بقلم : . . الحسين أخدوش
جاك دريدا ومسألة الاختلاف الحسين أخدوش يتجه الفكر الفلسفي المعاصر وجهة غير معهودة في تاريخ الفكر الغربي.
وفي هذا الإطار، يقدم فكر الاختلاف(1) نفسه كمساهمة جادة في فتح أفق غير
مسلوك من قبل. ويعتبر «Jacques Derrida» من أبرز رواد هذا الاتجاه الجديد،
حيث عمل على خلخلة مجموعة من المفاهيم الفلسفية السائدة على مدار تاريخ
الفلسفة الأوربية. فقد تمكن من تفكيك البنيات العتيقة للميتافيزيقا،
مساهما بذلك في تصدع هيكلها الأيديولوجي وقلب تراتبيتها. كما سمح بفتح
حوار مع الهوامش انطلاقا من خلخلة النزعة المركزية السائدة في التاريخ
الممتد إلى أفلاطون. إذن، فما هي طبيعة ونوعية هذه المساهمة التي قدمها
"دريدا" باعتباره أحد الحلقات الأساسية المشكلة لفكر الاختلاف؟ وما هي
قيمة هذه المساهمة؟ وما هي حدودها؟
يضعنا الحديث في فكر الاختلاف عند "دريدا"، كحلقة متميزة من حلقات
الفكر الغربي المعاصر، مباشرة ضمن سياق فلسفة « Heidegger» التي قامت
أساسا على إعادة تجديد الاعتبار لمفهوم "الوجود"(2) لا على جهة الحضور
التي دأبت الميتافيزيقيا على تناوله، بل من خلال القول باختلاف "الوجود"
عن "الموجود"، ثم في أن "الوجود" خاصيته الظهور والإختفاء. وفي هذا السياق
يصرح "دريدا" أنه " لا شيء مما أحاوله كان سيكون ممكنا لولا إفتتاح
المسائل الهيدجرية… وقبل كل شيء لولا الإنتباه إلى ما يسميه " هيدغر"
الاختلاف بين الوجود والموجود".(3)
غير أنه، لم يكن بوسع "هيدغر" نفسه أن يفعل ذلك إلا بعد أن مارس طريقة
في التفلسف تأخذ باعتبارات الاشتقاق والتأثيل اللغوية،(4) ليعمل فيما بعد
على تقويض المفاهيم المؤسسة للتمثل الميتافيزيقي للوجود على أنه حضور،
كمفهوم العقل أو "اللغوس" ومفهوم الحقيقة، والنظر، الذات، التطابق… وغيرها
من المفاهيم الأخرى التي شكلت عماد التفلسف في كل عصور الفلسفة.
من خلال هذا التقويض للتراث الميتافيزيقي،(5) عمل هيدغر على اجتراح
أفق جديد لوضع القول الفلسفي، يختلف والاعتبارات الأنطولوجية
والميتافيزيقية التي علقت به من ذي قبل. فهو يعتبرأنه إذا أردنا أن تتضح
لنا قضية الوجود على طريق تاريخي، ينبغي أن ينتعش تراث قد تحجّر وأن يطهّر
من الشوائب التي علقت به عندما قطع الزمن. ونحن ننظر إلى هذه المهمة
كتقويض للرصيد الذي أبقى عليه التراث وأدّخره وإحتفظ به من الأنطولوجيا
القديمة.(6)
وبهذا تأسست دعواه حول مجاوزة الميتافيزيقا باعتبارها نسيان الوجود.
ففي اعتباره يصبح الفكر الذي يفكر في حقيقة الوجود مرغما عليه أن يتجاوز
الميتافيزيقا(7). وقد جاء "دريدا" في هذا السياق، آخذا على عاتقه
إستراتيجية أكثر جذرية في تفكيك أسس هذه الميتافيزيقا، فتأسست دعواه على
جعل الخطاب الفلسفي خطابا مكتوبا لا شفهيا. ومن أجل هذا الغرض، عمل على
ردّ الاعتبار للكتابة بعد أن احتقرت من طرف الميتافيزيقا التي فضّلت الصوت
عليها.
لهذا انصبت تفكيكيات "دريدا" على البنيات الداخلية للنصوص، لكي يتمّ
العثور على التوترات والتناقضات الداخلية فيها. فبينما تقوض هذه النصوص من
الداخل انطلاقا من قوى متنافرة، تعمل إستراتيجية التفكيك على إبرازها
انطلاقا من الآثار التي تتركها تلك القوى المحركة للنصوص(8). هنا يتعلق
الأمر في هذه الإستراتيجية بتدعيم جوانب الخلخلة للقوانين الدلالية
والتركيبية للمعنى، ليتم كشف قواعد لعبته الثاوية وراء لعبة الحضور
والتعلق بالوجود والزمان.
غير أنه لا يتوقف التفكيك عند هذا الحد، بل يذهب أبعد من ذلك إلى معنى
الحضور الذاتي والمعنى ذاته، الذات والهوية…، وذلك لسبر حقيقتها وكشف
الإختلالات والاختلافات الثاوية فيها، تماما كما تحيل على ذلك كلمة «
Différence» نفسها عندما يتم إقحامها في الهوية « Identité»، فتشير فقط
إلى التمايز والتباين، دون أن تشير إلى الخلاف والإرجاء(9).
فالخلاف يفيد الجانب غير المطابق والمباين(10)، بينما يحيل الإرجاء
إلى الزمان والتأخر والتعطيل، وهذا ما يكشف عن إستراتيجية توليد الفوارق
والتباينات التي تجعل عملية الدلالة مستحيلة، مما يقضي بتجاوز الأسس
الميتافيزيقية للمعنى كما هو في الفلسفة منذ أفلاطون.
إنها دعوة إلى مجرد الاحتفاظ بالأثر في المكتوب والنصوص، ولهذا السبب
تحديدا عمل "دريدا" على النظر في تاريخ الفلسفة على أساس أنها كتابة يقتضي
النظر فيها والتفكير فيما يوجد فيها من أثر معلقة بها، وهذا الأثر ليس
يتعلق بأسماء أو معان (دلالة) أو أصوات (الكلام)، بل لما يشكله من حلقات
وسلسلات من الحروف ذات بنيات مزدوجة إثنينية: الإختلاف: الإرجاء والخلاف،
الفارماكون(11): السم والدواء، الآثار: البقاء والزوال، غشاء البكارة:
العذرية والزواج…
تبيّن كذلك هذه الإستراتيجية عند "دريدا" عن وجه آخر للنظر إلى هذه
الحالات لا على أنها أقوال متعلقة باعتبارات العقل، بل على أنها أثار
وأشباح وعلامات مكتوبة وليست مجرد تغيّرات كلامية(12).
ويقتضي النظر في هذه العلامات المكتوبة، ترك التوسل بالأدوات المنهجية
اللسانية والمنطقية جانبا، والدخول في علاقة إستراتيجية جديدة تقوم على
الإرجاء وتفكيك الكلمة الواحدة إلى سلسلة من الكلمات، مثل : « Différance
». (13) فيكون مقتضى النظر فيها على ما بينها من علاقات التوزيع والترابط
والتسلسل، بحيث تجعلنا هذه الإستراتيجية ندخل في أكثر من علاقة مع كلمة
واحدة في علاقتها بالثلاث الأخرى.
وفي هذا الإطار يعتبر "الاختلاف" ليس كلمة ولا مفهوما؛ بل سلسلة من
الحروف يمكن النظر في كل منها على حدة: « E» يصبح « A»على مقتضى استحضار
معنى معين يخالف المعنى السابق.
وهكذا تصبح إستراتيجية التفكيك، بما هي مجاوزة للميتافيزيقا، عملية
تصدع وخلخلة للنصوص والمعاني باعتبارها أثرا موشوما على النص
الميتافيزيقي(14)، وتكون عملية الخلخلة محوا للأثر، ثم يصبح التفكيك
ممارسة لعملية التخصيب المستمرة للنصوص والكلمات وإبرازا للاختلافات التي
توجد فيها، لأن الاختلاف عملية إستراتيجية هنا وليس مفهوما أو تصورا، وهذا
ما يجعله غير قابل للترجمة.
إن الاختلاف كلحظة مجاوزة للميتافيزيقا، لا يعكس أي اعتبار أنطولوجي
كما يقول هيدغر، بل هو حسب "دريدا" عبارة عن ممارسة الدخول في العلاقات
المختلفة مع النصوص. إنه ليس اختلافا انطولوجيا، ولا هو اختلاف بين أشياء
معينة، بل اختلاف علاقات تظل قائمة في الكتابة، يتوجب على
"الغراماتولوجيا" تولي مهمته(15). لذا لم يعد هناك مجال للحديث عن
الثنائيات والأزواج، لأنه لم يعد للمركز دوره ولا حتى مبرر وجوده. ولهذا
السبب رفض دريدا بشدة مركزية العقل التي شيدت لثنائيات: العقل واللاعقل،
الحقيقة والخطأ. كما قوض مركزية الصوت التي أسست لثنائية الكلام والكتابة،
ومركزية الذكورة التي أسست بدورها لثنائية الذكورة والأنوثة.
وقد نتج عن ذلك اقرار "دريدا" بالاختلاف كأفق جديد للممارسة الفلسفية
النقدية ضد الأزواج الميتافيزيقية، وضد الهوية والتطابق. وقد رافق ذلك
دعوة ملحّة من طرف هذا الفيلسوف إلى أهمية الانفتاح على النصوص الأدبية
والأعمال الهامشية، لما لها من خصوصية في اختراق الثنائيات وتفجيرها،
كنصوص "باطاي"، "جان جوني" و"مالارمي"، "بلانشو"(16)…
أدى هذا المنظور الفلسفي الاختلافي الذي قام "دريدا" على تعزيزه
والنضال من أجل تحقيقه في مجمل كتاباته إلى إسقاط نموذج الإحالة كما كانت
تُعرفُ في الدراسات النقدية واللسانية، إضافة إلى إخراج الفلسفة من
تعاليها الميتافيزيقي نحو دائرة الهوامش والنصوص الأدبية والفنية
المختلفة، كالمسرح والشعر والرواية… وهذا ما يجعل قيمة فكر الاختلاف أكثر
اعتبارا وأهمية في ظل تداخل الأعمال الأدبية والفلسفية.
غير أنه لا يعني ذلك أن هذا الفكر منزه عن النقد، خصوصا إذا ما تعلق
الأمر بالجوانب اللسانية والحقول المعرفية الأخرى كالسيميولوجيا والمنطق،
حيث تتنازع النظريات فيما بينها إلى درجة يصعب الحسم في الخلافات القائمة
بينها، وفي هذا الإطار يأتي نقد "امبرتو إكو" و"رتشارد رورتي" لتفكيكيات
"دريدا".
إن قيمة فكر "دريدا" الاختلافي تكمن في قدرته على خلق واجتراح أفق
جديد للممارسة الفلسفية بعيدا عن المفاهيم القديمة، إضافة إلى أنه فتح
قنوات التواصل من جديد بين الأدب والفلسفة.
المصدر : . . موقع الأوان
الإثنين يوليو 16, 2012 3:57 am من طرف هذا الكتاب