. الراجعون للخلق وغير الراجعين
إن
الحديث عن الفناء يقودنا إلى البحث في مشكلة ذات طابع نفسي واجتماعي، حيث تصوَّر
بعضُهم أن ذلك المقام الذي يدعو إليه الصوفية هو حالة مرضية سلبية تؤدي إلى العزلة
والانسحاب من الحياة الاجتماعية، فضلاً عن مخاطرها الأخلاقية[102].
غير أن ابن عربي أكَّد، كغيره من الصوفية، أن مقام الفناء مرحلة عرفانية
ضرورية يتطلَّبها السلوك: إذ "لا بدَّ لمن أراد أن يعرف مراتب الوجود أن يدخل
إليها؛ وفي الدخول فيها حلٌّ لتركيبه، وفناءٌ عن ذاته، حيث إن كلَّ مرتبة وجودية
تطلب مناسبتها منه، إلى أن ينتهي إلى رتبة الحق. ثمَّ لا بدَّ له بعد ذلك أن يرجع
إلى البقاء وقد أحاط بالحقائق علمًا"[103].
فالفناء، إذن، ليس نهاية معراج الصوفي حتى نقول إنه انسحب بسببه من الحياة وانعزل
عن المجتمع، وإنما هو فترة مؤقتة يتطلبها السلوك، ولا بدَّ أن يكون بعده ما يُسمَّى
بـ"مقام البقاء"؛ و"كل فناء لا يعطي بقاءً لا يعوَّل عليه"[104]
لأنه حالة ناقصة. ولذا اختلفت أحوال السالكين: فمنهم الراجعون إلى مقام البقاء بعد
الانمحاق في الفناء، ومنهم غير الراجعين:
أ.
فغير الراجعين من السالكين "عباد فاجأهم الحق على غفلة منهم، دون أن يكون لهم
استعداد لما تجلَّى به عليهم، فأخذهم إليه وذهب بعقولهم في الذاهبين، ولم يردهم إلى
العالم وشغلهم به"[105]،
و"أبقى عليهم ذلك الأمر الذي فاجأهم مشهودًا له فهاموا فيه، ومضوا معه، فبقوا في
عالم الشهادة بأرواحهم الحيوانية يأكلون ويشربون ويتصرفون في ضروراتهم الحيوانية
تصرف الحيوان المفطور على العلم بمنافعه المحسوسة ومضاره، من غير تدبير ولا روية
ولا فكر، فينطقون بالحكمة ولا علم لهم بها، ولا يقصدون في ذلك نفع الناس". أما
التكليف فقد سقط عنهم؛ إذ ليس لهم عقول يفقهون بها. وهؤلاء يطلق عليهم ابن عربي اسم
"البهاليل" أو "عقلاء المجانين"، لأن "جنونهم لم ينجم عن فساد مزاج، وإنما كان عن
تجلٍّ إلهي لقلوبهم وفجأة من فجآت الحق"[106].
ومتى ما عاد للواحد منهم عقلُه، وصحا من سكره، عاد إلى التكليف من حينه ولازم
الآداب الشرعية[107].
ب.
الراجعون للخلق: يؤكد ابن عربي أن هذا النوع السابق معذور في أحواله، ولا تكليف
عليه مادام في تلك الحال، لكنه غير كامل ولا يصلح للتربية الصوفية: إذ إن كمال
الوارث النبوي الرسالي في الرجوع إلى الخلق[108]
ودلالاتهم على الله وإرشادهم. و"من أُبقِيَ عليه عقلُه كان عند القوم أتم وأعلى"[109].
وهذا ما يتصف به كُمَّل السالكين الذين عادوا على مقام البقاء، فلا يحجبهم حق عن
خلق ولا خلقٌ عن حق، فيشاهدون الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة. وذلك أكمل
الشهود، كما مرَّ بنا. وهؤلاء الراجعون على مراتب، وكل واحد منهم، إذا رُدَّ إلى
الخلق بالإرشاد والهداية، لا يتعدى ذوقُه في أي مرتبة كان[110].
وقد
تحدث ابن عربي عن مقام بلغَه، ففني فيه عن نفسه، لكنه لم ينتهك فيه حرمةَ الشريعة
ولا أخلَّ بشيء من فروضها – وتلك حال قلما تحدث للسالكين –، فقال:
ولقد ذقت هذا المقام، ومرَّ عليَّ وقتٌ أؤدي فيه الصلوات الخمس إمامًا بالجماعة،
على ما قيل لي، بإتمام الركوع والسجود وجميع أحوال الصلاة من أفعال وأقوال، وأنا في
هذا كلِّه لا علم لي بذلك، لا بالجماعة ولا بالمحلِّ ولا بالحال ولا بشيء من عالم
الحسِّ، لشهودٍ غَلَبَ عليَّ، غبت فيه عني وعن غيري. وأُخبِرْتُ أني كنت، إذا دخل
وقتُ الصلاة، أقيم الصلاة وأصلِّي بالناس، فكان حالي كالحركات الواقعة من النائم
ولا علم له بذلك. فعلمت أن الله حفظ عليَّ وقتي ولم يَجْرِ على لساني ذنب.
[...] إلا أني كنت في أوقات حال غيبتي أشاهد ذاتي في النور الأعم والتجلِّي
الأعظم بالعرش العظيم يصلِّي بها، وأنا عري عن الحركة بمعزل عن نفسي، وأشاهدها بين
يديه راكعةً وساجدة، وأنا أعلم أني أنا ذلك الراكع الساجد كرؤية النائم، واليد في
ناصيتي. وكنت أتعجب من ذلك وأعلم أن ذلك ليس غيري ولا هو أنا.[111]
8. ضرورة التكامل بين الشريعة والحقيقة عند ابن عربي
لقد
كان ابن عربي حريصًا على المحافظة على الشريعة في نفسه، وفي تربيته لمريديه، تشهد
بذلك سيرتُه وأفكارُه التي ضمَّنها كتبَه. فهو يؤكد على أن الشريعة أصل والحقيقة
فرع عنها؛ بل لا يمكن الحديث عن الحقيقة في غياب الشريعة. ولذلك انتقد في شدة مَن
يذهب إلى الفصل بينهما، فقال:
تخيَّلَ مَن لا يعرف أن الشريعة تخالف الحقيقة. وهيهات لما تخيلوه! بل الحقيقة عينُ
الشريعة. فإن الشريعة جسم وروح: فجسمها علم الأحكام، وروحها الحقيقة. فما ثمَّ إلا
شرع.[112]
وقد
كان حريصًا على بناء فلسفة أخلاقية إسلامية محضة، مُفادها وضع الأخلاق في محالِّها
بمراعاة رضا الخالق، لا رضا الناس. إذ ليس في وسع الإنسان، لا عقلاً ولا عادةً، أن
يسَعَ الناسَ بمكارم أخلاقه، لأن أغراضهم وإراداتهم مختلفة ومتضادة. فتعيَّن عليه،
خاصةً إذا كان صوفيًّا، أن يترك هوى نفسه، ويرجع إلى خالقه، ويتَّبع مراضيه، ويقف
عند حدوده ومراسمه. فإذا استطاع أن يفعل ذلك، فقد حقَّق مقامًا عظيمًا يدعى "مقام
الفتوة"[113].
ففلسفة الأخلاق تقوم عنده على الحكمة الشرعية، إلى غاية أن معاملة الناس بالأخلاق
تقتضي وضعها في مواضعها، كما نصَّ عليها الشرعُ الحنيف، لا كما يقتضيه هوى الإنسان.
لذا يحتاج الصوفي إلى علم كبير، حتى يضع كلَّ خلق في محلِّه الذي يليق به عن أمر
الله، فيكون ذلك قربة له إلى الله: فلأجل هذا تنزَّلت الشرائع لتبيِّن للناس محالَّ
أحكام الأخلاق. مثال ذلك قول الله تعالى: "فلا تخافوهم" (آل عمران 175)، فأبان عن
المحلِّ الذي ينبغي أن لا يظهر فيه خلق الخوف، ثم قال: "وخافونِ"، فأبان لهم أين
ينبغي أن يظهر حكمُ هذه الصفة:
[...]
وكذلك سائر الأخلاق، أبان الله لنا حيث نُظهِرها وحيث نمنعها. فإنه من المحال
إزالتها عن هذه النشأة إلا بزوالها، لأنها عينها، والشيء لا يفارق نفسه.[114]
وفي
إحدى رسائله، يقدم ابن عربي جملةً من الحكم التربوية للسالكين، يحذِّرهم فيها من
مغبة البعد عن الشريعة، منبهًا إياهم أن كلَّ سلوك غير مستند على الشرع الإسلامي هو
سلوك مرفوض ولا يعوَّل عليه في طريق التصوف. يقول في ذلك:
-
خرق
العوائد والمزيد من الفوائد، مع استصحاب المخالفات، لا يعوَّل عليه.[115]
-
كل علم
من طريق الكشف
[...]
أو حقيقة تخالف شريعةً متواترةً لا يعوَّل عليه.[116]
-
كل خرق
عادة يكون عن استقامة أو يُنتِج استقامة فهي كرامة، وإلا فلا يعوَّل عليها.[117]
-
التصوف
بغير خُلُق لا يعوَّل عليه.[118]
-
نظر
الخلق بعين الحق مع التسليم لا يعوَّل عليه.[119]
-
التسليم الذي يخرج عن مراعاة الحدود لا يعوَّل عليه.[120]
فبهذه الفلسفة التربوية كان ابن عربي يربِّي مريديه. ومما لا شك فيه أن الفحص عن
هذه القواعد، وعن غيرها، يجعلنا ندرك حجم الخطأ الذي يقع فيه بعضُ الدارسين حينما
يتسرعون في الحكم على ابن عربي و يذهبون إلى حدِّ القول بأن الطاعة والمعصية ليس
لهما مدلول حقيقي في مذهبه[121]،
وبأنه لا وجود لأية أخلاق على أساس من الشريعة في نظريته[122].
لقد أنشد ابن عربي:
ما نال
مَن جعل الشريعةَ جانبًا شيئًا، ولو بلغ السماءَ منارُه[123]
فهل
بعد هذا الإقرار من تعليق؟!
9. فكرة "الأعيان الثابتة" وعلاقتها بالمشكل الأخلاقي
إن
"الأعيان الثابتة"، في نظر ابن عربي ومن نحا نحوه، تعني "حقائق الممكنات في علم
الحق تعالى"[124]،
وتُسمَّى، في اصطلاح المحقِّقين من الصوفية، "أعيانًا ثابتة" و"استعدادات" و"حقائق
علمية"[125]،
وباصطلاح الحكماء "ماهيات"، وباصطلاح الأصوليين "معدومات" و"أشياء ثابتة"[126].
وعلى هذا الأساس، يكون كل ما يحدث في العالم مبرمَجًا برمجةً مسبقة؛ وما يحدث
للإنسان وما يصدر عنه ما هو إلا نتائج "عينه الثابتة" في الحقيقة الأزلية، لأن
"ماهيات" الموجودات أو "الأعيان الثابتة" موجودة منذ الأزل في العقل الإلهي، ولأنها
هي الحق، لا غيره، ولأن ظهورها على مسرح الوجود معناه ظهور الذات الإلهية الواحدة
في مجلى الوجود الخارجي، حسبما تقتضيه طبيعة الأعيان[127].
وهذا معنى ما قاله ابن عربي: "ما كنت به في ثبوتك ظهرتَ به في وجودك."[128]
وهنا نتساءل: هل إن ابن عربي بذلك يقرِّر "جبرية" صارمة تحكم الوجود؟ وبأي شكل
نتكلم على "تربية صوفية" في غياب حرية الإنسان؟!
إن
ابن عربي يرى أن مشيئة الله تابعة لعلمه، وعلمه تابع للمعلوم، والمعلوم هو الإنسان
وأحواله في حال عينه الثابتة في الأزل: "فليس لعلم الله أثر في المعلوم، بل حال
المعلوم يعطي للعلم من نفسه ما هو عليه في عينه الثابتة"[129]
– وهذا هو معنى القضاء وسر القدر[130].
فالإنسان وجميع الكائنات "غذاء الحق بالأحكام"[131]،
لأن الوجود الحق إنما يظهر بصور أحكام عين الكائن؛ و"الحق هو غذاء الكائنات
بالوجود"[132]،
حيث لا تظهر إلا بوجوده[133].
بهذا يبتعد ابن عربي عن القائلين بالجبر، لأن الكائنات عنده هي التي اختارت
مصائرها بحسب ما فيها من استعدادات، فأعطت لله العلمَ من نفسها، فكان قضاءُ
الله فيها طبقًا لذلك العلم:
فمَن كان مؤمنًا في ثبوت عينه وحال عدمه، ظهر بتلك الصورة في حال وجوده؛ وقد علم
الله منه أنه هكذا يكون، فلذلك قال: "وهو أعلم بالمهتدين". فلما قال مثل هذا قال
أيضًا: "ما يبدل القول لدي" لأن قولي على حدِّ علمي في خلقي، "وما أنا بظلاَّم
للعبيد"، أي ما قدَّرتُ عليهم الكفر الذي يُشقيهم، ثم طلبتهم بما ليس في وسعهم أن
يأتوا به؛ بل ما عاملناهم إلا بحسب ما علَّمناهم، وما علَّمناهم إلا بما أعطونا من
نفوسهم[134]
مما عليه – فإن كان ظلم فهم الظالمون.[135]
وبهذا المعنى شرح الأمير عبد القادر الجزائري[136]
(ت 1883) قوله تعالى: "إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم":
أي أنه
تعالى لا يغير حال قوم وينقلهم من حالة إلى حالة أدنى أو أعلى في الظاهر حتى يغيروا
ذلك بأنفسهم، بمعنى يطلبون باستعدادهم في الباطن من الحق تعالى إيجاد تلك الحالة
المنتقَل إليها، وهو معنى التغيير: فليس للحق تعالى إلا إعطاء الوجود لتلك الحالة
المنتقَل إليها بطلبهم الاستعدادي.
[...]
فما حَكَمَ عليهم غير أنفسهم.[137]
و"الممكن في شيئية ثبوته حر. فإذا خرج من عندية الحق فَقَدَ حريته وخضع لجبرية
استعداده الأزلي"[138].
ومعنى ذلك أن العبد يحكم باستعداده الأزلي على نفسه بنفسه، وهو مسؤول من هذه الجهة
عما يصدر عنه من أفعال، لأنه خاضع لطبيعته الخاصة التي اقتضتْها طبيعةُ عينه
الثابتة؛ وبالتالي، يصبح مسؤولاً تمام المسؤولية عما يصدر منه، فلا يحمد إلا نفسه
ولا يذم إلا إياها. وما بقي للحق تعالى إلا حمد إفاضة الوجود لأن ذلك له، لا
للمخلوق:
[...]
فما استقلَّتِ القدرةُ بالإيجاد دون استعداد الممكن، ولا استقلَّ استعدادُ الممكن
دون القدرة الإلهية بالإيجاد – وهذا سارٍ في كلِّ ممكن.[139]
10. شهود الأمر التكويني والأمر التكليفي
مشهد الأمر التكويني:
بيَّن ابن عربي أن العارف تكمل معرفتُه بإطَّلاعه على عينه الثابتة؛ وذلك لا يتسنى
له إلا برجوعه إلى العدم الأصلي عن طريق الفناء. فإذا أدرك ذلك أدرك سرَّ القدر
الذي هو "من أجلِّ العلوم، وما يُفهِمُه الله إلا لمَن اختصَّه بالمعرفة التامة"[140].
وقد
مرَّ بنا أن السالك في مقام الفناء يشهد أحدية العين، فلا يرى معصيةً ولا طاعة، بل
"يشاهد أن الطائع والعاصي كلاهما على صراط ربِّه، ما عدل أحد منهما على علم الله
منه وعما اقتضتْه عينُه الثابتة"[141].
لذا قال الشيخ الأكبر واصفًا هذا المشهد:
ومن
هذا نعلم أن كلَّ حُكم ينفذ اليوم في العالم أنه حُكم الله، وإنْ خالف الحُكمُ
المقرَّرَ في الظاهر المسمَّى شرعًا؛ إذ لا ينفذ حُكمٌ إلا لله في نفس الأمر، لأن
الأمر الواقع في العالم إنما هو على حُكم المشيئة الإلهية، لا على حُكم الشرع
المقرر[142].
[...]
فإن الأمر الإلهي، إذا خولف هنا بالمسمَّى معصية، فليس إلا الأمر بالواسطة، لا
الأمر التكويني. فما خالف الله أحدٌ قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة، فوقعت
المخالفةُ من حيث أمر الواسطة.[143]
ولقد علمنا فيما سبق أن مشهد "الأمر التكويني" لا يكون إلا في حالة الجمع والفناء،
وهو ليس غاية في السلوك؛ ولذلك يُخاف على المريد فيه أخلاقيًّا وعقائديًّا.
مشهد الأمر التكليفي:
فإذ
كان السالك في مقام الجمع قد شهد "الأمر التكويني" الذي لا فرق فيه، فإنه مطالب
بالعودة إلى مقام البقاء، حيث يشهد الفرق الشرعي، فيميز بين الطاعة والمعصية. وهذا
هو "الأمر التكليفي" الذي جاءت به الشريعة واقتضتْه المراسيمُ الاجتماعية. ولقد
رأينا فيما سبق أن سلوك العارف لا يكتمل إلا إذا فرَّق في جمعه وجمع مفروقه، وإلا
خسرت صفقتُه، فكان من المتزندقين. ولذا قال ابن عربي في إحدى لطائفه ناصحًا مريده:
إذا
كنت في عين الجمع والوجود فقل: "كل من عند الله." وإذا كنت في عين التفرقة فقل:
"وما أنسانيه إلا الشيطان." وكل قول في موضعه أدبٌ مع الحق.[144]
وقد
نبَّه ابن عربي إلى قضية خطيرة، وهي اللبس الذي يقع للكثيرين حين لا يفرقون بين
الأمرين التكويني والتكليفي، فيعتقدون أن الرضا بالقضاء يستلزم الرضا بالمقضي، حتى
ولو كان شرًّا ومعصية. يقول:
لا
يلزم الراضي بالقضاء أن يرضى بالكفر والمعاصي والمخالفات؛ فإنها كلَّها معصية، ما
هي عين القضاء. والشارع أمرَنا بالرضا بالقضاء لا بالمقضي.
[...]
وليس لك أن تقول: "رضيتُ بما قضى الله لي من المخالفات."[145]
فشهود الأمر التكويني يقتضي الرضا بالقضاء الشامل للكائنات كلِّها. أما شهود الأمر
التكليفي الشرعي فيقتضي وزن المقضي بميزان الشرع والأخلاق: فإن كان موافقًا لها
قُبِلَ، وإن كان مخالفًا لها رُفِض. وهو عين ما ذهب إليه ابن القيم في قوله:
فحظ
الحقيقة الدينية القيام بأمره ونهيه.[146]
[...]
وحظ الحقيقة الكونية إفراده بالافتقار إليه والاستعانة به [...] والتحقق
بأنه ما شاء كان وما شاء لم يكن. [...] فلهذه الحقيقة عبودية، ولهذه الحقيقة
عبودية؛ ولا تُبطِلُ إحداهما الأخرى، بل لا تتم إلا بها.[147]
هكذا نصل في ختام هذا المقال إلى أن ابن عربي لم يتوصل أبدًا إلى إسقاط التكاليف[148]،
ولم يحدث أن تدنَّى في تصوفه إلى درجة نادى فيها بالحلول والاتحاد؛ بل إنه كان
متبرئًا من القائلين
[...]
بوحدة الوجود من الجهلة الغافلين والزنادقة الملحدين، الزاعمين بأن وجودهم المفروض
المقدَّر هو بعينه وجود الله تعالى، ليستدلوا بذلك على إسقاط الأحكام الشرعية عنهم
وإبطال الملَّة المحمدية وإزالة التكليف عن نفوسهم.[149]
لقد
كانت فلسفته التربوية قائمةً على أسُس صوفية إسلامية محضة. ولقد كان في حياته
ملتزمًا بالأخلاق الإسلامية، ضاربًا بتجربته الروحية في أغوارها، عارفًا بظاهرها
وباطنها[150].
ولعل صعوبة كتبه هي التي دفعت بالعلماء إلى أن يتفرقوا في شأنه شيعًا، ويسلكوا في
أمره طرائق قددًا: فذهبت طائفة إلى أنه "زنديق"[151]،
وقال فيه قومٌ إنه "واسطة عقد الأولياء"[152]
و"رئيس الأصفياء"[153].
لقد
كان ابن عربي في تنظيره الأخلاقي إنسانيًّا إلى أبعد مدى، فكان يدعو إلى التعامل مع
البشر وفق ميزان إسلامي راقٍ، وانطلاقًا من تلك الرؤية الميتافيزيقية الدينية التي
بنى عليه فلسفته الأخلاقية. فلنقرأ هذه الوصية التي نصح بها مريده:
ارحم مَن وافق الحقَّ ومَن خالفَه رحمةً له، فإن ذلك قسمه. فإن الكافر إذا رحم
المؤمن، خفَّف الله عنه، وإذا رحمَ المؤمنُ الكافرَ وفى الله له. الكل خلقُ الله
ومضافٌ إليه. فتعظيمُ خلقه تعظيمُه. فطوبى لمَن رَحَمَ خلقَه. ولا يلزم مَن رحمَهم
أن يلقي إلى أعداء الله بالمودة: ارحمْهم من حيث لا يعلمون.[154]
إن
من الغرابة حقًّا أن يغضَّ بعضُهم الطرفَ عن مثل هذه النصوص، فيستنتجوا أن
[...]
ابن عربي في نظريته الجديدة [وحدة الوجود] ما كان يعتمد على مجاهدة ولا على
سلوك، وإنما كانت نظريته فلسفية قبل أن تكون مشربًا فلسفيًّا عمليًّا.