تُعتبَر نظريةُ وحدة الوجود من ألصق النظريات بالفكر الفلسفي القديم. فقد
ظهرت في الفلسفة الهندية، حيث كانت مدرسة الـﭭيدنتا
اللاثنوية تعلِّم أن جميع أشكال الحياة، من حياة الآلهة إلى حياة أحقر الخلائق، هي
ذات واحدة جوهرية: آتمن[1].
وظهرت أيضًا في الفلسفة الصينية، وخاصةً في الحكمة الطاوية التي دعا إليها الحكيم
لاو تسُه[2]؛
وفي الفلسفة اليونانية، حيث نادى بها كسينوفانس القولوفوني، مؤسِّس المدرسة
الإيلية، وكذلك پرمنيدس، والرواقية، والمدرسة الفيثاغورية، والأفلاطونية المحدثة[3].
و"وحدة الوجود" تعني، مجملةً، أن الكل هو الإله وأن الإله هو الكل[4].
وقد انقسم معتنقوها إلى طائفتين هما:
-
أصحاب وحدة الوجود الإلحادية: وهم الذين يعتقدون أن العالم وحده هو الموجود
الحق، وليس الإله سوى مجموع الأشياء الموجودة في العالم[5].
-
أصحاب وحدة الوجود الإيمانية: ويرون أن الإله وحده هو الحقيقي، وما العالم
إلا مجموعة من تجلِّياته التي ليس لها وجود من دونه[6].
ولقد كان الشيخ محي الدين بن عربي من أبرز مَن دعا إلى وحدة الوجود الإيمانية
في التصوف الإسلامي؛ إذ تُعتبَر بمثابة حجر الزاوية في مذهبه. وغني عن البيان أن
وحدة الوجود عنده ليست مادية[7]،
كما هي الحال أيضًا عند غيره من الصوفية المسلمين[8].
وتجدر الإشارة إلى أن كثيرًا من الباحثين الغربيين يستعملون لفظة
pantheism
للدلالة على وحدة الوجود كما ظهرت في التصوف الإسلامي، في حين
أن ذلك المصطلح عندهم يعني أن الله مجموع الأشياء، مما لا علاقة له بالتصوف
الإسلامي إطلاقًا[9].
وإلى هذه الحقيقة أشار الشيخ عبد الغني النابلسي في قوله:
أما
القائلون بوحدة الوجود من الجهلة الغافلين والزنادقة الملحدين، الزاعمين بأن وجودهم
المفروض المقدَّر هو بعينه وجود الله تعالى[10]،
[...]
ليستدلوا بذلك على إسقاط الأحكام الشرعية عنهم، وإبطال الملَّة المحمدية، وإزالة
التكليف عن نفوسهم، فالطعن عليهم بسبب القول بوحدة الوجود على هذا المعنى الفاسد
طعنٌ صحيح.[11]
ولا
شك أن الباحث في نظرية وحدة الوجود يصطدم حتمًا بإشكالية معقدة ذات طابع عقائدي
وفلسفي وأخلاقي. إذ كيف يمكن لنا أن نُرسي قواعد تربوية في عالم لا ينفصل فيه
المكلِّف عن المكلَّف، ولا الحق عن الخلق؟ لذا، فقبل تناوُلنا تلك الإشكالية
بالبحث، يجدر بنا أن نبحث في طبيعة تلك النظرية عند الشيخ الأكبر.
2. مفهوم وحدة الوجود عند الشيخ الأكبر
يقرر ابن عربي أن العالم ما هو إلا "ظل الله"، فيقول:
المقول عليه سوى الحق أو مسمَّى العالم هو، بالنسبة إلى الحق، كالظل للشخص؛ فهو ظل
الله.[12]
وللتوضيح فإن لفظ "السوى" لفظٌ تعارَف عليه الصوفية حتى يميزوا بين الله والعالم في
النظر العادي. وحقيقة الأمر أنه لا يوجد هناك "سوى" في نظرهم؛ إذ ليس في الوجود
إلا الله وأسماؤه ليس غير[13].
فالإقرار بوجود "سوى" الله معناه الإقرار بوجودين اثنين: وجود الله من جهة، ووجود
العالم من جهة ثانية. وإذا تصورنا هذا وقعنا في مشكلة "الإثنينية الوجودية" التي
اعتبرها ابن عربي وغيره من الصوفية شِركًا منافيًا للتوحيد الخالص.
إن
الوجود، بحسب محي الدين بن عربي، وجود واحد، لكن له وجهين:
-
وجه حقيقي: وهو وجود الله – سبحانه وتعالى – الذي لا يحتاج في وجود إلى
غيره؛ وهو "الوجود من حيث هو وجود، بلا اعتبار الكثرة فيه ولا الإضافة"، وهو
الهوية المطلقة[14].
-
وجه مجازي: وهو وجود جميع الكائنات، حيث إنها "وُجدت من العدم بوجوده تعالى،
لا بنفسها. ووجودها محفوظ عليه في كلِّ لمحة بوجوده، لا بنفسها. وإذا كانت كذلك
فوجودها الذي هي موجودة به في كلِّ لمحة هو وجود الله تعالى؛ وأما ذواتها وصورها من
حيث هي، فلا وجود لأعينها أصلاً"[15].
فوجودها، إذن، إضافي، وهو، بالنسبة إلى الحق تعالى، كالظل للشخص[16].
وبهذا يؤكد ابن عربي أنه إذا نظرنا إلى العالم من حيث أحدية موجِده – الذي هو الله
عزَّ وجل -، قلنا عنه هو الحق الواحد الأحد؛ وإذا نظرنا إليه من حيث كثرة الصور
والتعدد العارض له بالإضافة، قلنا عنه إنه العالم أو "اسم السوى" أو "الغير"[17].
فكل ما ندركه إذن هو
[...]
وجود الحق في أعيان الممكنات. فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور
فيه هو أعيان الممكنات.[18]
بناءً على ما سبق، يمكن لنا الاستنتاج أنه "ما ثم إلا وجود واحد، وإنْ ظهر لنا
أنهما وجودان؛ إذ الوجود الذي هما موجودان به وجود واحد، وهو للقديم بالذات وللحادث
بالغير"[19].
فيتضح أن وحدة الوجود بهذا المعنى هي وحدة وجود إيمانية روحية[20]؛
إلا أنها لاقت سخطًا من جانب بعض الفقهاء، نذكر منهم الإمام ابن القيم الجوزية، حيث
يقول مستنكرًا:
زعم
أهل الاتحاد القائلون بوحدة الوجود أن الفناء هو غاية الفناء عن وجود السوى. فلا
يثبت للسوى وجود البتة، لا في الشهود ولا في العيان، بل يتحقق بشهود وحدة الوجود،
فيُعلَم حينئذٍ أن وجود جميع الموجودات هو عين وجود الحق. فما ثم وجودان، بل
الموجود واحد. وحقيقة الفناء عندهم أن يفنى عما لا حقيقة له، بل هو وهم وخيال.[21]
3. موقف ابن عربي من الحلول والاتحاد
لقد
وقع الالتباس عند كثير من العلماء والباحثين في فهم نظرية وحدة الوجود كما وردت عند
الشيخ محي الدين بن عربي، فراحوا يخلطون بينها وبين الحلول والاتحاد[22].
والحقيقة أن ابن عربي كان من أبعد الناس عن الحلول والاتحاد، يشهد بذلك ما جاء
صريحًا في كتبه. فهو ينفي الاتحاد بقوله:
إذا
كان الاتحاد يُصيِّر الذاتين ذاتًا واحدة فهو محال، لأنه إن كان عين كلِّ واحد
منهما موجودًا في حال الاتحاد فهما ذاتان، وإن عدمت العينُ الواحدة وبقيت الأخرى
فليس للأول حد
[...].[23]
ومعنى ذلك أنه لا توجد ذاتان – في حقيقة الأمر – حتى يتم الاتحاد بينهما؛ إذ ما ثم
إلا الله وصفاته وأسماؤه كما مرَّ بنا. وبالتالي، بَطُلَ الاتحاد من أصله. لكن
الصوفية قد يستعملون مصطلح "الاتحاد" ليشيروا به إلى معانٍ معينة، يحدِّد ابن عربي
بعضها كالآتي،
أ.
فيقول:
قد
يكون الاتحاد عندنا عبارة عن حصول العبد في مقام الانفعال عنه
[عن
الله] بهمَّته وتوجُّه إرادته، لا بمباشرة ولا بمعالجة. فبظهوره بصفة هي للحق
تعالى تسمَّى اتحادًا لظهور حقٍّ في صورة عبد ولظهور عبدٍ في صورة حق.[24]
وابن عربي يشير، من خلال هذا القول، إلى مقامَين يصل إليهما العارفون، يُطلَق
عليهما مصطلحا "قرب الفرائض" و"قرب النوافل". فقوله: "ظهور حق في صورة عبد" إشارة
إلى أنه إذا كان الحق ظاهرًا، كان الخلق خفيًّا، وكان جميع أسماء الحق وصفاته. وهذه
حالة شهودية يصلها العارف حينما لا يرى في الوجود متجليًّا إلا الله. وقد
نلمس هذا المعنى في قوله تعالى: "وما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى". فاليد يد
سيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام –، وقد نفى الله عنه الرمي، حيث قال: "ولكن الله
رمى"، بمعنى أن الرامي هو الله في حقيقة الأمر. وذلك ما يسمى بـ"قرب الفرائض"[25].
أما قوله: "وظهور عبد في صورة حق" فإشارة إلى أنه إن كان الخلق ظاهرًا كان الحق
مستورًا. وهذه حالة شهودية أخرى يصلها العارف، فيكون الحق تعالى سمعه،
وبصره، ويده، ورجله، وجميع جوارحه وقواه، بلا حلول ولا امتزاج، كما جاء في
الحديث الشريف[26].
وذلك ما يسمى بـ"قرب النوافل"[27].
وعن هاتين المرتبتين يقول الشيخ الأكبر:
فإن
كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه، فيكون الخلق جميع أسماء الحق: سمعه، وبصره،
وجميع نسبه وإدراكاته؛ وإن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه. فالحق سمع
الخلق وبصره ويده ورجله وجميع قواه، كما ورد في الخبر الصحيح[28].
فهذه إحدى معاني الاتحاد الذي يقصده ابن عربي.
ب.
وهناك معنى آخر للاتحاد يتعلق بتداخل أوصاف الحق وأوصاف الخلق؛ وهو قريب من المعنى
الأول. يقول فيه ابن عربي:
وقد
يُطلَقُ الاتحاد في طريقنا، لتداخل أوصاف الحق والخلق. فوصفْنا الله بأوصاف الكمال،
من الحياة والعلم والقدرة والإرادة وجميع الأسماء كلِّها، وهي له؛ ووصفَ نفسه
بأوصاف ما هو لنا، من الصورة والعين واليد والرجل والذراع والضحك والنسيان والتعجب
والتبشبش وأمثال ذلك مما هو لنا. فلما ظهر تداخُل هذه الأوصاف بيننا وبينه، سمينا
ذلك اتحادًا لظهورنا به وظهوره بنا[29].
فيصح قول القائل عن هذا: "أنا من أهوى/ ومن أهوى أنا".[30]
وابن عربي كان واضحًا، دقيقًا، في رفض الحلول والتمييز بين الله ومخلوقاته، حيث
يقول:
[...]
فلو جمع بين الواجب بذاته وبين الممكن وجهٌ، لجاز على الواجب ما جاز على الممكن من
ذلك الوجه من الدثور والافتقار – وهذا في حق الواجب محال.[31]
وهو
يرفض رفضًا شديدًا فكرة "اتحاد" العبد بالرب، فيؤكد على ضرورة التمييز بينهما،
فيقول:
[...]
فكما لا يكون الرب عبدًا، كذلك لا يكون العبد ربًّا، لأنه لنفسه هو عبد، كما أن
الرب لذاته هو رب. فلا يتصف العبد بشيء من صفات الحق بالمعنى الذي اتصف بها الحق،
ولا الحق يتصف بما هو حقيقة للعبد.[32]
وقد
يقرأ بعضُهم قول ابن عربي في مقدمة الفتوحات:
الرب
حق والعـبد حـق يا ليت شـعري من المكلَّف
إن قلت عبد فذاك مــيت أو قلت رب أنَّى يكلـف[33]
فيجتث البيتين اجتثاثًا، ويغفل عما قبلهما وما بعدهما، ويسارع إلى اتهام الرجل
بالحلول والاتحاد، مع أن البيتين وردا في سياق توحيدي قدسي رقيق المعنى، وهو قول
ابن عربي:
الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدمه، وأوقف وجودها على توجُّه كلمه، لنحقق بذلك
سرَّ حدوثها وقِدَمها من قِدَمه، ونقف عند هذا التحقيق على ما أعلمنا به من صدق
قِدَمه
[...].[34]
ثم
يتكلم بعد عن "حضرة الجمع" التي يصل إليها العارفون، أي يفنون عن أنفسهم، فيكونون
منزَّهين، مطهَّرين بصفائها وطهرها، دون أن يحلَّ بهم الله أو يحلُّوا به، لأن الله
يتقدس أن يلحقه التشبيه. هو ذا يقول في هذا الشأن:
[...]
بل العبد في ذلك الموطن الأنْزه ["حضرة الجمع"] لاحق بالتنزيه، لا أنه –
سبحانه وتعالى – في ذلك المقام الأنوه يلحقه التشبيه. فتزول في تلك الحضرة من العبد
الجهات، وينعدم عند قيام النظرة به منه الالتفات.
ثم
يضيف قائلاً:
ولما حيَّرتْني هذه الحقيقة، أنشدتُ على حكم الطريقة للخليقة
(مخلع
البسيط):
الرب
حق والعـبد حـق يا ليت شـعري مَن المكلَّف
إن قلت عبد فذاك مــيت أو قلت رب أنَّى يكلــف[35]
فـ"حضرة الجمع" حضرة فناء واضمحلال، تتلاشى فيها رسومُ العبد وآثارُه، بحيث يسقط
التمييز فيها بينه وبين الحق ويرجع إلى أصله العدمي، فلا يبقى إلا الحق وحده. وفي
هذه الحضرة لا يمكن لنا أن نتكلم عن "التكليف" أصلاً، إذ هي حضرة الحقيقة
الكونية[36]،
حيث لا شريعة ولا قوانين. فإن قلنا عن العبد في هذه الحضرة أنه "مكلَّف" وقعنا في
التناقض، لأن التكليف يقتضي العقل والتمييز، والعبد في هذه الحالة فانٍ، مضمحل؛ وإن
قلنا الرب هو "المكلَّف"، فالرب لا يكون مكلفًا أبدًا – وهذا محض التوحيد
الذي أشار إليه ابن عربي حين اجتماعه بالجنيد روحيًّا، إذ قال:
رأيت الجنيد في هذا التجلِّي فقلت له: "يا أبا القاسم، كيف تقول: في التوحيد يتميز
العبد من الرب. وأين تكون أنت عند هذا التمييز لا يصح أن تكون عبدًا ولا أن تكون
ربًّا.[37]
بهذا المنطق يمكن أن نفهم ذينك البيتين اللذين يتخذهما كثيرٌ من نقاد بن عربي حجةً
على دعوته للاتحاد والحلول. وعليه، فإن العبد لا يتحد بالرب إطلاقًا في نظر ابن
عربي، ولا يكون في رتبته، لأنه ممكن، مفتقر إلى خالقه:
فلا
يصح أن يكون، أبدًا، الخلق في رتبة الحق، كما لا يصح أن يكون المعلول في رتبة
العلَّة، من حيث ما هو معلول عنها.
[...]
فالعالم لم يبرح في رتبة إمكانه، سواء كان معدومًا أو موجودًا. والحق – تعالى – لم
يبرح في مرتبة وجوب وجوده لنفسه، سواء كان العالم أو لم يكن. فلو دخل العالمُ في
الوجوب النفسي، لزم قِدَمُ العالم ومساوقته في هذه الرتبة لواجب الوجود لنفسه، وهو
الله، ولم يدخل، بل بقي على مكانه وافتقاره إلى موجده وسببه، وهو الله.[38]
ولقد كان ابن عربي شديد اللهجة على دعاة الحلول والاتحاد، حيث وصفهم بالزيغ
والضلال. يقول:
ومن
هنا زلَّت أقدامُ طائفة عن مجرى التحقيق، فقالت: "ما ثم ما إلا ما ترى"، فجعلتِ
العالمَ هو الله، والله نفسَ العالم[39].
وسبب هذا المشهد لكونهم ما تحققوا به
[بالله] تحقُّق أهله. فلو تحقَّقوا به ما قالوا بذلك وأثبتوا كلَّ حقٍّ في موطنه
علمًا وكشفًا.[40]
وقال منزِّهًا الله عن الحلول في مخلوقاته:
تعالى أن تحلَّه الحوادثُ أو يحلَّها.[41]
ونلمس تلك المعاني أيضًا في إحدى مناجياته لله عند تفسيره لصيغة الدعاء "أستغفرك
وأتوب إليك"، فيقول مخاطبًا المولى – عزَّ وجل – قائلاً:
أطلب التستر منك في اتصافي بالوجود، لئلا أغيب عن حقيقتي فأدَّعي الوجود، وهو ليس
أنا، بل هو أنت. وما أنا أنت: فأنا أنا على ما أنا عليه لذاتي، وأنت أنت على ما أنت
عليه لذاتك.[42]
والحقيقة أن البحث في عقيدة الشيخ الأكبر يتطلب قراءةً شموليةً معمقةً لكلِّ ما كتب
دون تجزئة. فقد نقرأ أفكارًا نبترها من السياق العام لكلامه، فنتوهم أنه يدعو
للحلول والاتحاد، مع أن الحكم في تلك المسائل العقيدية الخطيرة يتطلب التأنِّي
والتريث. وقد صرح ابن عربي بعقيدته في مقدمة كتاب الفتوحات، وهي عقيدة واضحة
سليمة، كمذهب أيِّ عالم مسلم؛ لكنه رأى أن تفصيل تلك العقيدة وتعميقها، بما يوصل
إلى "توحيد الخواص"، يتطلب تبديدها والإشارة إليها دون تصريح، فقال:
وأما الصريح بعقيدة الخلاصة فما أفردتُها على التعيين، لما فيها من الغموض، لكن جئت
بها مبدَّدةً في أبواب هذا الكتاب، مستوفاةً مبيَّنة، لكنها كما ذكرنا مفرقة.[43]
وأغلب الظن أن الذين يتهمون ابن عربي بالحلول والاتحاد ما قرأوا كتبه قراءةً معمقةً
وشمولية. إذ إن كلَّ قراءة تجزيئية أو سطحية لكتبه، على ما فيها من غموض وتعقيد،
ستكون دون شك مغامرة عقيمة مآلها سوء الفهم والتخبط في المجهول[44].
4. طبيعة الفناء عند ابن عربي
يرى
ابن عربي، كغيره من الصوفية، أن حال الفناء لا يُنال بتعمل أو بقصد[45]؛
فهو محض فضل من الله – عزَّ وجل – على عبده، وموهبة وإكرام منه له واختصاص، يفعله
بمن اصطنعه لنفسه، وليس هو من الأفعال المكتسَبة[46].
وقد
برهن ابن عربي على أن أكثر الناس يعيشون في حياتهم اليومية حالاتٍ تشبه الفناء،
لكنهم لا يتفطنون إلى ذلك. ويتضح وجودُه من خلال تلك الأحوال التي تعتري كثيرًا من
الناس: فقد يحدث أن يركز الإنسان فكره في مسألة من أمور الدنيا أو من أمور من
العلم، فيستغرق فكرُه كله فيها، إلى حدِّ أنك تحدِّثه فلا يسمعك، وتكون بين يديه
فلا يراك، وترى في عينه جمودًا في تلك الحالة. فإذا عثر على مطلوبه، أو طرأ أمرٌ
يرده إلى إحساسه، حينئذٍ يراك ويسمعك[47].