بقلم : . . حمود حمود
جمهوريّةُ اللَّه: من مكّة إلى طهران حمود حمود «في إيران فُصل بعد الثورة فقط بين الملكيّة والديكتاتوريّة. لكنّ
الأخيرة أُعيد إنتاجُها (...) بشكلٍ غريب سُمّي الجمهوريّاتيّة
الإسلاميّة.» (فريدة فرحي)(1)
في 1/2/1979، وصل الخميني (1902 - 1989) إلى طهران قادمًا من فرنسا،
فعَقد مؤتمرًا صحافيّاً حدّد فيه برنامجَه السياسيّ على الوجه الآتي 1 ـ
أنّ الرأي العامّ والشعب اعترفا به زعيمًا للبلاد. 2 ـ أنه عَيّن حكومةً
مؤقتةً لإجراء استفتاء. 3 ـ أنّ معارضة الحكومة التي عيّنَها تُعدُّ
معارضةً لحكم الله. وعلى الفور كلّف مفكّرَ الثورة الإيرانيّة ومهندسَها
مهدي بازرجان (1907- 1959) رئاسةَ الحكومة المؤقتة، كما كلّفَه بإجراء
استفتاءٍ عامّ حول تغيير النظام السياسيِّ من الملَكيّة إلى الجمهوريّة
الإسلاميّة.(2)
وبذلك دخلتْ إيران عهدًا سياسيّاً جديدًا وُصف بأنه «جمهوريّ،» وزيدتْ
عليه صفةُ «إسلاميّ.» وعلى الرغم من حمل دولٍ إسلاميّة (باكستان،
موريتانيا) هاتين الصفتين قبل إيران، فإنه حين يشارُ إلى «الجمهوريّة
الإسلاميّة» في الشرق عمومًا تَحْضرُ إلى الذهن الجمهوريّةُ الإسلاميّة
الإيرانيّة قبل أيّة دولةٍ أخرى. وفضلاً عن ذلك، فإنّها الدولة الوحيدة
التي لم تكتفِ بإيصال الإسلاميين إلى السلطة كما حدث في السودان
وأفغانستان، بل خلقتْ كيانًا سياسيّاً للإسلاميين يسترشد بـ «أصوليّة
جمهوريّة»: لا هي أصوليّة دينيّة بالمعنى الحرفيِّ، ولا شكلُ الحكم فيها
«جمهوريّ» على وجه الدقّة. فنحن لا نجد في الفكر السياسيّ للحكّام الجدد
ما يبعث على الاعتقاد بأدلجة الإسلام السياسيّ الشيعيّ ليتناسبَ مع نظام
سياسيّ «جمهوريّ إسلاميّ.» بدلاً من ذلك ركّز الإسلاميون الإيرانيون على
تأصيل الحكم الجديد إسلاميّاً، وعلى جعله محقِّقًا لحُلم الأنبياء؛ هكذا
نقرأ للعلاّمة أحمد الفهري: «ماذا أكتب في شأن الجمهوريّة الإسلاميّة
العظمى في إيران...؟ ماذا أقولُ عمّن هدمَ كلَّ تلك الحواجز والموانع
وأزال كلَّ الصعاب وحقّقَ حلمَ الأنبياء والرسولِ الأعظم (ص) والأئمّةِ
المعصومين عليهم السلام...؟(3)» بمعنى آخر، ما بشّرَ به محمّد في مكّة،
أتى الخميني بعدَه بمئات السنين فجسّدَه في طهران. وإذا كان عليٌّ هو مَنْ
مثَّل محمدًا، فإنّ الخميني هو مثالُ عليّ وأمثولتُه، وهو الذي سيمهّد
لحكومةٍ قادمة، هي حكومةُ المهديّ.(4)
عن جمهوريّة الخميني هذه، الممهِّدةِ لحكومة المهديّ، ستدور هذه
الورقةُ، التي لن تناقش طبيعةَ الشكل السياسيّ لنظام الخميني الجمهوريّ،
بل إشكاليّة اصطلاح «الجمهوريّة» داخل سياقِ أدلوجة الخميني؛ فنكتشف لماذا
كان بازرجان، رئيسُ الحكومة المؤقّتة بعد الثورة، يكرّر في ظلِّ جمهوريّة
الخميني: «لقد أعطوني سكّينًا بلا نصل، بينما وُضِع النصلُ في أيدي
الآخرين!»(5)
ممهّدات ظهور «الجمهوريّة» في فكر الخميني
دخل المصطلح قاموسَ الخميني أثناء فترة إقامته في فرنسا (التي دخلها
في 12/01/1978)، وفي سياق بدء غليان الشارع الإيرانيّ ضدّ الشاه.
قبل
الثورة، وقبل أن يسيطر الملالي على الفضاء السياسيّ والفكريّ، كان الطرح
الجمهوريّ جزءًا من التراث الإيرانيّ السياسيّ المعارض، بل كان في كثيرٍ
من الأحيان مطلبًا من مطالب الحركات المعارضة، ولاسيّما اليساريّةُ، في
سبيل التخلّص من الملكيّة الاستبداديّة وإرساء جمهوريّةٍ مدنيّة
ديمقراطيّة. إلا أنّ الذي كان يدورُ في خلدِ الخميني بعيدٌ عن هذا تمامًا
كما سيأتي.
لعلّ من الهباء البحث عن أساسٍ للفكر الجمهوريّ داخل أحضان
الإيديولوجية الإسلاميّة السياسيّة، سواءٌ عند الأطراف السنيّة أو
الشيعيّة؛ ذلك أنّ كلاً منها يحمل منظومةً سياسيّةً ذاتَ بُعدٍ معرفيّ،
تفترق في العمق عمّا أسّسته الإيديولوجيةُ الجمهوريّةُ في عصر الحداثة.
لكنْ يبقى السؤالُ: لماذا اختار الخميني وصفَ ما كان يحلمُ به بـ
«الجمهوريّة» لكنّه رفض في الوقتِ نفسه إدخالَ اصطلاح «الديمقراطيّة»؟ لقد
تبلور الصراعُ منذ البداية مع بازرجان حول مفهوم الجمهوريّة: فأصرَّ
بازرجان على أنْ يكون الاقتراعُ الشعبيّ بعد الثورة محصورًا بين خيارين،
الجمهوريّة الديمقراطيّة أو الجمهوريّة الإسلاميّة، في حين أصرّ الخميني
على أن يكونَ الاقتراعُ على الجمهوريّة الإسلاميّة فقط. وسواءٌ أكان رفضُه
هذا لأنّه اعتبرَ أنّ إدخالَ لفظة «الديمقراطيّة» سيعني أنّ الإسلام ليس
ديمقراطيّاً،(6) أمْ لأنّها اصطلاحٌ غربيٌّ كافر،(7) فإنّ الرجل لم يجدْ
أدنى تعارضٍ بين اصطلاحيْ «إسلاميّ» و«جمهوريّ.»
من المؤكّد أنّ الثورة الإيرانيّة على الشاه كانت محصّلةَ إجماع
أغلبيّةٍ مطلقةٍ من الشعب الإيرانيّ، وشاركتْ فيها كلُّ التيّارات
السياسيّة التي تحالف زعماؤها في باريس. ويقال إنّ دستور إيران كُتِبَ في
باريس قبل انتصار الثورة، وأنه شدّد على حكم الشعب والديمقراطيّة والعدالة
الاجتماعيّة من دون الإشارة إلى أدلوجة ولاية الفقيه. لكنّ الذي حدث بعد
الثورة ناقض الأساسيّاتِ التي اتَّفق عليها الخميني وأقطابُ المعارضة،
لينتهي أغلبُهم إلى التهميش أو الموت أو السجن. ولهذا السبب يمكن إنكارُ
أنها ثورة «دينيّة»: فما يتمّ تجاهلُه في الرواية الشائعة هو أنّ مهندسي
الثورة وقادتها كانوا من كافّة الشرائح والأطياف السياسيّة، بمن فيهم
القادة الروحيون الدينيون والليبراليون، إضافةً إلى القادة الوسطيين الذين
اشتغلوا على مشاريع «الوطنيّة الدينيّة الإيرانيّة» - وقد جمع الكلَّ هدفٌ
مشتركٌ هو التخلّص من الشاه والانتقال إلى حكمٍ ديمقراطيّ. وفي هذا الشأن
يمكن اعتبارُ إيران من أبرز دول المنطقة التي نضجتْ فيها أفكارُ
الليبراليّة والجمهوريّة والديمقراطيّة في أوساط المعارضات السياسيّة
والثقافيّة: فقد طُرحتْ فكرة قيام الجمهوريّة لأول مرة في إيران منذ أوائل
الربع الثاني من القرن العشرين أيّام رضا خان ضدّ الأسرة القاجاريّة، لكنّ
هذه المطالبة فشلتْ بسبب تحالف رضا خان مع رجال الدين؛ وهو ما تبلور في
إطار أحزابٍ وحركاتٍ ثقافيّةٍ واتجاهاتٍ علمانيّةٍ عدّة.
يقسم بعضُ الدارسين التيّارات الجمهوريّة في إيران قبل نشوء جمهوريّة
الخميني إلى ثلاثة(8): أ) جمهوريّ أصوليّ (FIR) سيطرَ وما زال على مقاليد
الأمور. ب) جمهوريّ علمانيّ (SR) (حزب توده) أُجهضتْ مسيرتُه. ج) جمهوريّ
إسلاميّ ليبراليّ (LIR) أدّى الدورَ الأبرزَ في الثورة الإيرانيّة ضدّ
الشاه، فكان قادتُه الوجه السياسيّ للثورة ولفكرة الجمهوريّة الإيرانيّة،
بل قادوا هذه الجمهوريّة في مراحلها الأولى (1979 ـ 1981)، وإنْ شكليّاً،
قبل سيطرة المحافظين. ومن أبرز وجوه التيار الليبراليّ: مهدي بازرجان،
مؤسّسُ الجامعة في طهران في ثلاثينيّات القرن الماضي، وأبو الحسن بني صدر،
الذي كان أوّل من استلم منصبَ رئاسة الجمهوريّة بعد الثورة. وبذلك يصحّ
القولُ بوجود «جمهوريين إيرانيين» قبل قيام جمهوريّة الخميني الإلهيّة،
قعّدوا الأجواءَ السياسيّة والمدنيّة والحداثيّة، وأجروْا إصلاحاتٍ
دينيّة، وحَمَلوا تصوّرًا للثورة من مرحلتين: التخلّص من الشاه، وإقامة
عدالة اجتماعيّة بحيث يكون مصدرُ القرار هو الشعب ـ وهذا هو الحكم
الجمهوريّ. يفضي العرضُ السابق إلى فكرتين أساسيتين:
أولاً: أنّ الجمهوريّاتية كفلسفةٍ سياسيّة، وكشكلٍ لنظام حكم، ليست
جديدةً على تاريخ إيران السياسيّ، بل كانت تقع في بؤرة تفكير مهندسي
الثورة. فحين تمّت الاتصالات بين قادة الثورة ووجوهها من الليبراليين
وآيات الله المتنوّرين وبين الخميني، اتُّفقَ على انتقال إيران من ملكيّة
شاهنشاهيّة إلى حكم ديمقراطيّ جمهوريّ شعبيّ. لكنْ عندما تحقّق هذا
ظاهريّاً بعيْد الثورة، بدأ رجالُ الدين يسيطرون على مقاليد الأمور،
وبخاصّةٍ في آليّة اتخاذ القرار، ليسحبوا البساطَ من تحت أرجل قادة
الجمهورية الليبراليين: مهدي بازرجان أولاً وحكومته، وبني صدر ثانيًا.
ويُنقل عن الأخير أنه قدّم إلى الخميني مجموعة من الأسئلة تتعلّق
«بالإسلام والسلطة، والإسلام والعنصريّة، والإسلام والعنف. أجوبة
[الخميني] كانت أنْ لا تدخّلَ لرجال الدين في أعمال السلطة، وأنّ
التعدّدية السياسيّة ضروريّة، وأنّ الدولة الإسلاميّة المنشودة ستكون
ديمقراطيّة يحكمها الشعب، أيْ ولاية الجمهور.» لكنْ، على ما يُكمل بني
صدر، «بعد تسلّمه للسلطة مباشرةً، بدأ بخرق الدستور، فأخذ إقرارًا بتعيين
رئيس ومدّعٍ عامّ لمحكمة التمييز العليا وللمجلس الأعلى للقضاء... وبعدها،
وفي خطب الجمعة، شجّع رجالَ الدين على تزوير الانتخابات للوصول إلى
البرلمان. ذهبتُ إليه وقلتُ له إنّ هذا الأمر مرفوض. أجابني أنْ لا كلمة
للشعب، الكلمة لرجال الدين.»(9)
ثانيًا: إذا كانت فكرة الجمهوريّة في إيران نتيجةً لدفْعٍ من القاعدة
السياسيّة المعارضة، ولتراكمٍ سياسيّ وثقافيّ عريق، فإنّ موافقة الخميني
عليها تمّت لاحقًا بنحوٍ مقلوب. ذلك أنّ ما أسّسه لم يكن سوى «جمهوريّة من
فوق،» أو إعادة جمهرة الرعيّة داخل كيان سياسيّ. ولهذا، لم تكنْ موافقته
على اصطلاح «الجمهوريّة» إلا لإفراغ إيران بكاملها من الجمهورياتيّة - ومن
هنا نفهم حيثيّات رفضه اصطلاحَ «الديمقراطيّة» بجانب «الجمهوريّة.» إنّ
حكومة بازرجان، التي جمعتْ بين أوجه الثورة السياسيّة على اختلاف
مكوّناتها، انتهت بتفشيلها تحت ضغوطٍ كثيرةٍ من الملالي، كان آخرها
الفبركة الإيرانيّة - الأميركيّة في قضيّة الهجوم على السفارة الأميركيّة
في 4/11/1979 واحتجاز رهائن أميركيين، ما اضطرّ بازرجان إلى
الاستقالة،(10) قبل أن يُستبعد من المشهد تمامًا بعد أن رفضَ المجلسُ
الثوريّ سنة 1985 طلبه الترشّحَ لرئاسة إيران. ولقد كان تفشيلُ حكومته
أحدَ الأسبابِ المهمّة في القضاء على الأهداف التي قامت الثورةُ من أجلها.
جمهوريّةٌ إسلاميّةٌ من دون جمهورياتيّة إذا كان همُّ الخميني الأساسُ قبل الثورة هو إطاحةَ شاه إيران، فذلك
لم يكنْ إلا لتأسيس سلطة السماء على الأرض، وهي سلطةٌ سيمثّلها حصرًا هو
وأشقاؤه من الفقهاء: سلطةٌ جمهوريّةٌ ترتدي لباسَ الجمهوريّاتيّة من حيث
حكمُ عموم الشعب، لكنْ بمضمونٍ بنيويٍّ أصوليّ ـ إذ إنّ سلطة رئيس
الجمهوريّة نفسها هي سلطةٌ شكليّةٌ مفْرغةٌ من مضمونها السلطويّ لصالح
سلطة المرشد الأعلى للثورة. يُعرّف الخميني جمهوريّتَه الإسلاميّة بأنّها
«نظامٌ مؤسّسٌ على الاقتراع الشعبيّ والمرجعيّةِ الشعبيّة، ودستورُها هو
القانونُ الإسلاميّ ولا بدّ أن يكون في توافقٍ مع مرجعيّة القانون
الإسلاميّ.» لكنّ هذا القانون الإسلاميّ لن تجسّدَه إلا المرجعيّةُ
الشيعيّة، ممثّلةً بولاية الفقيه. لهذا، لن تكون رئاسةُ النظام
«الجمهوريّ» الذي أرساه الخميني إلا لشخصٍ يدين بالمرجعيّة الشيعيّة
حصرًا. لكنّ المسألة أبعدُ من هذا:
فالجمهوريّاتيّة الخمينيّة ثيولوجيّة، لكنّها في الوقت نفسه تعمل
وفْقَ فضاءٍ علمانيّ. بمعنًى آخر، نحن نُواجَه بـ «ثيولوجيّة علمانيّة،»
أو بإعادة خلقٍ للأصوليّة في إطارٍ جمهورياتيّ. ثمة حضورُ سلطتين للدولة
في الوقت نفسه: السلطة الجمهوريّة المغيّبة تمامًا، ويمثّلُها رئيسُ
الجمهوريّة ومن يمثّلون شكلَ الحكم الجمهوريّ؛ وسلطةُ الملالي الفقهاء،
وبيدِهم السلطةُ الفعليّة. إنها «جمهوريّةٌ من فوق» يجتمعُ في باطنِها
الإيديولوجيّ مقوِّمان رئيسان: 1) الإيديولوجيّة الثيولوجيّة الشيعيّة بعد
إعادةِ الخميني قولبتَها، مستفيدًا من الجانب العصيانيِّ فيها (ولهذا،
مازالت هذه الجمهوريّةُ توصَف بأنها انقلابيّةٌ وثوريّةٌ، وسُمّي إسلامُ
الخميني أيضًا «الإسلامِ الثوريّ»).(11) الجمهوريّة التي يصرُّ عليها
الخميني لا بدّ أن يكونَ شكلُها ثوريّاً، لكنّه شكلٌ ثوريّ مفهومٌ فقط ضمن
آليّاتِ تفكيرٍ إطلاقيّةٍ مُشرنقةٍ بإيديولوجياتٍ ثوريّة. 2) الجانب
القوميّ الفارسيّ، الذي استطاع الخميني توظيفَه هو أيضًا في پروپاغندا
الثورة أو أثناءَ الحربِ مع العراق.
ما طوّره الخميني داخل الإسلام
الشيعيّ هو أنّ الدين لن تتحقّقَ أحكامُه على الأرض إلا بإقامةِ سلطةٍ
سياسيّةٍ لرجال الدين. إنها سلطةٌ، حكمُ الجمهور فيها مرهونٌ بسلطةٍ
خفيّةٍ تقودُهم من الخلف، يجسّدُها الفقيهُ. ولأوّل مرّةٍ يقلبُ الخميني،
رأسًا على عقب، صورةَ الشيعة الهامشيّةَ في التاريخ الإسلاميِّ في الربعِ
الأخيرِ من القرن العشرين، فيؤسّس كيانًا شيعيّاً سياسيّاً: مضمونُه
أصوليّةٌ مُعادٌ إنتاجُها، وشكلُه جمهورياتيّة مقلوبةٌ. وقبل الإقرار
بشرعيّة الشعب لا بدَّ أوّلاً من الإقرار بشرعيّة سلطة «روح الله» على
الأرض. إنها جمهوريّة يَخضع فيها حكمُ الأرض لحكم السماء الذي أُعلن منذ
قرونٍ في مكّة، ويتمثّل حكمُ السماء فيها بسلطةِ الفقهاء في طهران. بكلمة،
لم يزِدِ انتقالُ شعب إيران إلا من ملكيّة شاهنشاهيّة مطلقة إلى جمهوريّة
خمينيّة مطلقة.
وعلى غرار كثيرٍ من الإيديولوجيات المُحزّبة العربيّة، تَشكّلتْ للثورة،
بعيد انتصارها، مرجعيّةٌ إيديولوجيّةٌ في إطارِ حزبٍ حملَ أيضًا صفةَ
«الجمهوريّ،» هو الحزبُ الجمهوريّ الإسلاميّ IRP))، من أجل حماية الثورة
والدفاعِ عن أهدافها، تحت مظلّة القيادات: آية الله بهشتي، وآية الله
باهنر، وحجّة الإسلام علي خامنئي، وحجّة الإسلام هاشمي رفسنجاني. ثم بدأ
تجنيدُ الشعب في إطاره، وإعادةُ إنتاج الثورة بمأسسةِ إيديولوجيّة ولاية
الفقيه.(12)
كان الحزبُ يمينيّ التوجّه، يحضرُ فيه كلُّ ما يخصُّ تكريسَ سلطة
الإكليريك، وقواعدهم الاقتصاديّةِ من «البازاريين،» باستثناء حضور التوجّه
الجمهوريّ. والحزبُ، فضلاً عن ذلك، هو المسؤولُ، مع آية الله بهشتي، عن
تكريسِ أدلوجة ولاية الفقيه. وربما كانت هناك محاولةٌ لمصالحة الإسلام
والجمهوريّة، وذلك من خلالِ توجّهٍ داخل التيار الدينيِّ نفسِه، إلا أنه
على خطٍّ مناهضٍ لراديكاليّةِ الخميني وحاشيته؛ خطٍّ بإمكانِنا تسميته
«اليسار الإسلاميّ» (إذا استعرنا كلماتِ حسن حنفي رغم عدم دقّة هذا
الاصطلاح معرفيّاً). وقد أُنشئ، مباشرةً بعد تشكيلِ حزب الخميني، حزبٌ
أُطلقَ عليه حزبُ الشعب الإسلاميّ الجمهوريّ، بقيادة آية الله شريعتي
مداري، الذي سيطر على منطقة أزربيجان، وكان مناهضًا للاتجاه اليمينيّ
الآخر وتكريس سلطةِ رجال الدين وولاية الفقيه. إلا أنّ سيطرة رجال الدين
على السلطة والحرسِ الثوريّ أغلقتْ كلَّ منافذ الحياة السياسيّة، بمن في
ذلك أمام من شاركوا في صنع الثورة من اليساريين والمتديّنين المعتدلين:
ولهذا اتُّهمَ مداري باستثمار أمواله في مشاريعَ ترعاها عائلةُ الشاه،
وبالتآمر على الخميني، وبالاتصال بالسفارة الأميركيّة في طهران؛ كما
اتُّهم حزبُ «توده» الشيوعي بـمعاداة الإسلام والتحالفِ مع الاتحاد
السوفييتيّ.
من هنا، تمْكن قراءةُ الفوارق الجوهريّة في فهم دلالاتِ اصطلاح
«الجمهوريّة» بين تيّار الخميني وبين اليساريين والمعتدلين الدينيين.
فالأخيرون رأوْا تضاربًا واضحًا بين سلطة الفقيه المطلقة، وبين رئيس
الجمهوريّة الذي يَفرضُ السيادةَ الوطنيّةَ للدولة. ومن ثَمّ رأوْا أن
يحتفظ الفقهاءُ والعلماءُ الكبار بدورهم في هداية الناس، وألاّ يتدخّلوا
في إدارة الأمور المدنيّة إلا عند الضرورة (كما عند غياب الحكومة).(13)
لهذا، كان اليسار (توده، فدائيي خلقْ، مجاهدي خلقْ) أكثرَ المعارضين
لتدخّل السياسة بالدين، ودعوْا إلى إقامة جمهوريّة شعبيّة لا يكون فيها
لرجال الدين أيّةُ سلطاتٍ في إدارتها.(14)
جمهوريّة الخميني، إذن، تجسيدٌ لجمهوريّة الله على الأرض. وقد أوضح هو
نفسُه أنّ «حكومة الجمهوريّة الإسلاميّة التي نعتقدُ بها موحًى بها من قبل
النبيِّ العظيم (ص) ومناهجِ الإمام عليّ (ع).»(15) وأكّد خامنئي عام 1988
أنّ «شرعيّة الدستور لا تُستمدّ من عموم الشعب أو أغلبيّته، بل من ولاية
الفقيه. إنّ ولاية الفقيه هي كـالرّوح في جسد النظام.»(16)
هكذا نفهم
رفضَ الخميني لإضافة لفظة «الديمقراطيّة» إلى الجمهوريّة الإسلاميّة، لا
بسببِ ما يقولُه من أنّ ذلك سيشكّلُ إهانةً للإسلام: «وحتى لو وضعتم كلمةَ
ديمقراطيّ بعد الإسلام، فإنّنا لا نستطيع قبولَ ذلك. وإضافةً لذلك، إنه
إهانةٌ للإسلام. فإذا وضعتموها بعد كلمة الإسلاميّة، فإنّ ذلك يعني أنّ
الإسلامَ ليس ديمقراطيّاً، رغم أنّ الإسلام في الحقيقة أرفعُ من كلِّ
الديمقراطيّات. وهكذا، فإننا لن نقبلَ ذلك على الإطلاق.»
طبعًا الخميني لا يشعر بالتناقض في استخدام كلمة «الجمهوريّة» من دون
«الديمقراطيّة،» مع العلم أنّه يدركُ أنّ مصدرَ الكلمتين واحدٌ، هو الغرب.
لكنّ الموضوع أبعدُ من هذا، وهو أنّ للديمقراطيّة استحقاقًا سياسيّاً
واجتماعيّاً وثقافيّاً من شأنه تهديدُ سلطة كهنوت آيات الله. الخميني،
بكلمة واحدة، يريد جمهوريّةً من دون ديمقراطيّة؛ جمهوريّةً حامِلُها
الأساسُ أصوليّةٌ فوقيّةٌ، تمتدُّ عمقًا في الثيولوجيا الدينيّة. والأمرُ
نفسُه يحدث، بالمناسبة، عند كهنة الإسلام السياسيِّ السنيّ، حينما
يَقْبلون بلفظة «الديمقراطيّة» مفرغةً من أساسِها الحداثيّ السياسيّ
العلمانيّ. آليّةُ التفكير واحدة، من المهمّ أخذُها في الاعتبار؛ ذلك أنّ
النتيجة واحدة، سواء في طهران الخمينيّة أو عند الإسلام السياسيِّ
السنّيّ، وهي الاستبداد.
الأحد يوليو 15, 2012 6:32 am من طرف نابغة