** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

  نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)/2 « في: 23:22 07/02/2012 » نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2) /2

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هذا الكتاب
فريق العمـــــل *****
هذا الكتاب


عدد الرسائل : 1296

الموقع : لب الكلمة
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)/2 « في: 23:22 07/02/2012 » 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2) /2 Empty
13102012
مُساهمة نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)/2 « في: 23:22 07/02/2012 » نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2) /2

معرفية باعتبارها أفعالاً للذات. وفي ذلك يقول كانط:
"يجب
أن يكون هناك أساس ترانسندنتالي لوحدة الوعي في تركيب متنوع كل الحدوس..
أساس بدونه يستحيل التفكير في أي موضوع لحدوسنا.. لايمكن أن تكون لدينا أي
أنماط معرفية، أو أي صلة أو وحدة لنمط من المعرفة مع الآخر بدون وحدة الوعي
التي تسبق كل بيانات الحواس.. ووحدة الوعي هذه يمكن أن تكون مستحيلة إذا
لم يستطع الذهن في معرفته بتنوع الحدوس أن يصبح واعياً بهوية الوظيفة التي
عن طريقها يدمج تلك الحدوس تركيبياً في معرفة واحدة. إن الوعي الأصلي
والضروري بوحدة الذات هو في نفس الوقت وعي بوحدة ضرورية بكل تركيب للظاهرات
وفق التصورات" (A106-107).
ومعنى هذا أن معرفة الأشياء باعتبارها وعياً
بها تتأسس على الوعي بالذات أثناء ممارستها لأفعالها المعرفية المختلفة:
"لا يمكن للعقل أن يعي بهويته في تنوع تمثلاته، ولا يمكنه أن يفكر في هذه
الهوية قبلياً، إلا إذا كان أمام عينيه وحدة أفعاله التي يُخضع بها كل مركب
للحدوس.. لوحدة ترانسندنتالية" (A108)، أي وحدة الوعي الذاتي. وهي وحدة
ترانسندنتالية بمعنى أنها ليست خاضعة للتجربة، فالوعي بالذات لا يرجع إلى
التجربة أبداً، كما لا تشكل معرفة الأشياء أصلاً لها، لأنها هي ذاتها أساس
معرفة الأشياء. لا يحصل الفهم على وعي بذاته بفضل معرفته بالأشياء، بل
العكس، إذ أن هذه المعرفة ليست ممكنة إلا بفضل الوعي الذاتي.
وبعد أن
يوضح كانط أن تركيباً بين الحدوس الحسية ليس ممكناً إلا بفضل الوعي الذاتي،
الذي أطلق عليه "الإبصار الترانسندنتالي"، يشير إلى أساس زماني لهذا الوعي
الذاتي. ذلك لأن تركيباً واعياً بين الحدوس يجب أن يعي تراتبها الزمني
واحداً تلو الآخر، ولا يمكن إدراك هذا الترتيب أو التسلسل الزمني للحدوس ما
لم تكن في الوعي قدرة قبلية على إدراك الزمان، أي الوعي بالتتابع
وبالعلاقة بين السابق اللاحق؛ هذه القدرة القبلية هي في حد ذاتها زمانية،
إذ هي الصورة القبلية للزمان باعتبارها شرطاً كلياً لحضور الموضوعات في
الوعي. كما أن التركيب بين الحدوس الحسية التي يتم تلقيها في أزمنة مختلفة
يجب أن يتم بوعي باللحظة الحاضرة وإدراك أن الوعي نفسه كان حاضراً عبر كل
تلق جديد لحدس حسي جديد:
"إن الأنا [التي تتصف بالحضور وبالوعي بهذا
الحضور وبالثبات الزمني] تشكل قواماً لكل التمثلات، [فمن خلال هذا الأنا]
نستطيع الوعي بها. وكل وعي.. يقوم بفعله بناء على حدس داخلي خالص، أي على
الزمان" (A124).
ويتضح من ذلك أن الوعي باعتباره وعياً بالذات وإبصاراً
ترانسندنتالياً بهوية الأنا يشتغل على وعي داخلي هو الوعي بالزمان. إن
الوعي بالزمان الداخلي عند كانط هو قوام العملية المعرفية( 5)، والوعي في
حد ذاته ليس إلا وعياً بالحضور المستمر والدائم للأنا عبر اللحظات
المتعاقبة، وهذا هو الأساس الزماني الذي يشكل قوام التعرف على كل تغير
زماني تجريبي.
في المعرفة الإنسانية تخضع الأشياء للشروط الذاتية
للمعرفة، وهذه المعرفة تكشف عن فاعلية مقولات الفهم الإنساني، والمعرفة
بذلك ليست تلقياً سلبياً لمعلومات من التجربة – لأن ما يسمى بالتجربة ليس
إلا خبرة إنسانية بالعالم صنعتها الذات العارفة. وليس معنى ذلك أن المعرفة
الإنسانية مجرد خبرة ذاتية أو أوهام أو صورة ذاتية للعالم لا تقابلها حقيقة
موضوعية، لأن المعرفة الإنسانية هي معرفة بالظاهر لا بالأشياء في ذاتها.
العالم لا يقدم لنا إلا الظاهر، والمعرفة هي تنظيم هذا الظاهر وفق مقولات
الفهم، أما الأشياء في ذاتها فليست معطاة لنا في الحواس أو في حدس حسي، أو
بأي طريقة أخرى مثل الحدس العقلي مثلاً، ذلك لأن كانط ينكر أن تكون المعرفة
البشرية قادرة على تمثل حقائق عن طريق العقل وحده في استقلال عن كل شرط
حسي؛
"وبالتالي فإن النظام والانتظام في الظاهرات والذي نطلق عليه (طبيعة)، نحن الذين أدخلناه. ولا يمكننا أن نجده في الظاهرات ما
لم نكن قد أدخلناه فيها. [وكي تكون] وحدة الطبيعة ضرورية، يجب أن تكون ممكنة قبلياً" (A125)
أي
لكي يدرك الوعي الإنساني نظاماً في الطبيعة يجب أن يكون هو نفسه ممتلكاً
لهذا النظام قبلياً. وهذا النظام هو تركيب قبلي للفهم الإنساني مستند على
وحدة تركيبية، أي وعي بوحدة الذات القائمة بالتركيب.
ويجب أن ننتبه في
هذا السياق إلى نقطة لم يؤكد عليها كانط مباشرة، وهي أن الوعي الذاتي ليس
خاصية لملكة الفهم وحدها، بل هو حاضر في مستوى الحدس الحسي ومستوى المخيلة،
ذلك لأن كل تركيب، سواء تركيب انطباعات أو حدوس في موضوعات، وهما
التركيبان اللذان تقوم بهما ملكتا الحس والمخيلة على التوالي، نقول أن كل
تركيب يجب أن يكون مصاحباً بهوية الذات وإدراك باطن بوحدتها عبر أفعالها
التركيبية المختلفة وعبر موضوعات التركيب المتباينة. والحقيقة أن الكثير من
الكتب العامة العارضة لفلسفة كانط أخطأت في اعتقادها أن الوعي الذاتي لا
يظهر إلا في مرحلة الفهم أو هو خاصية لملكة الفهم وحدها( 6)، ذلك لأن كانط
نفسه يؤكد، وخاصة في استنباط الطبعة الأولى هذا، ضرورة حضور الوعي الذاتي
عبر كل الملكات الثلاث: الحس والمخيلة والفهم. ويبدو أن أحد أسباب هذا
الاعتقاد الخاطئ أن مصطلح الوعي الذاتي لا يظهر صراحة وحرفياً إلا في تناول
كانط لملكة الفهم، بجانب اعتماد أغلب العارضين لفلسفة كانط على استنباط
الطبعة الثانية دون الانتباه إلى إشارة كانط في الطبعة الأولى إلى حضور
الوعي الذاتي عبر الملكات الثلاث( 7).
2 - استنباط الطبعة الثانية:
إن
الاستنباط الترانسندنتالي للمقولات في الطبعة الثانية هو في أغلبه إعادة
صياغة للأفكار الرئيسية في استنباط الطبعة الأولى، لكن مع حذف وإضافة.
الحذف هو للتركيب الثلاثي الذي يقوم به الحس والمخيلة والفهم في الطبعة
الأولى، والإضافة هي في توضيح كانط للصلة بين عمل المقولة على مستوى تنظيم
المعرفة وبين وظيفتها في الحكم المنطقي.
وفي عرضنا لاستنباط الطبعة
الثانية لن نكرر إعادة صياغة كانط للأفكار الرئيسية التي سبق ظهورها في
استنباط الطبعة الأولى، بل سنوضح الأفكار التي أعطاها الأولوية في العرض،
ثم نعرض للإضافة التي ظهرت في الطبعة الثانية ولم تكن موجودة في الأولى.
يبدأ
كانط الاستنباط بقوله إن الحدوس تظهر مندمجة مع بعضها البعض في الإدراك
الحسي، ولا يمكن أن تكون الحواس ذاتها مصدر هذا الدمج، لأن الانطباعات تعطى
للحواس مشتتة وبغير رابط بينها، ولذلك يجب افتراض فعل تركيب بين
الانطباعات على مستوى الإدراك الحسي(8 )، وهذا الفعل يقوم به نوع من الوعي
هو البصيرة Apperception. وهو ينظر إلى هذه البصيرة باعتبارها وعياً بالأنا
أفكر:
"يجب أن يكون ممكناً للأنا أفكر أن يصاحب جميع تمثلاتي؛ إذ
بدونها لا يمكن لشئ أن يمثل فيَّ ولا يمكنه أن يخضع للتفكير أبداً.. وكل
متنوع الحدس لديه بالتالي صلة ضرورية مع الأنا أفكر" (B132).
ويسمي كانط الوعي بالأنا أفكر حدساً خالصاً Pure Intuition، لأنه
لا
يعتمد على الخبرة التجريبية. فالوعي بالأنا أفكر لا يعتمد على الحالات
والأفعال المعرفية بالمعنى السيكولوجي، بل هو يسبق هذه الأفعال، لأنها
تتضمن بالضرورة وعلى نحو قبلي وعياً بالأنا أفكر أثناء قيامها بعملها. وهذا
الأنا أفكر لديه تصوراً عن الوحدة التركيبية، أي تصوراً يدرك أن أفعال
التركيب المختلفة مترابطة ومتصلة من حيث كونها أفعالاً لذات واحدة وممارسة
على موضوع خبرتها هي.هذا التصور الخاص بوحدة الأفعال التركيبية ليس هو
مقولة الوحدة التي تظهر في الحكم المنطقي، ذلك لأنه لا يخص وحدة الأشياء
قبلياً، أي وحدة الحدوس والتصورات في إنتاج تمثل للشئ، بل يخص وحدة الذات
القائمة بالأفعال التركيبية (B131). وبذلك أوضح كانط أن مقولة الوحدة ليست
هي أصل وعي الذات بوحدتها في أفعالها المعرفية، بل إن وعي الذات بوحدتها هو
السابق على ظهور مقولة الوحدة باعتبارها عاملة على مستوى الخبرة. وهنا
نكتشف كيف أن كانط كان على وعي بمستوى سابق على المقولة ذاتها. صحيح أن
المقولات هي ذاتها قبلية، إلا أن قبليتها هذه تستند على شئ ما أكثر قبلية
منها؛ إنه القبلي المؤسس للمقولات القبلية ذاتها، إنه القبلي الأصلي
والأساسي( )، وهو الوعي بالأنا أفكر، الوعي الذاتي بوحدة الأفعال المعرفية
وانتمائها جميعاً إلى الذات العارفة.
ومثلما ذهب كانط في الإستطيقا
الترانسندنتالية إلى أن المكان والزمان هما الشرطان اللذان تُعطي وفقهما
الحدوس للوعي فهو يذهب في استنباط الطبعة الثانية إلى أنهما أيضاً الشرطان
اللذان يمكن للحدوس وفقهما أن تخضع للتفكير باعتبارها تمثلات وتضم جميعها
في تصورات (B137). فعن طريق المكان باعتباره شرطاً قبلياً يُعطى للفهم
متنوع الحدوس، وعن طريق الزمان تدمج هذه الحدوس وتترابط معاً في وعي واحد.
ومعنى هذا أن مقولة المكان تخص استقبال الحدوس باعتبارها تنوعات مترابطة
مكانياً، ومقولة الزمان تخص ربط هذه الحدوس مع بعضها البعض في الوعي. وهنا
نكتشف أن الزمان هو الشرط القبلي للتفكير مثلما أن المكان هو الشرط القبلي
للإدراك. والملاحظ أن كانط قد عالج الزمان في استنباط الطبعة الأولى على
أنه وعي بالزمان، وبالتالي فالوعي الذاتي الذي يمثل شرطاً لكل معرفة ليس
سوى وعياً زمانياً، وعياً بالطابع الزماني للذات الإنسانية( 9).
عند هذا
الحد من استنباط الطبعة الثانية لم يدلل كانط إلا على مصدر وحدة الأفعال
التركيبية التي يمارسها الفهم والمتمثلة في الإبصار الترانسندنتالي أو
الأنا أفكر، ولم يكن طوال هذا العرض قد تناول الموضوع الأساسي وهو ضرورة
الانطباق القبلي للمقولات على الخبرة وعلى الحكم المنطقي. وهذا هو الموضوع
الذي ينهي به استنباط الطبعة الثانية والذي يمثل الإضافة غير الموجودة في
الطبعة الأولى. ويبدأ كانط في تناول هذا الموضوع في فقرة بعنوان: "يتأسس
الشكل المنطقي لكل الأحكام في الوحدة الموضوعية للإدراك الباطن للتصورات
التي يحتويها [هذا الشكل المنطقي]" (B141). يريد كانط القول بأن الشكل
المنطقي للحكم والمتمثل في موضوع ومحمول ورابطة، أو حدس وتصور مندمجين معاً
بأداة الربط (هو ist/is/est) والتي تعبر عن الكينونة، ليس ممكناً إلا بفضل
الوعي بالوحدة القبلية بين الحدس الحسي والتصور العقلي. هذه الوحدة
القبلية سابقة على الحكم المنطقي نفسه وهي التي تؤسسه، لأننا لا يمكن أن
نعبر منطقياً عن انطباق تصور ما على موضوع ما لم نكن قد وعينا بهذا
الانطباق منذ البداية وقبل إصدار الحكم( 10)، ولا يمكن أن يطبق الحكم
المنطقي محمولاً على موضوع أو يدرك شيئاً تحت مقولة ما لم يكن الوعي قد قام
بذلك بالفعل قبل الحكم المنطقي، ومعنى ذلك أن هناك وحدة تركيبية بين شقي
الحكم في الوعي ذاته وسابقة على الحكم المنطقي، ذلك الحكم الذي يأتي
للتعبير تحليلياً عما أنجزه الوعي من تركيب قبلي. ويكون الحكم المنطقى بذلك
مؤسس على فعل معرفي يركب الحدس والتصور معاً، ووعينا بهذا التركيب هو أساس
التعبير المنطقي عن الرابطة بين الحدس والتصور وهو أداة الربط التي تعبر
عن الكينونة.
ولا يوافق كانط على تعريف المناطقة للحكم بأنه تعبير عن
علاقة بين تصورين، وذلك لأن هذا التعريف مقتصر على الحكم المقولي
Categorical Judgment، لا الحكم الشرطي المنفصل أو المتصل، ذلك لأن كل
منهما يعبران عن علاقة بين قضيتين لا تصورين؛ الحكم المقولي لا يعبر إلا عن
تضمن المحمول في الموضوع وفق مقولة الكل والأجزاء أو مقولة الجوهر
والأعراض، في حين أن الحكم الشرطي المتصل يعبر عن علاقة سببية بين تصورين
حسب مقولة السببية، والحكم الشرطي المنفصل يعبر عن علاقة تسبب متبادل
بينهما حسب مقولة الاشتراك أو التفاعل المتبادل، هذا بالإضافة إلى أن أحكام
الجهة تفهم موضوعاتها حسب مقولات أخرى غير التضمن واللزوم، مثل الإمكان
والضرورة والمصادفة والاستحالة ... إلخ. إن العلاقات التي تربط بين قضيتين
لا تقتصر على علاقات التضمن واللزوم. فالحكم المقولي لا يعبر إلا عن تضمن
المحمول في الموضوع وفق مقولة الجوهر والأعراض أو مقولة الوحدة أو مقولتي
الكل والأجزاء، في حين أن الحكم الشرطي يعبر عن علاقة السببية أو علاقة
التسبب المتبادل، وأحكام الجهة تعبر عن مقولات الإمكان والضرورة والمصادفة
والاستحالة…إلخ. ومعنى هذا أن ما يجب تناول أساسه القبلي الترانسندنتالي
ليس مقولة التضمن أو علاقة الكل والأجزاء وحسب والتي تشير إلى الحكم
المقولي، بل يجب كذلك تناول بقية المقولات التي يكشف عنها الحكم الشرطي
وأحكام الجهة.
وما نلاحظه في حديث كانط عند هذه النقطة أنه يغير من
أسلوب الاستنباط الترانسندنتالي مقارنة بالطبعة الأولى، فهو يلجأ إلى تحليل
الحكم الحملي ليبين تعبيره عن مشروطية مقولية سابقة على الحكم، وفي ذلك
يقول:
"الحكم ليس إلا الأسلوب الذي تأتي به أنماطاً معطاة من المعرفة إلى الوحدة الموضوعية للإدراك الباطن" (B141).
أي
أنه ينطلق من الحكم مباشرة إلى الكشف عن أساس الفعل المعرفي الذي ينتجه
والذي يتمثل في وحدة الوعي الذاتي، وهو ما يطلق عليه "الإدراك الباطن"،
بدلاً من الانتقال من الفعل المعرفي أولاً كاشفاً عن كيفية إنتاجه للحكم
كما في الطبعة الأولى. فعندما نقول "كل الأجسام ثقيلة"، فإن هذا الحكم
تعبير عن إدراك مسبق بالأجسام باعتبارها ثقيلة، أي باندراج الأجسام تحت
مقولة الثقل. إن الإدراك السابق على الحكم يعي شيئاً واحداً هو الأجسام
الثقيلة، أي يعي بالحدس الحسي والتصور في وحدة واحدة غير منفصلة، ثم يأتي
الحكم المنطقي ليفصل في هذا الإدراك الواحد بين حدس وتصور، ثم يعبر عن
الوحدة بينهما في صورة الرابطة is أو فعل الكينونة؛ وما الحكم بذلك سوى
تعبير تحليلي عن تلك الوحدة بين الشئ الجزئي والمقولة الكلية في الإدراك
الباطن( 11). التقط كل من شلنج وهيجل وهوسرل هذه الفكرة وذهبوا إلى أن
الحكم هو تقسيم وفصل تحليلي للوحدة الأصلية المقولية بين الحدس والتصور،
وما أكد لديهم هذه الفكرة أن كلمة حكم بالألمانية تتكون من مقطعين UR-teil،
وتعني حرفياً "الانقسام الأصلي" أو "انقسام الأصل"، وذهبوا إلى أن الحكم
هو انقسام للأصل الواحد الذي يجمع بين الموضوع والمحمول أو الشئ والمقولة
في الوعي القبلي( 12). ونستطيع في هذا السياق القول بأن المقولة لا تظهر
باعتبارها مقولة صريحة وواضحة، أي تصوراً خالصاً للفهم، إلا بفضل هذا
الانقسام للأصل، أي في صورة التعبير المنطقي الواعي عن هذه الوحدة الأصلية
أو الرابطة المقولية الأصلية؛ وهذا هو بالضبط معنى قول كانط إن المقولة لا
تظهر إلا في الحكم( 13)؛ لكن ليس معنى هذا أن وظيفتها منطقية وحسب، ذلك لأن
وظيفتها المنطقية ذاتها مؤسسة على وظيفتها المعرفية السابقة على الحكم
المنطقي المتمثلة في التوحيد بين التمثلات، وذلك كما شرحنا في الفصل الأول
تحت عنوان "المقولات باعتبارها شروطاً قبلية لإمكان الخبرة". إن كانط يرد
الوظيفة المنطقية للمقولات إلى الوظيفة المعرفية لملكة الفهم الخالص.
لكن
أتى كانط في فقرة تالية بعبارة أدت إلى سوء فهم من قبل بعض المفكرين
والشراح( 14)، يبدو فيها أنه يرد الوظيفة المعرفية للمقولة القبلية إلى
الوظيفة المنطقية للمقولة في الحكم. يقول كانط:
"إن فعل ملكة الفهم هذا،
والذي عن طريقه يحضر متنوع تمثلات معطاة في إدراك باطن واحد "هو" الوظيفة
المنطقية للحكم، وبالتالي فكل متنوع.. متعين بالنظر إلى أحد الوظائف
المنطقية للحكم، وبهذه الطريقة يتم إحضاره في وعي واحد" (B143).
يبدو من
هذه العبارة أن كانط يريد القول بأن الفعل المقولي العامل في مجال الحدس
الحسي والمنظم لمتنوع الحدوس الحسية هو نفسه الوظيفة المنطقية للحكم، لكنه
ليس كذلك. إن كلمة "هو" في النص السابق لا تعبر عن التساوي أو الهوية بل
تعبر عن التوازي. الفعل المقولي لملكة الفهم سابق على ظهور الحكم وعلى
وظيفته المنطقية. وهو عامل على مستوى الحدس الحسي في تنظيم تنوعات الحدوس
والذي يسبق عمل ملكة الفهم في تنظيم التمثلات وفق المقولات. كانط إذن يقصد
بذلك أن الوظيفة المنطقية للحكم متعينة ومشروطة بالوظيفة المقولية لملكة
الفهم. وهذا ما يمكن أن يفسر لنا الغموض في قول كانط: "المقولات هي هذه
الوظائف للحكم بالضبط، طالما كانت مستخدمة في تعيين المتنوع في حدس مُعطى"
(Ibid). معنى هذا أن المقولات هي وظائف للحكم طالما كان هذا الحكم تعبيراً
عن وحدة المتنوع في حدس معطى، أي طالما كان تعبيراً عن وحدة مقولية سابقة
على الحكم. ليس للمقولة من وظيفة منطقية إلا بناء على وظيفة معرفية سابقة
على الحكم المنطقي تربط التمثلات ببعضها البعض وبينها وبين التصورات.
وعندما يقول كانط إن "المتنوع في حدس معطى خاضع بالضرورة للمقولات" فهو لا
يعني أنه خاضع للوظيفة المنطقية للمقولات بل لوظيفتها المعرفية في الحدس،
أو في الخبرة السابقة على الحكم بتعبير هوسرل، أي في تنظيم متنوع الحدس
وإضفاء الوحدة عليه. إن مصدر خطأ أولئك الشراح أنهم لم ينتبهوا إلى أن كانط
يتناول الحكم من وجهة نظر المنطق الترانسندنتالي لا من وجهة نظر المنطق
العام، ولذلك فإن تعامله مع الوظيفة المنطقية للمقولة هو تعامل قبلي
ترانسندنتالي، أي معرفي وإبستيمولوجي وليس تحليلياً، تعامل يوضح الأفعال
المعرفية التي تجعل المقولة تظهر في الحكم( 15).
إن سوء الفهم الذي
أشرنا إليه يرجع إلى سببين: الأول أن كانط يتبع طريقة تحليل الحكم الحملي
لإثبات اعتماده على مشروطية مقولية سابقة عليه، وهذا هو الأسلوب الجديد
الذي اتبعه في استنباط الطبعة الثانية. انطلاقه من الحكم المنطقي إلى إثبات
مشروطية مقولية سابقة عليه أدى إلى سوء الفهم القائل إن الوظيفة المنطقية
للمقولة هي التي تؤسس الوظيفة المعرفية لها، في حين أن العكس التام هو
الصحيح، ذلك لأنه انتقل في استنباط الطبعة الأولى من الوظيفة المعرفية
للمقولات، أي أفعال التركيب وفق المقولات القبلية، إلى تأسيس هذه الأفعال
للحكم المنطقي قبلياً. ولم يغير كانط في الطبعة الثانية من رأيه حول
الترتيب بين الوظيفة المنطقية للمقولات في الحكم والوظيفة المعرفية القبلية
لها في تنظيم الخبرة السابقة على الحكم، فالأولوية عنده هي للوظيفة
المعرفية التي تؤسس الحكم المنطقي قبلياً، لكنه غيَّر من مجرد طريقة العرض،
إذ بدأ في الطبعة الثانية من أعلى، أي من الحكم المنطقي منتقلاً إلى أساسه
القبلي وهو الوظيفة المقولية في تنظيم الخبرة. ولا يعني ذلك أنه أعطى
الأولوية للوظيفة المنطقية للمقولات بل غير من أسلوب الاستدلال، وكان ذلك
استجابة منه لما رآه من قُرَّاء الطبعة الأولى في عدم فهمهم للاستنباط
الترانسندنتالي وصعوبته واستغلاقه على أفهامهم. لقد عبر كانط عن وجهة نظره
واضحة صريحة منذ أن رد لوحة الأحكام إلى لوحة المقولات كما رأينا في الفصل
الأول. أما السبب الثاني الذي أدى إلى سوء الفهم أن كانط لم يقدم تحذيراً
لقراءه من الخلط بين الوظيفة المنطقية والوظيفة المعرفية القبلية للمقولات،
ولم يتوسع في التأكيد على أولوية الوظيفة المعرفية، نظراً لأنه كان
متعجلاً للانتقال إلى المرحلة الثانية من التحليلات الترانسندنتالية وهي
تحليل المبادئ.
ثانياً - دور المخيلة الترانسندنتالية:
على الرغم من
أن كانط بدأ كتابه بالإعلان عن مصدرين للمعرفة، ملكة الحس وملكة الفهم، من
حيث أن الحدس الحسي يمدنا بتمثلات حسية عن الموضوعات، والفهم يمدنا
بالتصورات القبلية التي تنظم التمثلات، إلا أن إعلانه هذا كان لمجرد
التبسيط كي يمهد القارئ للدخول في تفاصيل نظريته المعرفية التي مثلت
اختلافاً هائلاً عما سبقها من نظريات لدى سابقيه. فالحقيقة أنه أدخل ملكة
ثالثة لم يكن يتمكن من الإعلان عنها في البداية، ولذلك أجل إعلانها حتى
يحين وقتها( 16). هذه الملكة هي المخيلة الترانسندنتالية Tranzendentale
Einbildungskraft / Transcendental Imagination التي نظر إليها على أنها
مصدر أساسي للمعرفة. فقد ظهرت أول مرة في بحث كانط عن وظائف التركيب القبلي
الثلاثة في استنباط الطبعة الأولى، ورد وظيفة الاحتفاظ بالحدوس الحسية
السابقة، أي التي انتهى حضورها من أمام الحواس، أثناء تلقي حدوس لاحقة إلى
ملكة مختصة بذلك هي المخيلة الترانسندنتالية. لم يكن كانط يستطيع أن يعلن
عن هذه الملكة في بداية كتابه لأن مبرر وجودها لم يكن قد تأسس بعد، أما
عندما بدأ كانط في تناول العلاقة بين الحدس الحسي والفهم الخالص فقد ظهرت
بذلك ضرورة وجود ملكة ثالثة تتوسط بينهما، ملكة لا هي بالحسية تماماً ولا
هي بالعقلية تماماً، بل تعمل كوسيط بينهما وذلك بأن تنقل الحدوس الحسية إلى
مستوى التصورات المجردة.
كان الفلاسفة قبل كانط يعتقدون في مصدرين
للمعرفة: الحس والعقل. صحيح أن البعض منهم قد لاحظ دور الخيال في التفكير
والتذكر ورسم صورة ذهنية عن الإدراكات الحسية مثل لايبنتز وهيوم، إلا أن
الخيال لم يكن مصدراً أساسياً للمعرفة عندهم، وكان دوره مساعداً وحسب.
فماذا كانت مبررات كانط لجعل المخيلة مصدراً ثالثاً مستقلاً للمعرفة بجانب
الحس والفهم؟ انقسم الفلاسفة قبل كانط إلى معسكرين، تجريبي ويضم لوك وهيوم
والماديين الفرنسيين والذي يذهب إلى أن الحس وحده هو مصدر المعرفة وما
العقل
إلا تابعاً له ويقتصر دوره على تجريد التصورات العامة من بيانات
الحواس، ومعسكر عقلي يضم ديكارت ولايبنتز وفولف ويذهب إلى أن العقل وحده هو
مصدر المعرفة وما الحس نفسه سوى قدرة من قدرات العقل، أو هو العقل نفسه في
نمط حسي. ويحل كانط هذا النزاع حول مصدر المعرفة بكشفه عن تلك الملكة
الثالثة التي تتوسط بينهما. ويطلق كانط على الفلاسفة التجريبيين اسم
"السيكولوجيون" لأنهم عالجوا المعرفة من جهة تأثر الحواس بالموضوعات،
ونظروا إلى الأفعال المعرفية على أنها استجابة سيكولوجية لمثيرات تأتي من
انطباعات الأشياء على الحواس. ويذهب كانط إلى أن هؤلاء لم يتمكنوا من
اكتشاف ملكة المخيلة لأنهم اعتقدوا أن وظيفة التركيب بين الحدوس الحسية
يقوم بها الحس بما أن التركيب يظهر جاهزاً ومكتملاً فيها؛ لكن قبل أن تظهر
الموضوعات مركبة من حدوس جزئية في الحس يجب أن يكون هناك فعل تركيبي سابق
مختصة به ملكة خاصة ليست هي الحس نفسه:
"فشل السيكولوجيون حتى الآن في
إدراك أن المخيلة مكون ضروري للإدراك الحسي نفسه. ويرجع بعض السبب في ذلك
إلى أن ملكة الفهم قد قُيدت بوظيفة إعادة إنتاج الموضوع [في الذاكرة] فقط،
ويرجع البعض الآخر إلى الاعتقاد في أن الحواس لا تمدنا بالانطباعات وحسب بل
وتدمج بينها أيضاً كي تولد صوراً عن الموضوعات. لكن لأجل هذا الغرض فإن
شيئاً ما أكثر من القدرة على تلقي الانطباعات يُحتاج إليه لا شك، أي وظيفة
للتركيب بينها" (A121).
هذه الوظيفة هي التي تقوم بها ملكة المخيلة. إن
نقد كانط لسابقيه فحواه أن هؤلاء قد وزعوا وظيفة المخيلة على الحس والفهم
ونزعوا إلى اختزال دورها عبر هاتين الملكتين ولم يدركوا تميز وظيفة التركيب
التي تقوم به والتي تتطلب ملكة خاصة. إن الحواس لا تعطينا سوى انطباعات عن
الأشياء، أما وظيفة التركيب بين هذه الانطباعات لإنتاج تمثلات للأشياء فهي
من عمل المخيلة، فعلى الرغم من أن التمثلات الحسية تظهر للحواس، إلا أن
الحواس ليست مصدرها. قبل أن تظهر الموضوعات باعتبارها منتمية إلى المقولات
في ملكة الفهم، تظهر باعتبارها صوراً للإدراك الحسي، وملكة المخيلة هي التي
تنظم موضوعات الحواس في صور قبل أن تنظمها ملكة الفهم في مقولات. هكذا
أثبت كانط ضرورة الفعل التركيبي للمخيلة على مستوى الإدراك الحسي نفسه.
لكن
هل المخيلة مرتبطة بالحس فقط؟ أليس لها ارتباط بملكة الفهم؟ بلى، ذلك لأن
من طبيعتها أن تتوسط بين الحس والفهم، وهي بذلك تحتوي على عنصر عقلي كما
تحتوي على عنصر حسي. ولأنها حلقة الوصل بينهما، فإن لها تأثيرها في الاثنين
وتمتد بفعلها عبر الاثنين( 17). للمخيلة دور في ملكة الحس لأنها تعمل على
تركيب الانطباعات الحسية معاً، وهي في نفس الوقت تقدم تمثلات عن الأشياء
لملكة الفهم، وهي التي تمد التصورات بالحدوس المناسبة لها، وهي من هذه
الجهة تمتد إلى ملكة الفهم. دورها الأول على المستوى الحسي هو دور متلقي
سلبي Receptive، ودورها الثاني على مستوى الفهم دور إيجابي فعال يسميه كانط
القدرة التلقائية Spontaneity.
ولا يقتصر دور المخيلة الترانسندنتالية
على ذلك، بل إن لها دور أخطر، وهذا هو الذي يشرحه كانط في الفصل المعنون
"إسكيمات التصورات الخالصة للفهم" Schematismus der Reinen
Verstandesbegriffe / Schematism of the Pure Concepts of the
Understanding (A137/B176). رأينا كيف تتمثل وظيفة المخيلة في التوسط بين
الحس والفهم، وهذا الدور الوسيط يتضح بقوة في فصل الإسكيمات هذا. يذهب كانط
إلى أن التصور الخالص للفهم مجرد تماماً وقبلي وغير موجود في الحدوس
الحسية، ومن جهة أخرى فإن الحدوس الحسية خالية من أي تصور قبلي، فكيف إذن
يمكن للتصور أن ينطبق على الحدس الحسي وهما في مثل هذه الحالة من الاختلاف؟
يجب إذن أن توجد واسطة بينهما، أي علامة يدركها الفهم في الحسي كي يستطيع
أن يطبق عليه التصور المجرد أو المقولة القبلية. وهذه العلامة هي ما يسميه
كانط "الإسكيمة" Scheme( 18).
كي تستطيع التصورات الانطباق على الحدوس
الحسية يجب أن يكون هناك شئ مشترك بينهما، لا هو بالتصور ولا هو بالحدس
الحسي، وهذه هي الإسكيمة التي يمكن فهمها على أنها صورة ذهنية عن الموضوع
تماثل شكله أو هيئته. وكونها صورة فمعنى ذلك أن في الشئ المادي علامة تشكل
أساساً لهذه الصورة الذهنية. وعلى سبيل المثال فإن الدائرة باعتبارها
تصوراً رياضياً تقابل الصورة المادية للقرص (Ibid)، وهذه الصورة موجودة في
الأشياء باعتبارها سمة لها مثل قرص الشمس مثلاً. فلأن الأشياء تقدم لنا
أمثلة على القرص أو الشكل الدائري يستطيع الفهم التعامل مع تلك الأشياء حسب
التصور الرياضي للدائرة.
والحقيقة أن هذا الدور السابق للإسكيمة واضح
للغاية وسهل الاكتشاف كما يتضح من المثال، لكن المهمة الأصعب تتمثل في
العثور على إسكيمات للتصورات الأكثر تجريداً مثل الجوهر والسببية. ويحذرنا
كانط من الخلط بين الإسكيمة والصورة الحقيقية المادية للشئ، أي الهيئة أو
الشكل الذي يظهر به. فعند تفكيرنا في العدد "5" فمن السهل علينا تخيل خمس
نقاط (.....) لكن هذا التمثيل الذهني لنقاط خمس ليس هو الإسكيمة الخالصة،
ذلك لأننا في التفكير في عدد آخر مثل الألف لا يمكننا تخيل ألف نقطة في
أذهاننا (A140/B179)؛ وعلى الرغم من ذلك يكون لدينا تخيلاً عن الرقم
"1000"، تخيلاً بدون صورة مادية له. هذا التخيل الذهني هو ما يسميه كانط
الإسكيمة ويميزه عن صورة الشئ. كما أن المثلث باعتباره شكلاً مكوناً من
أضلاع ثلاثة يلتقي كل اثنين منهما صانعين ثلاث زوايا داخلية هو مثال آخر
للإسكيمة، ذلك لأننا لا نجد شكلاً لمثلث حقيقي في الطبيعة؛ بالإضافة إلى أن
فكرة المثلث، بصرف النظر عن نوعه، أي كونه قائم الزاوية أو منفرجها أو
متساوي الأضلاع… إلخ، هي مجرد إسكيمة، أي صورة خالصة مجردة تكون أنواع
المثلثات المختلفة أمثلة لها. معنى ذلك أن كانط ينظر إلى الأعداد والأشكال
الهندسية الأساسية على أنها إسكيمات، صور ذهنية خالصة ومجردة، بمعنى أنها
ليست صوراً لموضوعات حقيقية، إلا أنها في نفس الوقت مادية لأنها تشير إلى
حدس خالص بالكم أو بالمكان. إن العدد والشكل الهندسي يشكلان هذه المرتبة
الوسيطة بين الحس والفهم، والمخيلة هي المسئولة عن إنتاجهما في الذهن
باعتبارهما صوراً مادية وذهنية في نفس الوقت (A141-142/B180-181) ( 19).
ويبدأ كانط بعد أن حدد طبيعة الإسكيمات في تعيين إسكيمة لكل مقولة على النحو التالي:
1 - مقولات الكم:
إسكيمة
الكم هي العدد، ذلك لأن الكم نفسه تصور قبلي خالص، وكي ينطبق على الأشياء
يجب أن يوجد مفهوم وسيط يقرب بينهما، أي يجب أن يكون في الأشياء شئ يمكن
التعرف عليه باعتباره كما للشئ، وبالتالي فعندما نفكر في الكم يكون في
أذهاننا تصور عن العدد باعتباره كم الشئ. ويقول كانط عن العدد باعتباره
إسكيمة الكم أنه: "تمثل يضم الإضافة لوحدات متجانسة"، أي أن "العدد وحدة من
تركيب لمتنوع خاص بحدس متجانس، وهو وحدة Unity ناتجة عن توليدي للزمان
نفسه في إدراكي للحدس" (A143/B182). يريد كانط أن يقول إننا قادرين على
التفكير في الكم باعتباره عدداً، أي باعتباره وحدة من وحدات متماثلة
ومتجانسة. فإذا وزنت قطعة من الحجر ووجدت أنها تزن 10 كيلوجرامات فإن هذه
الـ 10 هي كمها؛ ومعنى ذلك أن الكم يتكون من مجموع وحدات متماثلة هي
الكيلوجرامات، توجد معاً في عدد معين في شئ واحد متجانسة معه. أما قوله إن
وحدة الكم "ناتجة عن توليدي للزمان نفسه في إدراكي للحدس" فمعناه أن إدراكي
للكيلوجرامات العشرة لا يعتمد على إدراكي لكل كيلوجرام منها على حدة
وإضافته للذي يليه كي أتوصل عن طريق الجمع إلى العشرة، بل يعتمد على إدراك
للمجموع دفعة واحدة وفي زمان واحد، لا بطريقة متتالية ولكن بطريقة متزامنة.
والزمان كشرط للإدراك ليس ضرورياً فيه أن يكون تعاقبياً Diachronic بل
يمكن أن يكون تزامنياً Synchronic، فالتزامن ليس إلغاء للزمان بل هو نمط
زماني أصلي.
2 - مقولات الكيف:
مقولة الواقع هي تصور قبلي عن حضور شئ
ما في الواقع الخارجي، وهذه المقولة تعتمد على إسكيمة يسميها كانط أيضاً
"إسكيمة الواقع" Schema der Realitat / Scheme of the Real، وهي حضور شئ
حسي في الزمان. ومقولة النفي Negation تعتمد على إسكيمة للنفي هي عدم حضور
شئ حسي في الزمان، "والمواجهة بينهما تعتمد بالتالي على التمييز في الزمان
الواحد نفسه بين كونه ممتلئاً وكونه خاوياً" (Ibid). ومعنى ذلك أن مقولتي
الواقع والنفي تعتمدان على قدرة المخيلة على تصور شئ ما باعتباره حاضراً أو
غائباً في زمن واحد. ونلاحظ هنا كيف أن مقولات الكيف مثل مقولات الكم
تعتمد على العنصر الزمني بوضوح، إذ يكشف كانط بذلك عن البنية الزمانية
للمعرفة والوعي الإنساني( 20).
3 - مقولات العلاقة:
أ - مقولة الجوهر:
لا
يمكن لمقولة الجوهر أن تنطبق على الأشياء ما لم تكن المخيلة قادرة على
تصور شئ واقعي يدوم في أزمنة مختلفة. وبذلك فإن إسكيمة الجوهر هي "دوام
الواقعي في الزمان". وإذا ربطنا بين إسكيمة الجوهر وإسكيمة الواقع نجد أن
إسكيمة الجوهر هي في حقيقتها دوام حضور الحسي في أزمة مختلفة وثباته عبر
هذه الأزمنة مع اختلاف تعيناته الأخرى التي تكون بالنسبة له أعراض. وبذلك
تكون مقولة الأعراض معتمدة على إسكيمة "تغير صفات الشئ الواحد في الزمان"
مع ثبات هذا الشئ نفسه عبر أزمنة مختلفة. ومعنى هذا أن العلاقة بين الجوهر
والأعراض زمانية، لأن العرض سيكون هو تغير تعينات الجوهر مع بقاء الجوهر
ثابتاً.
ب - مقولة السببية:
تعتمد على إسكيمة السبب، والتي هي:
"الواقعي
الذي إذا ما وُضع فإن شيئاً آخر يجب أن يتلوه دائماً. إنها تتمثل بالتالي
في التوالي.. طالما كان هذا التوالي خاضعاً لقاعدة" (A144/B183).
وهذه
القاعدة هي لزوم حضور شئ ما تابعاً للشئ الأول. ونلاحظ في إسكيمة السببية
نفس الطابع الزماني الذي سبق أن ظهر في المقولات السابقة، ذلك لأن إدراك
تبعية شئ لاحق لشئ سابق يعتمد على قدرة زمانية على التمييز بين السابق
واللاحق وكون هذا اللاحق ضروري الحضور إذا حضر السابق.
ج - مقولة الاشتراك Gemeinschaft /Community:
تعتمد
على إسكيمة التبادل Wechselwikung/Reciprocity، أي العلاقة المتبادلة، أو
"تواجد تعينات جوهر مع آخر في نفس الوقت" (A144/B184). مقولة الاشتراك هي
مقولة السببية المتبادلة أو التفاعل بين جوهرين لإنتاج أعراض واحدة في وقت
واحد. وتعتمد هذه الإسكيمة أيضاً على الوعي الزماني، ذلك لأن إدراك فعل
جوهر في آخر يعتمد على إدراكهما معاً في زمن واحد، وإدراك نتيجة التفاعل
بينهما يعتمد على تمييز زمن آخر لظهور هذه الأعراض الناتجة عن التفاعل.
4 - مقولات الجهة:
أ - إسكيمة الإمكان Moglichkeit /Possibility:
هي
حضور تمثلات مختلفة لشئ واحد في أزمنة مختلفة، حيث تعني مقولة الإمكان أن
صفة ما يمكن أن توجد ويمكن ألا توجد في زمن واحد، ذلك لأن حضورها الدائم في
أزمنة كثيرة غير ممكن. فالصفات المتناقضة لشئ واحد لا يمكن أن تحضر فيه في
زمان واحد، فالإنسان لا يمكن أن يكون طفلاً وشيخاً في نفس الوقت، ويكون
الاثنين في زمنين مختلفين. الإمكان هنا إذن هو إمكان أن يكون الإنسان طفلاً
وإمكان أن يكون شيخاً. وبالتالي فإسكيمة الإمكان هي عدم لزوم حضور تمثل
للشئ في كل زمان، بل إمكان هذا الحضور في جزء من الزمان.
ب - إسكيمة الواقعية Wirklichkeit / Reality:
هي
الوجود في زمان معين محدد. يكون الشئ واقعياً إذا أمكن للوعي إدراك حضوره
في زمن ما، فالحضور في الزمان ولو للحظة واحدة هو شرط واقعية أي شئ، بحيث
إذا لم يتمكن من الحضور ولو للحظة واحدة لن يكون واقعياً. ومعنى ذلك أن
إسكيمة الواقعية هي قدرة الوعي على التعرف على حضور شئ في الزمان.
ج - إسكيمة الضرورة الواقعية Notwendigkeit / Necissity:
هي
وجود موضوع ما في كل زمان. ذلك لأن الضروري هو اللازم وجوده في كل وقت
والذي يستحيل اختفاؤه من أي وقت. ومعنى ذلك أن إسكيمة الضرورة تنطوي على
تعيين زماني، ولا يمكن للوعي إدراك الضروري إلا لكونه حاصلاً على البعد
الزماني الذي يمكنه من التعرف على شئ موجود في كل الأوقات باعتباره
ضرورياً.
5 - ويؤكد كانط على الطابع الزماني للإسكيمات كلها ويركز شرح ارتباطها بالزمان بقوله:
هكذا
نجد أن إسكيمة كل مقولة تُمكّن من وجود تمثل معين عن تعين للزمان. إسكيمة
الكم هي توليد الزمان نفسه في إدراك موضوع ما. وإسكيمة الكيف هي.. ملئ
الزمان. وإسكيمة العلاقة هي وصل التمثلات ببعضها في كل الأزمنة وفقاً
لقواعد في تعيين الزمان. وأخيراً فإسكيمة الجهة وإسكيمات مقولاتها هي
الزمان نفسه باعتباره لزوماً للتعينات التي تحدد كيف ينتمي موضوع ما
للزمان. الإسكيمات إذن ليست إلا تعينات قبلية للزمان وفق قواعد. هذه
القواعد تتصل بالزمان باعتبارها تخص مسلسل الزمان (الكم)، ومحتوى الزمان
(الكيف)، ونظام الزمان (العلاقة)، وأخيراً نطاق الزمان (الجهة) بالنظر إلى
كل الموضوعات الممكنة (A145/B184).
والملاحظ أن كانط في هذا العرض
السابق لإسكيمات ملكة المخيلة الترانسندنتالية يرد المقولات إلى الإسكيمات،
وبذلك تظهر لنا لوحة ثالثة بعد لوحتي الأحكام والمقولات. ولقد سبق أن
رأينا في الفصل الأول كيف ينطلق كانط من لوحة الأحكام باعتبارها كاشفة عن
كل أشكال المعرفة الممكنة إلى رد تلك اللوحة إلى لوحة المقولات ورد كل حكم
إلي مقولة تعبر عن الوظيفة المعرفية للفهم. كما رأينا كيف يعالج كانط
التصورات على أنها وظائف منطقية في الحكم ووظائف معرفية في تنظيم الخبرة عن
طريق المقولات القبلية، وها هو الآن يرد المقولات ذاتها إلى الإسكيمات، أي
إلى صور ذهنية خالصة تتوسط بين المقولات من جهة والحدوس الحسية من جهة
أخرى. لم يصرح كانط بشئ يسمى لوحة الإسكيمات ولم يضع الإسكيمات ذاتها في
لوحة كما فعل مع الأحكام والمقولات، لكنه اقتصر على الربط بين كل مقولة وما
يقابلها من إسكيمة؛ وبناء على ذلك نستطيع تقديم لوحة تضم الأحكام
والمقولات والإسكيمات معاً لتوضيح العلاقة المترابطة بينهما على النحو
التالي:
الحكم المقولة الإسكيمة
الكم كلي
جزئي
مفرد الوحدة
الكثرة
الجملة العدد – توليد نفس الزمان آنياً
(تسلسل الزمان)
الكيف موجب
سالب
لا متناهي الواقع
النفي
الحصر حضور الشئ في الزمان
عدم حضور الشئ في الزمان
حضور الشئ في زمن محدد
(الدرجة: درجة حضور الشئ في الزمان، أو ملئ الزمان)
العلاقة حملي
شرطي متصل

شرطي منفصل الجوهر (الملازم والقوام)
السببية (السبب والمسبب)
الاشتراك (التسبب المتبادل) دوام الشئ في أزمنة مختلفة
حضور شئ ثان تابعاً لشئ أول لزوماً
تواجد تعينات جوهرين في زمن واحد (نظام الزمان)
الجهة احتمالي

إخباري
يقيني الإمكان


صورة الكاتب








 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)/2 « في: 23:22 07/02/2012 » 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2) /2 Index.php?action=dlattach;topic=558893
 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)/2 « في: 23:22 07/02/2012 » 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2) /2 Clip 4bc9251d-7fa2-4bc7-92f2-a0fa85a2df95[1].jpg (14.65 KB, 302x448 - شوهد 90 مرات.)
 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)/2 « في: 23:22 07/02/2012 » 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2) /2 Index.php?action=dlattach;topic=558893
 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)/2 « في: 23:22 07/02/2012 » 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2) /2 Clip imagesCAEL83CS.jpg (6.41 KB, 184x274 - شوهد 66 مرات.)
 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)/2 « في: 23:22 07/02/2012 » 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2) /2 Index.php?action=dlattach;topic=558893
 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)/2 « في: 23:22 07/02/2012 » 	 نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2) /2 Clip imagesCA7WM21A.jpg (7.69 KB, 221x228 - شوهد 65 مرات.)

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)/2 « في: 23:22 07/02/2012 » نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2) /2 :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2)/2 « في: 23:22 07/02/2012 » نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (2) /2

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق (1)
» دور المنطق الارسطي في بناء نظرية المعرفة
» مشكلة المعنى في المنطق بين نظرية التصور ونظرية الحكم
» عقائد الدين بين المعرفة النظرية والإيمان العملي: كانط أنموذجا
» العقل والذاتية في فلسفة الــحداثة من ديكارت إلـــــى كانط

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: