروع التحديث السياسي والإصلاح الديمقراطي. ويكون الاحتضان في تصورنا ببلورة الأسئلة والاحتياطات السياسية التاريخية التي تسمح ببناء أفعال قادرة على تحصين وتطوير ديناميات وأفعال التغيير الجارية.
نتجه هنا للتفكير في جوانب من تداعيات الثورات العربية وأسئلة الراهن العربي، ونروم من وراء ذلك، وضع اليد على إشكالات نظرية ومنهجية محددة، بعضها موصول بقضايا كتابة تاريخ الراهن، حيث تتداخل العوامل وتختلط، ويصعب فرزها في أزمنة تواصل أفعال الثورة، وتواصل حضور ملامح الأطوار الانتقالية الحاصلة بعدها. ونواجه في الوقت نفسه، وأثناء التفكير في بعض أبعاد السؤال، ما يمكن أن نسميه الأوجه الخفية والمطموسة في الانفجارات التي عرفتها بعض الميادين العربية.
لا يمكن أن ندعي في سياق كل ما سنقوم به في هذه المحاولة، أننا سنفك طلاسم وألغاز الانفجارات التي ملأت فضاءات بعض الساحات العمومية، بل إن الهدف المتوخى من ورائها، هو المساهمة في تحصين الفعل الثوري العربي، وربطه بصورة قوية بالأفق الإصلاحي الديمقراطي، باعتبار أنه شكل ويشكل في تصورنا الخلفية المرجعية الصانعة بصُوَر مختلفة لجوانب من الحدث ومن مكاسبه، ما ظهر منها وما يظل في حاجة إلى معارك أخرى، لتتم عمليات إتمام حصوله.
نسلم في ضوء ما سبق، بصعوبة إنجاز أبحاث بخلاصات ونتائج نهائية في موضوع الثورات المذكورة، كما نسلم بأن أي انخراط في تعقل ما جرى ويجري من أحداث في المجتمعات العربية، منذ اندلاع هذه الانفجارات، يمارس بدوره أشكالا من التموقع السياسي في قلبها، وذلك حتى عندما يدعي صاحبه الحياد والموضوعية.
ونتصور رغم كل الصعوبات التي أشرنا في الفقرات السابقة إلى بعضها، لزوم مواصلة مزيد من فحص مختلف أبعاد ما حدث، ذلك أن بناء مقاربات متنوعة يراكم، في تصورنا، ما يسمح بتعقل كثير من سمات الثورات العربية ومستقبلها. وضمن هذا الأفق، سنجيب على السؤال محور هذا العدد.