الإعلام العربي بين أوسلو ومقديشو …
مركز الراسات المعاصرة
2011-08-22
الأسبوع المنصرم شهد -ولا يزال- حدثين ضخمين سيسجلان في
سجلات هذا القرن (القرن الواحد والعشرين)؛ الأول يتعلق بمجاعة أهل الصومال،
والثاني الجريمة التي ارتكبها متطرف نرويجي بقتله العشرات من شبيبة الحزب
الحاكم بسبب خلفيته الأيديولوجية المتطرفة.
القضية الأولى كشفت عوار العرب والمسلمين، إذ أن مثل هذه القضية الحساسة لم
تجد مكانها اللائق والمناسب في الإعلام العربي، سواء الرسمي أو الخاص، وفي
المقابل سلطت الأضواء على أحداث النرويج، وتوالت التحليلات واللقاءات
والاستضافات.
تشكل الخلفيات الفكرية والسلوكية والأخلاقية سببا مباشرا
لتفسير هذه السياسة التي تقوم بها الفضائيات العربية التي بات تأثيرها على
الشارع العربي شبه مطلق، ويكشف عن حقيقة العلاقة الوجدانية والإنسانية التي
تربط المسؤولين عن هذه الفضائيات مع حاضره وحضارته، ومدى جدلية العلاقة مع
الآخر الأجنبي… وهذا من النوازل التي تعيشها أمتنا اليوم، إذ أنَّ الذين
يوجهون الأمة والشباب لا تربطهم عميق صلة مع حاضرهم وحضارتهم، وهم في
المعظم تعلموا وتربوا في المحاضن الغربية – علما أن الإعلام الغربي جعل
قضية الصومال ومجاعة شعبه في سلم أولويات طرحه الإعلامي.
لقد حاولت وسائل إعلام عربية إلكترونية أن تساوي بين الضحية والجلاد،
بأسلوب ذكي ومحترف في الحالة الصومالية، وأن تنزل جام غضبها على الشباب
المجاهدين "المتطرفين الطالبانيين"، ليستقر في ذهن المشاهد أو القارئ أو
المتصفح أنّ من بين الجائعين يخرج هؤلاء المتطرفون، فيما تسعى للتماثل مع
الشعب النرويجي وضحاياه، وهذا من أخس أنواع النفاق الإعلامي.
الحقيقة أننا أمة في خطر، فعندما تفقد الأمة حقيقة "أمة الجسد الواحد" فإن
مباضع الأعداء ستعمل فيه دون رحمة. ومنذ الاحتلال الذي ابتليت به الأمة –في
مطلع القرن السابق- وإلى هذه اللحظات تعمل مباضعهم في هذا الجسد الهش الذي
أثخنته الجراح.
نعم؛ ستصدر دعوات الاستغاثة، وحسنا فعلت الحركة الإسلامية في إعلانها حملة
إغاثة لشعب الصومال، وستصدر النداءات وتتوالى الخطب الرنانة التي ستبكي
المصلين، وستصدر الدراسات والأبحاث التي تكشف حجم الكارثة التي حلت بهذا
الشعب المسلم، وستكشف حجم ودور الجريمة التي ارتكبت في حق الصومال الذي
يدفع ثمن المحاصصات الدولية بخلفياتها الاقتصادية-السياسية-العقدية
بموروثاتها التاريخية، ولكن هذا كله لا يكفي، إذ لا بدَّ من إرادة سياسية
تنهي التشظي المعيب الذي بات الصومال يعيشه والحرب الطاحنة الدائرة بين
فصائل المجاهدين الإسلاميين، وإثيوبيا وإيطاليا وبريطانيا ترقب هذه الجائحة
والنازلة بهذا الشعب المسكين لتحول صحاريه إلى مكبات للنفايات النووية
وتسرق خيراته الطبيعية كاليورانيوم، والإحيائية كالأسماك والثروة الحيوانية
(تعتبر الصومال من أكثر دول العالم غناء بالثروة السمكية)….. فجوع الصومال
بادئ الأمر وإن ارتبط بالجفاف الذي يعتور البلاد جاء بعد أن اختلف أهل
الملة الواحدة بعضهم على بعض واستبيحت الدماء وسفكت تحت مبررات هجينة
تذكرنا بحجم الجرائم التي ارتكبت في الجزائر، والغارقة في الرؤية التاريخية
والمتلبسة بثنائية الولاء والبراء والكفر والإيمان تارة وتحت مبررات
سياسية وكسبية وقتية تارة أخرى، وكلها تخضع لأجندات إقليمية تريد تفكيك
القرن الإفريقي ودوام سيطرة إثيوبيا -هيلا سيلاسي- على القرن الإفريقي عبر
بوابة تفكيك دوله ابتداء بالصومال وإنهاء إمكانية أن يكون قابلا مستقبلا
لبناء دولة.
إنها مفارقات تصل حد التناقض؛ أن يهتم الإعلام العربي المُفَضْأن
والإلكتروني بأحداث النرويج إلى حد التماثل مع الضحايا -وهذا مطلوب ومبرر
ومفهوم- وأن تكون تقاريره في الوقت ذاته تجاه الصومال وما يدور فيها مشوهة
إلى حد الاشمئزاز ورمي المسؤولية الأخلاقية على الأوروبي والأمم المتحدة..
ولئن كانت أحداث أوسلو قد كشفت عن حجم النفسيات الخبيثة التي تقود إعلامنا
العربي المعاصر، كما هو حال صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية وسقطاتها
المتعمدة في قراءاتها المشوهة عمدا لأحداث أوسلو وزجها للمجاهدين الأفغان
في تلكم الأحداث، ومتابعاتها المشوهة للحالة الصومالية، وإبراز الوجه
السلطاني العربي المساعد والمغيث للجوعى الصوماليين، وهنا تكمن مفارقة أخرى
تكشف دناءة الوجه العربي الحاكم الذي سقط سياسيا وأخلاقيا منذ زمن، ولكنه
يؤكد عمق هذا السقوط؛ إذ تلعب حسابات السلطان وبقاؤه على العرش دورا فاصلا
في مساعدة من ستكون مساعدته مفيدة له شخصا وزعيما وتمسكا أكثر بالسلطة، ممن
ستكون مساعدته مجرد إجراءات سلطانية.
وقد عبرت المملكة العربية السعودية بوضوح عن هذا الخلل الأخلاقي-السياسي في
المقارنة بين مساعداتها للصومال والأردن (50 مليون دولار من السعودية
للصومال المنكوب والجائع، مع أن الصومال يحتاج إلى 1,8 مليار دولار…. مقابل
1,3 مليار دولار للأردن كمساعدات في ظل التحسب للهيب الثورة والاحتجاجات
الدائمة في الأردن، التي تنذر بتحولات جذرية ستترك صداها بالقطع على
السعودية…. علما أن ثروات بعض نساء الخليج تجاوزت الـ350 مليار دولار وفقا
لبعض المصادر).. فإن هذا النفاق الإعلامي هو جزء من الواقع العربي
والإسلامي الهش. وقد بات واضحا ضرورة إعادة النظر في المؤسسات الإقليمية
وحوكمتها إلى منظومات جديدة تلائم الواقع المعاش سياسة ومستقبلا، وعلى رأس
هذه المؤسسات الإقليمية، جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي،
التي للصومال عضوية فيهما.
لعل الصومال ومجاعة شعبها وتفكك دولتها تكون الدرس الذي على العرب أن
يتعلموه قبل أن يقال: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض، ورحم الله من قال:
"عجبت لمن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج للناس شاهرًا سيفه".