يشكك الكثيرون في مدي أهمية الإعلام الرقمي وقيمته المضافة في الحياة
السياسية العربية، وفي مدي إفادته للحراك المجتمعي. وحجة هؤلاء قائمة علي
أن مجرد الابتكارات في مجال تكنولوجيا الاتصالات في حد ذاتها لا يعني
بالضرورة إحداث فرق إلا إذا كانت هناك مشكلة قائمة وتحتاج لحل في المقام
الأول. ومن هنا، يطرح البعض تساؤلا واضحا هو: كيف حدثت الثورات الاجتماعية
والحراك السياسي في عصر ما قبل الإنترنت؟.
يحاجج بعض من تصدوا للإجابة علي هذا السؤال بأن من الأفضل النظر إلي ما
أحدثته هذه الوسائط الجديدة من أثر غير متوقع علي الحراك السياسي، ليس بسبب
ظهورها في حد ذاته، بل في تمكنها من تغيير الطبيعة التنافسية في الحياة
السياسية بإدخال عناصر وقوي كانت مستبعدة قبل ابتكار هذه الوسائط .
فالإنترنت سمح للاعبين جدد بالدخول في اللعبة السياسية، ولكن عن طريق
قواعد مختلفة لم تكن متضمنة في سلة الأهداف التي وضعها مبتكروها. السؤال
بهذا المعني يصبح: كيف تعمل اللعبة الجديدة؟. وكيف يستطيع "داود (المستضعف،
أي الفئات المجتمعية غير الممثلة سياسيا) التغلب علي جالوت (القوي والقائم
بزمام الأمور بالمحافظة علي موازين القوي الراهنة، أي الحكومات والانظمة
السياسية)؟.
استعرت هذا السؤال من نقاش دار بين المحللين السياسيين: مالكولم جلادول وكلاي شيركي، علي صفحات مجلة Foreign Affairs.
ويمكن تبسيط هذا السؤال الكبير بالصورة التالية: هل تسمح وسائل الاعلام
الاجتماعية لرواد السياسة الجدد بخلق استراتيجيات جديدة؟،وهل لتلك
الاستراتيجيات أي أهمية عملية؟.
من خلال المناظرة المشار إليها، نجد أن كلاي شيركي أكد أن هناك ما لا يقل
عن خمس وقائع تاريخية حدثت في العقد الماضي، تشبه سياق الثورات العربية
الراهنة التي وقعت أخيرا في 2011، وتؤكد هذه الأمثلة حجم الدور الذي لعبته
وسائل الإعلام الرقمية ووسائل الاعلام الاجتماعية الجديدة فيها. فعلي سبيل
المثال، استخدم أنصار رئيس الوزراء الإسباني، خوسيه لويس ثاباتيرو، الرسائل
القصيرة علي الهتافات المحمولة لتنسيق عملية الإطاحة بحزب الشعب في أربعة
أيام في عام 4002، والأمثلة المشابهة كثيرة ليس فقط في أوروبا، ولكن العديد
من الأحداث المماثلة وقعت في آسيا أيضا.
ولكن هذا لا يعني أن توافر هذه الأداة في حد ذاتها كفيل بإنجاح الحركات
الاحتجاجية أو الثورات بشكل مؤكد، حيث يمكن لرد الفعل من الحكومات التي
تواجه مثل هذه الاحتجاجات أن يغير من النتائج، مثلما تبين الحالة الليبية
في الوقت الراهن.
فقد كان استعداد القذافي للوصول بالبلاد إلي حالة الحرب الأهلية واستخدام
القوة المفرطة لقمع الاحتجاجات سببا في تأخير الحسم هناك في ليبيا، خلافا
للحالتين التونسية والمصرية اللتين لم تشهدا ردا من جانب الأنظمة الحاكمة
فيهما، يقترب ولو قليلا من رد فعل نظام القذافي. وهو أمر يطرح تساؤلا حول
كيفية إحداث التوازن مستقبلا بين القدرة التعبوية للجماهير وحجم رد الفعل
المحتمل من النظم الحاكمة علي مثل هذا التحدي
أثر وسائل التعبير المستقبلية: لن نتوقف هنا عند بحث دور الإعلام الجديد (الميديا الجديدة) في تنشيط الحراك السياسي،
بل سنطرح أيضا أسئلة من نوع: 1- هل هناك حاجة لتنسيق أفضل فيما بين الأفراد والجماعات المحتمل التحاقها
بالعمل السياسي، من خلال القنوات التقليدية (النقابات والأحزاب مثلا) إثر
الثوارات العربية الحالية بشكل عام، وفي مصر بشكل خاص?
2- كيف تؤثر وسائل التعبير الرقمي التي لم توظف بعد بشكل واسع النطاق في الواقعين العربي عامة والمصري بشكل خاص؟.
فيما يتعلق بالسؤال الأول، فإن ارتفاع نسبة الشرائح السنية الأصغر (15 -
30 عاما) بين مستخدمي الإنترنت، مقارنة بتدني استخدام الشرائح الأكبر عمرا
لهذا الوسيط نفسه، وفي المقابل ضعف مشاركة الشريحة الأولي في مؤسسات العمل
السياسي والعام وارتفاع نسبة إسهام الشريحةالثانية فيه، قد أوجد وضعا
ملتبسا، حيث فصل الأجيال بعضها عن بعض، مما قلص ولاية وتسلط الأجيال الأكبر
سنا علي الأجيال الأصغر من ناحية، وزاد في الوقت نفسه من الشعور بالعزلة
والتهميش من جانب الأجيال الأصغر سنا.
وقد خلق هذا الأمر صراعا حادا بين الجيلين، وأدي إلي تشتيت قوة الإعلام
التقليدي والجديد معا، وإضفاء حالة من الشك في محتوي ومضمون وأهداف الرسالة
الإعلامية لكليهما. وحتي المصالحة النسبية بين الطرفين، والتي تمثلت في
اهتمام الإعلام التقليدي بتتبع ونشر بعض إنتاج مستخدمي الإعلام الجديد، أو
قيام الأخير بنشر وتوزيع بعض مقالات الرأي والحوارات التي تنشر في الوسائط
التقليدية علي مواقعهم ومدوناتهم، لم تخلق في النهاية إمكانية للتنسيق بين
الطرفين في إطار أهداف متفق عليها.
غير أن الاعتراف الواضح بأن الإعلام الجديد هو من خلق الثورات الحالية
ربما يؤدي مستقبلا إلي تحسن القدرة التنسيقية بين الجانبين، بما ينعكس
إيجابا علي عملية المصالحة المطلوبة الآن بين الشباب والمؤسسات التقليدية
للعمل السياسي.
أما البحث عن إجابة السؤال الثاني، فيكمن أولا في الكشف عن سياسة النظم
الحاكمة العربية حيال مستخدمي الوسائط الجديدة لمعرفة كيف ستكون العلاقة
مستقبلا بين هذه النظم والأجيال القادمة التي ستتعرض لمزيد من التأثر
بالابتكارات التقنية والمعرفية المرتبطة بهذه الوسائط.
تصورات الحكومات لمستخدمي أدوات التعبير الرقمي: إن عمليات الاعتقال والحبس والمضايقات التي كثيرا ما طالت المدونين (أو
كما يطلق عليهم بعض المتخصصين: صانعي الصحافة الشعبية الرقمية)، أو بشكل
أشمل مستخدمي الإعلام الجديد غير الحكومي المعبرين عن آرائهم السياسية في
مصر والعالم العربي، كثيرا ما أوحت بأن لهؤلاء الشباب الناشطين أثرا متخيلا
وملموسا قد يؤدي إلي توترات ومصادمات في الشارع ، وهو تصور يتناقض مع
التقويمات التي ظلت قائمة خلال السنوات الخمس الماضية عن الإعلام الجديد،
ووسائل التعبير الرقمي التي شككت في وجود ديناميكية لنقل الحشد في الفضاء
الافتراضي إلي الشارع بنفس زخمه وقوته.
وجاءت عملية إتاحة المعلومات المحجوبة عن وسائل الإعلام الرسمية
والتقليدية لقطاع كبير من أبناء المجتمعات العربية علي وجه العموم، ومصر
علي وجه الخصوص، لتشي بأن فرصة تأثيرهم السياسي قد تكون كبيرة مستقبلا.
وتمت تجربة ذلك بالدعوة للوقفات الاحتجاجية بين الحين والآخر علي المواقع
التفاعلية التي أصبحت متنفسا لشرائح سنية واجتماعية عانت التهميش والتجاهل
طويلا.
تحركت الحكومات العربية في مواجهة مثل هذه الدعوات، التي لم تترجم غالبا لتحركات فعلية وواسعة إلا في حالات قليلة جدا،
بوسائل وأدوات أمنية بحتة: 1- ملاحقة المدونين وتقديم بعضهم للمحاكمة.
2- منع المدونين من السفر لحضور مؤتمرات عالمية وإقليمية تناقش علي
أجندتها استراتيجيات التحايل لتفادي الرقابة الأمنية علي وسائل التعبير
الرقمي.
3- الدخول إلي المواقع التفاعلية من خلال نشطاء أمنيين يتولون التشويش علي الأفكار التي يتم تداولها من خلالها.
وتمثل مدونات النشطاء أنفسهم سجلا لمعظم المضايقات التي تعرضوا لها. ولا
يكتفي المدونون بذلك، بل ينشرون أيضا ما يتعرض له أقرانهم في بلدان أخري من
ممارسات شبيهة. فعلي سبيل المثال، يمكن تتبع الحملات المنسقة بين أكثر
المدونات السياسية تأثيرا في العالم العربي، مثل مدونة نورة يونس، ووائل
عباس، وأحمد عبد الفتاح (من الإخوان المسلمين في مصر) ومدونة منال وعلاء
والمدونة المصرية، والمدونة السودانية كيزي شوكت، صاحبة مدونة "لا قبيلة
لي"، والمدون السوري محمد عبد الله، صاحب مدونة "رايح ومش راجع"، ومدونة
سامي بن غربية التونسي، ومدونة "كلنا ليلة"...وغيرها.
وقد جذب نجاح هذه المدونات قطاعا أكبر من الشباب لاستخدام مثل هذه الوسائل
في توصيل أصواتهم إلي عالم أكثر رحابة وتعاطفا. كما كونت المدونات انطباعا
إيجابيا عن أن من يستخدمها ويعبر من خلالها عن رأيه هو في حد ذاته مؤثر،
علي الرغم من عدم وجود أي وسيلة قياس فعالة لحدود هذا التأثير واقعيا، إلا
بعد قيام الثورات المتتالية في عدد من الدول العربية، والتي نسب نجاحها إلي
القدرة التعبوية الهائلة لهذه الوسائط.
تقنيات جديدة علي الطريق: بدأت الثورة في تطور الوسائل الإعلامية الاجتماعية فقط في بداية العقد
الماضي (سنة 2000)، عندما أخذ علي عاتق مطوري البرمجيات والمتخصصين في
الأدوات الرقمية تطوير برامج وتطبيقات شبكة الإنترنت من خلال مفهوم ال- 'web 2.0'.
غير أن سرعة تطوير هذه البرامج والتطبيقات الذكية التي تتيح حدا لا نهاية
له من المعلومات فاقت السرعة والقدرة الاستيعابية لتطبيق مثل هذه البرمجيات
في معظم الدول العربية. ويرجع هذا إلي سببين، أولهما هو أن الحكومات
العربية لم تسرع بإدخال خدمات الإنترنت إلي بلدانها فور ظهوره في مطلع
التسعينيات، وبالتالي لم يكن هناك استجابة لتطوراته أولا بأول. فعلي سبيل
المثال، في مصر (كما هو الحال في دول عربية أخري)، لم تقم الحكومات بإتاحة
خدمات الإنترنت بتكلفة مقبولة من شرائح الطبقة الوسطي إلا في سنة 2002 .
لكن في الوقت نفسه، لا تعد تلك المشكلة عائقا طويل الأمد، حيث يمكن تدارك
هذا الوضع في زمن قياسي، بعد أن برهنت تقنيات الثورة الرقمية علي فائدتها
بعد الثورات العربية الأخيرة. إذ ستؤدي الأوضاع الجديدة إلي تدفق أعداد
أكبر لاستخدام هذه التقنيات لتسد الفجوة التينشأت نتيجة التأخر في التعامل
معها في السابق. كما أن التقنيات الأكثر حداثة وغير المعروفة علي نطاق واسع
حتي الآن ستلعب دورا بالغ الأهمية في تحقيق الهدف ذاته.
وعلي سبيل المثال، تعد تقنية ال- Bookmarking وسيلة
لفتح نقاشات موسعة حول قضية ما أو للتحضير لحملة دعائية في أي مجال. كذلك،
يعد برنامج ديلشوس هو أحد تطبيقات التعليم علي الويب عن طريق ال-bookmarking' .ومن
المتوقع أن تكون النتيجة الأبرز لمثل هذه التطبيقات هي تغير المفاهيم
والمعايير القديمة في الممارسة السياسة. فمن المرجح أن تتم إعادة هيكلة
العلاقة، مثلا، بين الناشط المحترف والمثقف لمصلحة الأول علي غير العادة.
فعلي مدي عقود، ظل ميزان القوة يميل لصالح المثقف، سواء علي مستوي المراتب
التنظيمية الرسمية، أو علي مستوي الممارسة اليومية. في حين كان موقع
القادمين إلي التنظيم السياسي بالاعتماد علي خبراتهم الكفاحية المتراكمة في
أحد مجالات العمل المدني خاضعا للتوظيف في سيبل تحقيق أحد الأهداف
السياسية السامية، والتي لم يكن هؤلاء يسهمون كثيرا في صياغتها. وظل المثقف
هو الوحيد القادر علي فك شفرات هذا العصر بحكم صلاته بدوائر صناعة الفكر
والقرار في المركز المديني، بينما الناشط المحترف معزول يتحرك في أوساط
شديدة المحلية، وبالتالي لا يمكن أن يطور خبرة تنظيمية مركبة.
أما الآن، فالعكس تماما هو الحادث. الجامعة التي يتوافد منها هؤلاء الشباب
علي الساحة السياسية المصرية والعربية هي الساحة الأكثر تعرضا لآثار ثورة
الاتصالات والانفتاح علي الاقتصاد العالمي، وطلابها هم الأكثر تمثلا
للخبرات العالمية في مجالات التنظيم والتمويل. في حين أصبح المثقف الوطني
التقليدي معزولا عن أية خبرة تنظيمية مركبة علي الصعيد الوطني أو المحلي،
ناهيك عن مهارات الاتصال والتعاون العابرين للحدود.