** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 فيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية-

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ربيعة
" ثـــــــــــــــــــــــــائــــــــــر "
فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- Biere2
ربيعة


عدد الرسائل : 204

تاريخ التسجيل : 26/10/2010
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2

فيتجنشتين ومسألة اللغة  -في أصول الفلسفة التحليلية- Empty
23102011
مُساهمةفيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية-

"إن اللغة هي متاهة من الطرق. فأنت تأتي من جهة ما فتتعرف بنفسك
على طريقك، وقد تأتي إلى نفس المكان من جهة أخرى فلا تتعرف على طريقك" (لودفيج
فيتجنشتين)(1).



لا يخلو الحديث عن الفلسفة التحليلية من أحكام مسبقة علقت بذهن
كثير من القراء، فترسخت بقوة، رغم خطئها، لتصبح بمثابة قناعات أولية يصعب
اقتلاعها. ولعل أشهر هذه الأحكام وأكثرها ذيوعا هو هذا الرأي الذي ينزل
الفلسفة التحليلية في نفس مرتبة الفلسفة الوضعية، فيجعل من الأولى مرادفة
للثانية.




ورغم أننا لا نستطيع إنكار وجود قضايا مشتركة بين الفلسفتين، فإننا
نرى من التبسيط رد كل المسائل التي تناولتها الفلسفة التحليلية إلى النزعة
الوضعية لأن دعوى كهاته تظل، كيفما كان الحال، ضعيفة ومهزوزة؛ فضلا عن
كونها لا تستطيع تقديم تفسيرات شافية لإقبال بعض الفلاسفة التحليلين –سيما
الأمريكيين منهم- على أسماء فرنسية من أمثال فوكو ودريدا، ومساهمتهم
الكبيرة في ربط قضايا الفلسفة التحليلية بالإشكاليات الرئيسية التي بلورتها
الفلسفة الألمانية.




ولعلنا لن نجانب الصواب إن نحن قلنا إن الانغلاق على الفكر الفلسفي
الفرنسي قد ساهم كثيرا في تكوين صور خاطئة لا عن الفلسفة التحليلية فقط بل
أيضا عن الفلسفات الأنجلوساكسونية، ونعتها بالنزعة الاختبارية الفجة. أما
الأمر الآخر الذي يتم غالبا إغفاله، فهو أن المحاور الكبرى التي دارت حولها
نقاشات الفلاسفة التحليليين تعود في أصولها إلى الفكر الجرماني: أعني إلى
الفلسفة الألمانية-النمساوية. فقد لا الفاحص عناءا كبيرا في التدليل على أن
معظم القضايا الرئيسية التي ما تزال تطرحها فلسفة اللغة التحليلية، ترتد في
الغالب إلى فريجه وإلى فيتجنشتين وبالتحديد إلى "فيتجنشتين الثاني" كما
سنرى.




على أن "النفور" الذي قد يستشعره المتعود على "الفكر الفرنسي"،
إزاء نصوص الفلاسفة التحليليين، يعود في مجمله إلى إحساسه "ببساطتها" وعدم
ملامستها "لعمق" القضايا والأسس؛ فهو يؤاخذ عليها طابعها "السطحي"
وانصرافها عن إثارة "القضايا الفلسفية الكبرى" وجريها في المقابل وراء
مسائل "جزئية". لكن الواقع أن الأمر ليس كذلك لأننا في الحقيقة أمام
"أسلوبين فلسفيين" مختلفين عن بعضهما البعض: إذا كانت الفلسفة الفرنسية
تجنح نحو معالجة قضايا فلسفية تركيبية، فإن الفلسفة التحليلية تميل أكثر
إلى تجزيء موضوعاتها؛ فهي تتولى تحليل المشاكل اللغوية مدفوعة بهاجس
التوضيح ورفع مظاهر الغموض التي تكتنف معظم القضايا الفلسفية.




غير أن هذا الأسلوب الذي تختص به الفلسفة التحليلية، لا يلغي
إطلاقا مشاركة هذه الأخيرة في بلورة إشكاليات فلسفية لا تقل "عمقا" عن
مثيلاتها في الفلسفة الفرنسية. ويكفي ذكر أسماء نيلسون غودمان وهيلاري
بوتنام وريتشارد رورتي لكي نتبين بوضوح مساهمة الفلسفة التحليلية في صنع
بعض المحاور الرئيسية التي يدور حولها الفكر الفلسفي المعاصر.




أما غرضنا في هذا المقال فلا يخص مباشرة الفلسفة التحليلية بقدر ما
يخص إسما فلسفيا بارزا كان له وقع كبير على مسارها، إذ من الممكن اعتباره
واحدا من "الأصول" الهامة التي ساهمت في تحديد عناوين وأبواب التيار
التحليلي. أجل، إن حديثنا عن فيتجنشتين سيتمحور عموما حول مسألة اللغة؛ لكن
الناظر الجيد في النتائج التي سيتأدى إليها فيتجنشتين في هذه المسألة، لن
تخفى عليه انعكاساتها على كثير من النقاشات التي ما تزال تثار حاليا في
أوساط فلاسفة التحليل، الإنجليز والأمريكيين على حد سواء. ولا نزعم أن
حديثنا، من حين لآخر، عن بعض هؤلاء الفلاسفة، كاف للإحاطة التامة بجوانب
التأثير التي مارسها فيتجنشتين على هؤلاء الأسماء، ناهيك عن الإحاطة بأسس
وخلفيات الفلسفة التحليلية.




سنكتفي إذن في المقام الأول بعرض بعض المحطات التي كانت حاسمة في
تصور فيتجنشتين للغة علها تسعفنا من جهة أولى في فهم بعض ما يروج في مجال
الفلسفة التحليلية، ومن جهة ثانية في دحض اعتقاد خاطئ يذهب إلى ربط إسم
فيتجنشتين بالوضعية المنطقية دون مراعاة التغييرات الجذرية التي أجراها هو
نفسه على تفكيره. وإذا كنا لا نشك اليوم في أن فيتجنشتين كان نموذجا
للفيلسوف الذي ما فتئ يعدل أفكاره، فقد يكون من المفيد أن نضيف إلى هذا أن
الفلسفة كانت بالنسبة له دائما نشاطا "تشخيصيا" للكشف عن الأعراض والأمراض
التي تلازم معارفنا. هذا ما يصرح به هو نفسه: "الفيلسوف هو الشخص الذي
ينبغي أن يعالج في نفسه عدا من أمراض الفهم قبل أن يتمكن من بلوغ مفاهيم
الفهم الإنساني السليم"(2).




لا تخفى في هذا التعريف الدلالة التشخيصية المقرونة بوظيفة
الفلسفة. وليس من المبالغة في شيء تقريب هذا التحديد من تحديد آخر نجده
بشكل قوي عند نيتشه حيث يتولى "الفيلسوف-الطبيب" مهمة قراءة الأعراض
واستخلاص أمراض الثقافة. فكلا الفيلسوفين يجمعان على الطابع التشخيصي الذي
ينبغي أن يتحلى به التفكير الفلسفي، بل كلاهما ينيط بالفلسفة مهاما أسمى
وأرقى من تلك التي تناط بالعلوم. فحين يقول فيتجنشتين في كتابه ملاحظات
في أسس الرياضيات
بأن "مرض عصر ما يعالج بواسطة تغيير نمط عيش الناس؛
ومرض المشاكل الفلسفية لا يمكن أن يعالج إلا بتغيير نمط التفكير والعيش[
]"(3)،
فإن النبرة التشخيصية تبدو هنا واضحة جدا، على أن هذا الميل إلى التشخيص لا
يلزم أن يفهم منه تمجيد للعمل على حساب الفلسفة. فعلى خلاف بعض القراءات
الضيقة التي تجعل من فيتجنشتين مناصرا للنزعة العلمية على غرار ما جرت به
العادة مع ممثلي حلقة فيينا، نستطيع أن نقول إن معظم مواقف فيتجنشتين كانت
تنحو نحو انتقاد الأوهام التي يولدها الإيمان الأعمى بالعلم. وخير ما يدل
على هذا هو نقده لأسس الرياضيات.




لكن المتتبع الجيد سيفطن بلا ريب إلى أن انتقادات فيتجنشتين قد
وجهت في الغالب إلى الفلسفة؛ وهو أمر لا يتناقض مع ما قلناه حتى الآن، سيما
إذا علمنا أن هذه الانتقادات تنصب، في معظمها، على كيفية استعمال الفلاسفة
للغة وليس على الفلسفة في حد ذاتها. وإذا كانت المباحث الفلسفية
تمتلئ بالأمثلة العديد التي تؤكد هذا النقد للغة الفلسفة، فإن مسار هذا
النقد عند فيتجنشتين يخالف بوضوح المسار الذي اتخذته هذه المسألة عند أقطاب
حلقة فيينا. فلا مجال مع فيتجنشتين لتعويض نقص الخطاب الفلسفي بلغة ورائية؛
كما أن لا مجال لاستبعاد اللغة الطبيعية، فهذه الأخيرة تظل من أولى مرامي
فلسفة فيتجنشتين الأخيرة. ولذلك لن نستغرب إن وجدناه يقول: "عندما يستعمل
الفلاسفة كلمة ما –على سبيل "المعرفة"، "الوجود"، "الموضوع"، "الأنا"،
"القضية"، "الإسم"- ويطمحون إلى حيازة ماهية الشيء، ينبغي التساؤل دائما:
هل فعلا لهذه الكلمة نفس المعنى في اللغة التي تمثل موطنها الأصلي؟ إننا
نعود بالكلمات من استعمالها الميتافيزيقي إلى استعمالها اليومي"(4).




ويمكن العثور في المباحث الفلسفية على أمثلة كثيرة من هذا
القبيل، ذلك لأن حرصه على الانتقال باللغة من استعمالها الميتافيزيقي إلى
استعمالها اليومي إنما يترجم في الواقع حرصه على رد الإشكاليات الفلسفية
إلى أسس اللغة الطبيعية. لكن قبل تفصيل الحديث في الدواعي الفعلية التي
كانت خلف إقبال "فيتجنشتين الثاني" على اللغة اليومية، لابد من التأكيد أن
مسألة اللغة ظلت تستأثر باهتمام فيتجنشتين منذ الرسالة المنطقية
الفلسفية
وإن كنا لا نرى بدا من الاعتراف في المقابل بأن تصوره لها في
فلسفته الأولى مباين، في أكثر من جانب،لتصوره لها في فلسفته الثانية. فهو
لم يكن يرى من سبيل لفهم قضايا الفلسفة إلا بالرجوع إلى اللغة، وعيا منه
بأن إشكالات الفلسفة هي في الأصل إشكالات لغوية. ولعل هذا ما كان يعنيه حين
سيقول بأن "المشاكل الفلسفية تولد حين تكون اللغة في احتفال"(5).
وهذا التلميح يحتمل في حد ذاته معنيين مترابطين: فهو من جهة أولى يربط
مشاكل الفلسفة بوثاق اللغة، لكنه من جهة ثانية يشير إلى أن هاته المشاكل
تحيى وتنتعش حين تُمنَح اللغة ثقة فائقة أو تترك دون رقيب.




والواقع أن كلا المعنيين يفضيان إلى نفس النتيجة ما داما ينتهيان
إلى اعتبار اللغة محور التفكير الفلسفي. وسوف لن نعدم الأمثلة العديدة التي
تبين هذا التصور، إذ سنرى أن الأفكار التي قادت فيتجنشتين من الرسالة
المنطقية الفلسفية
إلى المباحث الفلسفية كانت في مجملها أفكارا
تدور حول اللغة. وقد لا نستغرب إن ألفيناه في فلسفته "الانتقالية" وفي
فلسفته الأخيرة يولي عناية بالغة للنحو الفلسفي، فلمفهوم النحو عنده دلالة
متميزة سوف تأتي على ذكر خصائصها في معرض هذه الدراسة.




1- الطابع التحليلي-الذري لفلسفة فيتجنشتين الأولى




غني عن البيان أن النزعة التحليلية التي رفعها برتراند راسل منذ
أواخر القرن التاسع عشر ضد مثالية برادلي وجواكيم، كانت ترمي في الأساس إلى
اقتلاع الحركات الهيجلية الجديدة التي استفحلت بقوة آنذاك في الفلسفة
الإنجليزية. وإذا كانت الطريقة التحليلية قد اتخذت عنده آنئذ شكل ذرية
منطقية فلأن الخصم الرئيسي كان هو هيجل بفكرته القائلة بوجود حقيقة كلية
وواحدة. فعندما يقابل راسل بين "أكسيوم العلاقات الداخلية" و"أكسيوم
العلاقات الخارجية"، فلكي يفرق بين فلسفة ذات نزعة واحدية ترى العلاقة
مؤسسة دوما على طبيعة الأطراف التي تدخل في علاقة مع بعضها البعض (وذاك هو
حال الهيجلية) وبين فلسفة ذرية ترى، على عكس الأولى، أن أية حقيقة معزولة
يمكن أن تكونحقيقية على نحو تام ومكتمل(6).




وليس من الصعب أن نربط بين هذا التوجه التحليلي الذي نادى به راسل
وبين دعوى وجود حقائق أولية مثلما ذهب إلى ذلك فيتجنشتين في الرسالة
المنطقية الفلسفية
؛ ذلك لأن إقرار الرسالة بأن ما من قضية دالة إلا
وتقوم على قضايا تتأسس على دلائل "بسيطة"، هي من دون شك فكرة لا يستقيم
معناها إلا بردها إلى هذه الطريقة التحليلية التي جهد راسل في وضع دعائمها.




بيد أنه من اللازم إفراغ هذه الدعوى من الحمولات التجريبية التي
ألصقتها بها الوضعية المنطقية. فعندما يؤكد فيتجنشتين على وجود قضايا
أولية، لا يعني بذلك أن وجودها يتوقف على تحققها التجريبي بقدر ما يعني فقط
أنه يتوقف على ضرورتها المنطقية. وهذا بالضبط ما يرمي إليه حين يقول: "وإذا
علمنا أن أسس منطقية خالصة أن من الضروري أن تكون هنالك قضايا أولية، فإن
من اللازم إذن أن يكون معلوما من قبل أي واحد يفهم القضايا في صورتها غير
المحللة"(7). ويواصل تأكيد هذا الطابع المنطقي عندما يرفع
وجودها إلى مستوى قبلي مبعدا إياها عن الدلالة الاختبارية أو التجريبية:
"إذا لم أستطع أن أعين القضايا الأولية على نحو قبلي، فإن من الضروري أن
يفضي ذلك عندما أريد تعيينها إلى لا معنى بديهي"(8). وهذا تنصيص
صريح على ضرورة استبعاد الطرح الاختباري.




ولعل راسل قد دافع هو الآخر عن نفس الفكرة عندما بين بأن الإقرار
بالوقائع الذرية لا يفيد بالضرورة أن بمقدور التحليل الوقوف بالوقائع
البسيطة عند نقطة لا تقبل التحليل، لا فقط لأنه كان يؤمن بأن الأشياء
المركبة تحتمل التحليل إلى ما لا نهاية دون بلوغ ما هو "بسيط"(9)،
وإنما أيضا لاقتناعه بأن نسف هذه الأطروحة يقود إلى السقوط في نوع من
التجريبية المبالغ فيها. ومهما يكن الأمر فإن راسل كان يدرك بأن التسليم
"بالقضايا الذرية" لا تمليه اعتبارات تجريبية بل اعتبارات نحوية أو تركيبية(10).




تلك بعض الملامح التي تشهد على التأثير الذي مارسه راسل، لفترة ما،
على فيتجنشتين. فمن الواضح أن كتاب الرسالة يستمد معظم مبادئه
التحليلية من كتاب نظرية المعرفة الذي أصدره راسل سنة

1913
وضمنه أفكاره التحليلية التي كان على اقتناع بها إلى حدود ذلك التاريخ. وقد
لا يغيب عن ذهن أي أحد أن النزعة الذرية التي تتأسس عليها الرسالة
إنما تعكس في الواقع هذا التوجه التحليلي الذي دافع عنه راسل من قبل
(11).
فليس من الصدفة في شيء أن يعتبر فيتجنشتين بأن من الضروري أن تكون هنالك
موضوعات وحالات أشياء رغم أن العالم مركب إلى ما لا نهاية له، بحيث إن كل
واقعة تتكون مما لا نهاية له من "حالات الأشياء" وكل "حالة شيء" تتكون
بدورها مما لا نهاية له من "الموضوعات"
(12).
فأن يكون العالم بالغ التركيب، لا يلغي إطلاقا وجود موضوعات وحالات أشياء
"أولية"
(13).



2- حدود اللغة في منطق الرسالة:




إذا كان لابد من ربط الطابع التحليلي-الذري للرسالة بتصور هذا
الكتاب للغة، فإن أوجز ما يفصح في تقديرنا عن هذا الطابع هو اتخاذ "فيتجنشتين
الأول" التعريف الإشاري براديجما أساسيا لتوكيد أو نفي المطابقة بين القضية
والواقعة. فمن المعلوم أن هذا البراديجم قد مارس سحره على منطق الرسالة من
منطق انسجامه مع مقتضيات الفلسفة الذرية. وما نعنيه هنا بالتحديد هو انشغال
فيتجنشتين، في فلسفته الأولى، بحصر كل قضية بما تشير إليه. فقد لعبت نظرية
اللوحة (أو الصورة)، التي يقوم عليها عالم الرسالة، دورا رئيسيا في تجزيء
"الواقع" إلى عناصر أولية. لكن الجانب المثير حقا في كتاب الرسالة هو
التوصل إلى المطابقة التامة بين حدود العالم وحدود اللغة، إذ أن كل ما يقيم
"في الجهة" الأخرى من حدود اللغة لا يدخل قط ضمن مجال العالم بل لا يمكن
التفكير فيه.




أجل، إن فكرة الحدود ليست بالأمر العرضي في الرسالة؛ فهيفكرة
مركزية نصادفها منذ التصدير إلى نهاية الكتاب، ونستطيع مواصلة رصدها بعد
هذا الكتاب نفسه. فمما لا شك فيه أن فيتجنشتين قد انشغل في فلسفته الأولى
بتعيين حدود الفكر. ولم يكن هذا الانشغال أمرا طارئا ولا ثانويا، ذلك أن
الرسالة قد وحدت بين ما يمكن قوله وما يمكن التفكير فيه إلى حد أن الإثنين
أضحيا شيئا واحدا. ولهذا فإن حدود التفكير لن تكون سوى حدود اللغة نفسها.
وذاك ما سيؤكد عليه التصدير بشكل صريح: "إن ما يريد هذا الكتاب بلوغه هو
رسم حد للفكر، أو بالأحرى، رسم حد لا للفكر وإنما لتعبير الأفكار؛ ذلك لأنه
كي يتسنى لنا رسم حد للفكر، ينبغي أن يكون في مقدورنا التفكير في جهتي هذا
الحد معا (إذ ينبغي أن نكون قادرين على التفكير في ما لا يمكن التفكير
فيه). وهكذا فإن الحد لن يرسم إلا في اللغة، وما يقيم في الجهة الأخرى من
الحد هو فقط لا معنى"
(14).



قد لا يمانع البعض في تقريب هذا التصور من التصور العام الذي ينطلق
منه النقد الترنسندنتالي لدى كانط؛ إذ لا يخفى على أحد أن النقد الكانطي قد
ارتبطت وظيفته برصد حدود المعرفة الإنسانية. بيد أن القراءة التي تميل إلى
تقريب "فيتجنشتين الأول" من كانط بدعوى أنهما ينطلقان سويا من فكرة
"الحدود"، تظل قراءة مغرضة إذا ما نحن حصرناها عند هذا الحد، فتوقفنا عند
ظاهر التشابه دون تعيين سياق ومقام قولي كل واحد من الفيلسوفين.




والحال أن الاختلاف بين وواضح بينهما. فحديث كانط عن الحدود إنما
يأتي في سياق فلسفة النقد التي تنتدب نفسها لتحديد مصادر الميتافيزيقا عن
طريق فحص إمكانيات وحدود المعرفة العقلية الخالصة. أما حديث فيتجنشتين عن
الحدود فهو يتحدد بسياق لغوي-منطقي، ولا نستطيع فصله عن هذا المجال الذي
تعتبره الرسالة "غير قابل للقول" كما سنرى، إذ لا ريب في أن ما يشغل
فيتجنشتين ليس هو وضع حدود للمعرفة الإنسانية بل الوقوف على حدود اللغة.




ليس من العسير إذن أن نعثر في الرسالة على شواهد أخرى تؤكد هذا
الطرح المنطقي-اللغوي لمسألة الحدود. يقول فيتجنشتين في نص آخر لا يبارح
المعنى الذي ذهبنا إليه: "أن يكون العالم عالمي، فهذا هو ما يظهر في كون أن
حدود اللغة (اللغة الوحيدة التي أفهمها) تدل على حدود عالمي"
(16).
ففي هذه الشذرة تبدو مرة أخرى الصلة القوية التي تجمع بين "حدود اللغة"
و"حدود العالم" بحيث يصير جليا، عند كل متمعن في هذا المقطع، أن الإشكالية
التي يعالجها فيتجنشتين تخالف في مضمونها الإشكالية التي انتدب النقد
الترنسندنتالي نفسه لمعالجتها.




ولا يقف حديث فيتجنشتين عن مسألة "حدود اللغة" عند الرسالة وحدها،
فنحن نستطيع أن نتابع بعض مظاهر هذه الإشكالية في كتبه اللاحقة، أو
بالتحديد في ما يصطلح على تسميته بالمرحلة الانتقالية التي تقع زمانيا بين
الأعمال التي تلت الرسالة وبين تلك التي تمتد إلى ما قبل المباحث
الفلسفية
بقليل (أي ما بين
1929
و
1936
رغم أنه قد شرع حينئذ في مراجعة وانتقاد الأطروحات الكبرى التي قامت عليها
الرسالة. فإذا أخذنا على سبيل المثال كتاب النحو الفلسفي، الذي يعد
من بين أهم الكتب التي تمثل فلسفته الانتقالية، فإننا سنجد مسألة حدود
اللغة مطروحة في ارتباط بما "لا يمكن التعبير عنه" رغم أن تصوره للغة بات
يأخذ صورته هنا داخل نظرية "قواعد الحساب".




أما الشاهد على ذلك فيمكن تبنيه في مقطع من النحو الفلسفي
على الرغم من أن القضية التي تهمنا لا تظهر فيه إلا في الدرجة الثانية.
يقول فيتجنشتين: "... لكن اللغة يمكن مع ذلك أن تتطور" هذا أمر أكيد، بيد
أنه إذا كان لكلمة "تطور" معنى في هذا السياق، فإنه ينبغي أن أعرف من الآن
ماذا أعنيه عندما أستعملها، إذ ينبغي علي أن أكون قادرا على تعيين ما
أتمثله في هذا التطور. وما لا أستطيع الآن التفكير فيه، لا أستطيع أيضا
لا التعبير عنه ولا تعيينه
. وكلمة "الآن" تدل هنا على "ما في هذا
الحساب" أو "حين تكون الكلمات مستعملة حسب هذه القواعد النحوية" [...] لا
وجود لأي دليل ولا لأية حجة تقوداننا فيما وراء نفسيهما [...]"
(17).



هكذا يتبين أن قوة هذا المقطع، وإن كانت تنصرف بشكل خاص إلى إثبات
صلة اللغة بالحساب، فهي تشير جزئيا إلى حدود اللغة من خلال التأكيد على
استحالة التفكير في ما لا نستطيع التعبير عنه. وهي كما سنرى فكرة مركزية في
الرسالة. بيد أن المتفحص الجيد قد لا يمانع في الإقرار بوجود نفس الفكرة في
أعمال فيتجنشتين الأخيرة مع مراعاة كل التلوينات التي طرأت على هذه الفكرة.
ولنتأمل في الشذرة التالية التي تتضمنها المباحث الفلسفية: "تكم
نتائج الفلسفة في الكشف عن بعض جوانب اللامعنى وكذا الصدمات التي تلقاها
الفهم خلال جريه وراء حدود اللغة. وهذه الصدمات هي التي تسمح لنا بالتعرف
على قيمة هذا الاكتشاف"
(18).



وبالرغم من أن هذه الشذرة تحتمل أكثر من تأويل
(19)،
فإنا نميل هنا إلى القول بأن فكرة "حدود اللغة" لن تختفي تماما من فلسفة
فيتجنشتين الثانية، إذ ليس هناك أي مانع من تعايشها مع نظرية "ألاعيب
اللغة" التي باتت تحظى بالدور المركزي في المباحث الفلسفية. ولا نرى
في الواقع ما يتناقض مع الإقرار بها هنا ما دامت تخلص إلى توكيد حرص "فيتجنشتين
الثاني" على كشف مظاهر اللامعنى التي تترتب على القضايا التي تولدها حدود
اللغة.




لكن فكرة حدود اللغة لا يمكن بدورها أن تستقيم في ذهننا إذا لم
نضعها على خلفية تمييز أساسي وارد في الرسالة: إنه التمييز بين "ما يمكن
قوله" وبين "ما يكتفي بإظهاره" أو الإشارة إليه. فعلى هذا التمييز تتأسس
الكثير من أفكار الرسالة.




3- اللغة بين "ما يمكن التكلم عنه" وما يكتفى "بإظهاره"




لا يخفى على أحد أن فيتجنشتين ينطلق في الرسالة من التمييز بين
مجالين: مجال يمكن "التكلم عنه" أو قوله ومجال لا نملك إلا القدرة على
"إظهاره" أو "الإشارة إليه" على شاكلة ما نفعله عادة حين نقول: هذا كذا أو
هذه كذا. وليس لقائل أن يقول بأن خوض الرسالة في مجال "غير القابل للتكلم
عنه" هو ضرب من اللاعقلانية وخروج عن حدود العقل، لأن الاستيعاب الجيد
لمضمون هذه الدعوى التي جاءت بها الرسالة كما سنرى، ينفي عنها في الواقع كل
دلالة سحرية أو لاهوتية. إن فيتجنشتين بتحديده للمجال "غير القابل للقول"
لم يكن يرمي إلى تثبيت "عالم آخر" تعجز فيه اللغة عن قول ما تريد قوله، ذلك
لأن دوافع تحديده لهذا المجال لم تكن قط هيرمينوطيقية بقدر ما كانت
منطقية-لغوية.




وعلى أي حال، فإن فهم الوضع الذي يتبوؤه المجال "غير القابل للتكلم
عنه" في الرسالة، لا يمكن أن يتم عندما نفصله عما يكتفى بإظهاره، ولعل
وقوفنا بقليل من الإمعان عند فحوى الشذرتين التاليتين، من شأنه أن يوطد هذه
العلاقة ويرفع الإبهار الذي قد يوقعنا فيه كل تأويل سيء ومتسرع: يقول
فيتجنشتين في الشذرة الأولى: "يمكن للقضية أن تعرض
(20)
الواقع في مجموعه، لكنها لا يمكن أن تعرض ما يجب أن يكون مشتركا بينها وبين
الواقع حتى تتوصل إلى عرضه، أي الصورة المنطقية. ولكي نتمكن من عرض الصورة
المنطقية يجب أن نتمكن من التموقع مع القضية خارج المنطق أي خارج العالم"
(21).



ويقول في الشذرة الثانية: "إن القضية لا يمكن أن تعرض الصورة
المنطقية، فهذه الأخيرة تنعكس على ذاتها في القضية. وما ينعكس على ذاته في
اللغة، فإن اللغة لا تستطيع عرضه [أو تمثيله]. إن ما يعبر عن ذاته في اللغة
لا نستطيع نحن ذاتنا التعبير عنه بواسطة اللغة. إن القضية تظهر [أو تشير
إلى]
(22)
الصورة المنطقية للواقع. إنها تبرزها"
(23).



إذا تقرر عندنا في الشذرتين أن هناك مستوى لا يمكن تمثله، فإن معنى
هذه العبارة لن يستقيم في ذهننا إلا إذا علمنا أن فيتجنشتين يفترض هنا
عنصرين يبدو أن بينهما علاقة وطيدة: العنصر الأول، يقوم على استحالة وصف
اللغة من الخارج. ومؤداه أن اللغة شاملة؛ وحيث إن الأمر كذلك فإنه لا يتصور
أن يكون هناك وضع نكون فيه ما وراء اللغة لوصف اللغة. أما العنصر الثاني،
فيقوم على التسليم بأن العلاقات الدلالية التي تضبط توافق اللغة مع العالم،
هي دوما مستويات "غير قابلة للقول" لأنها مقتضيات موجودة سلفا. وفي هذا
السياق يأتي حديثه عن "الصورة المنطقية" باعتبارها هذه العلاقة الدلالية
المشتركة بين اللغة والواقع.




فإذا عدنا إلى الشذرتين معا، وجدنا فيتجنشتين يلح على عدم تمثيل
العبارة للصور المنطقية التي تربطها بالواقع لاعتبار أساسي هو أن هذه الصور
تنعكس على نفسها في العبارة ولا تحتاج إلى لغة ثانية لتمثيلها كما سنرى
لاحقا في هذه الدراسة. ولما كانت اللغة حسب الرسالة هي مجموع شامل لا يمكن
تصور عالم آخر ما وراءه، فإن كل تمثيل للصور المنطقية يستدعي الإقامة خارج
المنطق. وهذا ضرب من الاستحالة في نظر الرسالة لأن ذلك يستلزم في هذه
الحالة الإقامة خارج العالم.




وقد لا يتطلب الأمر مجهودا عظيما لإدراك الخلفية التي تفترضها
الشذرتين: فهما تؤكدان على التمييز السابق بين "ما يقبل القول" و"ما يكتفى
بإظهاره". ولهذا تقول الشذرة الثانية بأن ما يعبر عن نفسه في اللغة، لا
نستطيع نحن أنفسنا التعبير عنه بواسطة اللغة؛ وهذه الدعوى لا تنطوي، حسب
منطق الرسالة، على أي تناقض لأنها تحيل هنا على "ما يكتفى بإظهاره أو
الإشارة إليه".




ولقد لقيت هذه الدعوى صدى كبيرا في أوساط شراح ونقاد فيتجنشتين
بحيث لا نكاد نجد واحد منهم يغفل الإقرار بدورها المركزي في الرسالة، إلى
حد أن أغلبهم يعدها العمود الفقري لفلسفة فيتجنشتين الأولى. ولعل دراسة
ميريل وجاكو هنتيكا هي واحدة من بين أطراف وأدق الدراسات التي تولت هذه
المسألة بعناية بالغة بحثا وتنقيبا.




أما طرافتها ودقتها فتعودان إلى اجتهاد هذين الباحثين في الربط
بإحكام بين المجال الذي "يكتفى بإظهاره" وبين مقتضيات لسانية-منطقية عامة.
إن فكرة المجال الذي "يكتفى بإظهاره" تستمد أصلها حسب جاكو هنتيكا وميريل
هنتيكا من مصدرين منصوص عليهما في الرسالة: المصدر الأول يقوم على أطروحة
عامة مفادها أن جميع العلاقات الدلالية هي دوما "غير قابلة للقول". أما
المصدر الثاني فيقوم على أطروحة خاصة مفادها أن الموضوعات البسيطة وكذا
صورها المنطقية هي الأخرى من مستوى "غير قابل للقول"
(24).



ولنعد إلى الأطروحة الأولى لتفصيل الحديث عنها: إذا وضعنا في
الاعتبار أن ما يدعوه هذان الباحثان "علاقات دلالية" هي جملة ما تسميه
الرسالة علاقات التوافق الناشئة بين العبارة وبين الوقائع الذرية (أو في
كلمة واحدة هي المعنى الذي يكتفى بإظهاره)، فإننا سندرك بأن هذه العلاقات
لا تدخل في حيز "ما يمكن قوله" لأنها -كما مر معنا- مقتضيات مفترضة لكن
"غير مشار إليها". وعلة ذلك أن هذه العلاقات الدلالية، أو بالتحديد هذه
العلاقات "الإسقاطية" كما تسميها الرسالة، تنزل في منزلة ما يربط العبارة
بالوقائع الذرية لكنها تظل بمنأى عن التعبير؛ إذ لما كانت القضية لا تمثل
سوى الوقائع في مجموعه مع استحالة تمثيلها لما هو مشترك بينها وبين الواقع،
فقد اتضح حينئذ لماذا تبقى العلاقات الدلالية من مستوى ما لا يمكن تمثيله.




أما تفصيل الأطروحة الثانية فيستوجب الوقوف عند الموضوعات البسيطة
التي تحفل بها الرسالة، إذ أن وجود هذه الموضوعات لا يمكن إلا أن "يشار
إليه" باستعمال أسمائها في اللغة؛ فهي لا تدخل في مجال "ما يمكن قوله"
وإنما في مجال "ما يكتفى بالإشارة إليه أو إظهاره". وبما أن الرسالة ترى
بأنه بمجرد ما تعطانا الموضوعات، تعطانا في الآن نفسه كل الموضوعات؛ فهي
تخلص إلى نفس النتيجة بالنسبة للقضايا الأولية: فبمجرد ما تعطانا القضايا
الأولية تعطانا في الآن نفسه كل القضايا الأولية
(25).



ونتيجة لذلك فإن العالم من حيث هو كل يدخل في مجال "ما لا يقبل
القول" لأن حدوده هي الأخرى غير قابلة للقول حسب الشذرة

5.61
التي تجعل من حدود العالم هي ذاتها حدود المنطق. وأما علة عدم قابلية حدوده
للقول، فيرجع إلى أنها تتحدد بمجموع الموضوعات البسيطة وبمجموع القضايا
الأولية.




وتتفرع عن هذه المسألة نتيجة أخرى تنتهي إلى الإقرار بأن كل الصور
المنطقية التي تتأسس انطلاقا من موضوعات بسيطة، تدخل في مجال "ما لا يمكن
قوله". ويذهب كل من جاكو هنتيكا وميريل هنتيكا بعيدا في تأويلهما لهذه
النقطة، إذ يعتبران بأنه لما كان فيتجنشتين يرى من الاستحالة قول ماهية
الموضوع البسيط فإن من الاستحالة أيضا قول صورته المنطقية. أما تعليل ذلك
فيرجعانه إلى فكرة عدم قابلية قول الصور المنطقية، نتيجة لفكرة رد جميع
الصور المنطقية إلى الموضوعات البيسطة
(26).



وعلى العموم فإن الاقتصار على حصر كبرى قضايا الرسالة في مجال "ما
يمكن التكلم عنه" دون الاكتراث كثيرا بقضية "غير القابل للتكلم عنه"، قد
يحجب عن صاحب هذه الدعوى جانبا لا يقل أهمية عن الدعاوى الأخرى التي
تتضمنها الرسالة، نعني هنا مسألة "الصوفية" التي يشدها إلى مشكل "اللامعبر
عنه" أكثر من رابط. فهذا فيتجنشتين يقول: "إن هناك من دون شك جانبا غير
قابل للتكلم عنه. وهذا الأخير يشير إلى نفسه إنه هذا العنصر الصوفي"
(27).
لكن هذا الجانب الصوفي يستوجب توضيحا سريعا لإزالة بعض التأويلات الخاطئة
التي نسجت حوله رغم أن لا أحد يستطيع إنكار صعوبة تدقيق مدلوله في استعماله
من قبل فيتجنشتين.




فعلا، من أعقد القضايا التي تثيرها هناك مشكل "العنصر الصوفي" الذي
نستطيع اعتباره مظهرا من مظاهر ميتافيزيقية هذا الكتاب. لكن التأويل السيئ
الذي يميل إلى تقريب هذه القضية من فكرة المكاشفة والذوق، قد يحجب عن صاحبه
المدلول الفعلي الذي دعا فيتجنشتين إلى إثارة "العنصر الصوفي" عند نهاية
الرسالة؛ فالواقع أن "صوفية" هذا الكتاب لا ينبغي أن نفهم على غرار ما
نعنيه عادة بالتصوف. إن فهمها على نحو صحيح يستدعي ربطها بما لا يمكن للغة
التكلم عنه كما ينصح بذلك فيتجنشتين نفسه. وهذا معناه أن الجانب الصوفي هو
ما يكتفى بإظهاره أو الإشارة إليه. وبفعل هذا فإن له في الرسالة مظاهر
مختلفة نستطيع حصرها في العلامات التالية:




أ- مةن اللغة لا تستطيع التكلم عن "فعل" اللغة بل تكتفي بإظهاره.




ب- كونها لا تحتاج إلى لغة ورائية أو لغة شاملة قادرة على التعبير
عن كل ما يمكن التكلم عنه.




ج- كونها لا تستطيع أن تقول ما هو العالم بل فقط حصر مجموع حالات
الأشياء الموجودة.




د- كونها تكتفي بحصر القضايا الأولية دون القدرة على تحديد ما هي
اللغة.




هـ- كونها تكتفي بإظهار وجود "الموضوعات" دون التمكن من قولها
(28).



ولعل الناظر في هذه المظاهر قد لا يفوته الانتباه إلى المكانة
المرموقة التي تحتلها فكرة العالم ضمن التمييز الذي تضعه الرسالة بين "ما
يمكن التكلم عنه" وما "يكتفى بإظهاره". فمما لا ريب فيه أن فكرة العالم
توجد في قلب مسألة اللغة لا فقط لأن فيتجنشتين كان منشغلا في فلسفته الأولى
برصد علاقات المطابقة التي تقوم بين العبارة والواقعة، وإنما أيضا لأن جزءا
عظيما من مجهوده كان منصرفا إلى وضع حدود بين "ما يمكن التكلم عنه" وما "يكتفى
بإظهاره".




4- اللغة وفكرة العالم:




بالرغم من أن غالبية النقاد تعتبر الرسالة كتابا في المنطق، فإننا
لا نستطيع إنكار جانبه الميتافيزيقي ولا أيضا بنيته الأنطولوجية. فالراجح
عندنا أن فيتجنشتين قد اضطر دوما إلى مواجهة مسائل ميتافيزيقية على الرغم
من حرصه على تفادي الخوض في متاهاتها. ويكفي تفحص كتاب الرسالة لكي يتبين
أنه قد انطلق من البحث في أسس المنطق واللغة ليجد نفسه أمام مشكلة العالم،
وبالتحديد أمام "وجود العالم". وهذه النقطة تكتسي في نظره قيمة خاصة بدليل
قوله: "إن الجانب الصوفي ليس هو: كيف يوجد العالم، بل هو كونه موجودا"(29).




وإذا استحضرنا في ذهننا أن الجانب الصوفي هو مرادف "لما لا يمكن
التكلم عنه"، فإن وجود العالم هو أمر يكتفى بإظهاره دون التعبير عنه. لكن
الرسالة لا تقتصر على إبراز هذا بل تفرض على العالم الشروط المنطقية التي
يتعين عليه احترامها لكي تصير اللغة أمرا ممكنا؛ فكل ما يتعدى حدود اللغة
هو ضرب من اللامعنى. ويبدو أن هذه الصرامة المنطقية هي التي تجعل فكرة
العالم تابعة لقيود اللغة، فما يبتغيه فيتجنشتين هو إحلال "رؤية صحيحة
للعالم" محل "رؤية خاطئة". لكن، أليس هذا ذاته ما كان يقصده في الشذرة ما
قبل الأخيرة من كتاب الرسالة حيث يكون على القارئ الذي يفهم فيتجنشتين فهما
جيدا أن يتغلب على قضاياه لكي "يرى العالم بعدئذ بشكل صحيح"(30)؟




ترى ماذا يعني فيتجنشتين عندما يتحدث عن "رؤية العالم بشكل صحيح"؟
هل يقصد رؤية العالم وفق أنطولوجيا الرسالة أم وفق حدود اللغة؟ الواقع أن
كلا الأمرين شيء واحد، سيما إذا أدخلنا في الحسبان أن حدود العالم هي ذاتها
حدود اللغة. فمتى أمعنا النظر مليا في الكتابات التي تلت الرسالة، وجدنا
حرص فيتجنشتين على إظهار أن النحو يفرض دوما كيفية محدودة لرؤية العالم،
بحيث يبدو كما لو أن لا وجود سوى لهذه الكيفية. ومن هنا فإن "ما يمكن للغة
أن تقوله هو فقط ما بإمكاننا تمثله على نحو آخر"(31). وإذا كنا
من جهة أخرى لا نضع العالم موضع تساؤل جذري، فلأننا لا نملك، في نظر
فيتجنشتين، صورة أخرى مناقضة لصورة عالمنا(32)؛ فنحن في جميع
الأحوال لا نسقط على العالم سوى الصورة المنطقية ذاتها التي نتناقلها
بواسطة لغتنا.




واضح إذن أن صورة العالم هي من صورة اللغة؛ لكن هذا ذاته ما يفرض
على العالم قيودا لغوية، أو لنقل قيودا نحوية: "إن ماهية اللغة هي صورة
لماهية العالم؛ والفلسفة، باعتبارها المدبرة للنحو، يمكن فعلا أن تمسك
ماهية العالم لا في قضايا اللغة بلا ريب، وإنما في قواعد هذه اللغة التي
تقصي توليفات الدلائل التي تفضي إلى اللامعنى"(33).




غير أن مقصد فيتجنشتين -وعلى عكس ما قد يوحي به كلامه ظاهريا- لا
يتمثل إطلاقا في تكرار ما رددته الكثير من الفلسفات التقليدية، نعني
الفلسفات التي انتدبت نفسها لتعيين تخوم العالم داخل أطر اللغة، لاعتبار
أساسي هو أنه ينكر وجود أساس "موضوعي" يمكن من تحقيق ذلك. فمتى أدركنا عدم
توفر هذا الأساس، أدركنا في الآن نفسه أن اللغة لا يمكن أن تدل إلا على
عالمها؛ وعليه فإن عالمها هو دوما من قبيل ما هو مسلم به. يقول فيتجنشتين:
"هناك محاولة تنبعث باستمرار لتحديد العالم داخل اللغة وجعله مرئيا-لكن هذا
لا يمكن أن يتم. إن العالم مسلم به، وهذا شيء يعبر عنه بالضبط في كون أن
اللغة لا تملك إلا هذا العالم –ولا يمكن أن تملك إلا هذا- للدلالة عليه.
وحيث إن اللغة لا تستمد كيفيتها في الدلالة سوى من دلالتها على العالم،
فإنه لا تتصور لغة لا تمثل هذا العالم"(34).




وعلى الإجمال، فإن تأويلنا لن يكون مغرضا ولا مبالغا فيه إن نحن
استخلصنا من هذا الموقف الذي يقفه فيتجنشتين نقدا "للنزعة الموضوعية"
ولخلفياتها الفلسفية. ولعل ماسلاو كان على حق حين اعتبر أن الرسالة جاءت في
مجملها لتقويض خطإ فلسفي عمر طويلا، خطإ اختار هذا الباحث تسميته "المنظور
الملائكي"؛ وهو يعني به هذا المنظور "الموضوعي" الذي يعتقد في إمكانية
التعبير عن العالم من نقطة خارج العالم الذي يقيم فيه الناظر(35).
من هنا فإن نقد "المنظور الملائكي" يتولى دحض التصور الذي ينزع إلى
الاعتقاد في إمكانية الإقامة "داخل" اللغة و"خارجها" في آن واحد.




ولا يخفى أن هيلاري بوتنام قد انتبه هو الآخر إلى هذا التصور
الميتافيزيقي واعتبره سمة عامة تطبع الكثير من مواقف الفلاسفة، فسماه
"المنظور الإلهي" كناية على هذه النزعة الموضوعية المستفحلة في أوساط
الفلاسفة. ونحن واجدون نفس التصور عند ريتشارد رورتي في معرض انتقاده
لتاريخ الميتافيزيقا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

فيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية- :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

فيتجنشتين ومسألة اللغة -في أصول الفلسفة التحليلية-

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» الفلسفة التحليلية - لودفيج فيتجنشتاين محمد زكريا توفيق
» أصول الفلسفة العربية
» الفلسفة وقضايا اللغة؛ قراءة في التصور التحليلي
»  [ اللغة كخاصية إنسانية ] [ علاقة اللغة بالواقع ] [ علاقة اللغة بالفكر ] [ الوظائف التواصلية للغة ] [ ماوراء الوظيقة التواصلية للغة ]
» جاك دريدا ومسألة الاختلاف

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: