"إن فهم هيدجر بوصفه مفكرا ملحدا إنما يستند إلى فهم سطحي لفلسفته ليس إلا"[1]
يبدو أن عبارة "العالم يتعولم" هي التي جعلت هيدجر يدشن استباقا
استثنائيا في مجال الثقافة الغربية وليس كما يشاع بين مؤرخي الفلسفة طرحه
النبيه للسؤال:"ما الوجود؟" وبحثه العميق عن طبيعة الوحدة الجامعة بين
معاني الوجود التي حللها فرانز برنتانو. وحول هذا الموضوع يرى غادامير
أن:" كلمة يتعولم كانت مثل بشير مبكر بحادثة الوضوح"[2]، أي أمارة فلسفية
على قرب قدوم عصر العولمة.
غير أن الإشكال الذي يستفز الفكر هنا ليس علاقة هيدجر بالعولمة فذلك
أمر ليس حوله خلاف كبير وإنما وضع المسألة الدينية في المدونة الهيدجرية
وعلاقتها بالكاثوليكية من جهة التنشئة واليهودية من جهة التكوين الفلسفي،
فالي أي مدى يصح اعتبار هيدجر واحد من ممثلي الفكر الإلحادي في عصرنا؟
لماذا درس هو نفسه اللاهوت المسيحي باكرا وتوجه نحوه توجها نقديا؟ ماذا
يعني أن يقول هو نفسه في أحد المقابلات التي أجراها:"إننا في انتظار مجيء
الآلهة"؟ ما الفرق بين الديني والإلهي حسب هيدجر؟ وماذا يحصل لو وضعنا
سؤال ما الله؟ محل سؤال ما الوجود؟ وعوضنا الثاني بالأول ؟ وهل كانت
الأنطولوجيا الهيدجرية خالية بالفعل من كل تيولوجيا؟ فماذا تكون الفلسفة
الأولى عنده إن افترضنا عدم تعويلها على التيولوجيا وتبشيره بعدم الحاجة
للإتيقا؟ كيف نفسر الحضور البارز لاعترافات القديس أوغسطين في تناوله
لمعضلة الزمان؟ لماذا نعت نفسه في رسالة إلى كارل لويث تعود إلى سنة 1921
بأنه ليس فيلسوفا وإنما لاهوتي مسيحي؟ هل يجوز لنا تنزيله ضمن مدرسة
اللاهوت السالب la théologie négative؟
تكاثرت الدراسات في الآونة الأخيرة حول منزلة الدين في فكر هيدجر ويمكن
أن نذكرمقال الايطالي ماسيمو كاسياري المعنونة "مشكل المقدس عند هيدجر"
وكتاب رونيه جيرار "من العنف الى الألوهية" الصادر عن دار Grassetفي 2007
، وأيضا مقال "الالهي والله عند مارتن هيدجر" لفليب كابال ومقال آخر في
نفس الموضوع لجان فرنسوا ماتييه بعنوان "الوجود والله عند هيدجر".
من المعلوم أن هيدجر قضى حياته بأكمله باحثا عن السبل لتحقيق رغبة
تحرير نفسه من اللاهوت السائد الذي تربى عليه. عندئذ يجوز لنا النظر إلى
هيدجر على أنه من النفاة خاصة عندما يرفض أن يكون الله موجودا من
الموجودات فهو ليس علة ولا شخصا واعتبر ذلك يخفي ماهية الإلهية الحقة
ولذلك كان يستعمل صفة الآلهة المتعددة وليس الله الواحد ولكنه لا يضع
الوجود فوق الآلهة ولا الآلهة فوق الوجود ويبين أن الآلهة في حاجة إلى
الوجود أي إلى الحرية والى الانتساب إلى ألوهية بفضل هذا الانعطاء إلى
الوجود. والحق أن هناك دور عند هيدجر إذ أننا لا نستطيع أن نفكر في الله
إلا ابتداء من الوجود ولكن الوجود نفسه لا يمكن أن يكون هو الله لأنه ليس
حقيقة لازمانية بل هو معنى التاريخ وهو منزه عن الصفات الأخلاقية
واعتبارات التنزيه والقيمة.ساعد أرسطو هيدجر لتخطي عتبة الميتافيزيقا ومثل
له هوسرل المرشد النقدي للعودة إلى الأشياء ذاتها وتصور الفلسفة كعلم دقيق
وكان هاجسه الأول هو: كيف نتصرف تعقليا من أجل اكتساب اكبر وضوح ممكن حول
حال الدازاين الحي؟
إن تدبر الدازاين يتوقف على فهم الزمان ومعالجة هيدجر للزمان كانت خارج
إطار المفهوم الإغريقي وقريبة من فهم القديس بولس ومن مارتن لوثر وبول
ناثورب والقديس أوغسطين. إن الإصغاء إلى الأقاصي والعود على بدء يحرر
هيدجر من الميراث الفلسفي ويجعله يكتشف الوجود وهو في لاتحجب. وحول هذا
الأمر يقول غادامير:" التفكير في الوجود ليس تخطيطا وحسابا وتقديرا
وتدبيرا انه بالأحرى التفكير في ما يكون وفي ما سيكون. ولذلك فهو ضرورة
تفكير يعود إلى البداية لأن البداية هي أساس نقطة الشروع التي فيها تتأصل
الخطوة الأخيرة الممكنة أيضا، وهكذا يمكن النظر إلى الخطوة الأخيرة كنتيجة
للبداية. والتفكير هو دائما تفكير في البداية."[3] أليس التفكير في
البداية هو التفكير في الخلق؟ وأليس محاولة تفهم قصة الخلق هو تدبير على
نحو ما لماهية الألوهية؟
"إن الألوهية لدى هيدجر هي مجال يلمح أكثر مما يطلق الأسماء، مجال
ينتظر التأويل ولا يقبل المعرفة، يقبل الاستعارة ويرفض المفهوم.إننا مع
فكر الوجود."[4]
تأثر هيدجر بتمييز ايكهارت بين الله والألوهيةdivinité ولم يكن شغله
الشاغل إثبات وجود الله أو نفيه ولا يجوز لنا الحديث عنه كملحد أو كمؤمن
لأن الإلحاد نفسه ليس سوى شكل من أشكال الصورة الميتافيزيقية للفكر التي
تؤمن بالحقيقة المطلقة، وآياتنا في ذلك أن هيدجر يعطي الأولوية للألوهية
على الله ويحاول أن يفهم الله بالانطلاق من الألوهية ويهتم بالألوهية في
إطار علاقتها بالوجود ويرفض التصور الأنثربولوجي لله كخالق للموجودات
ويمثل الموجود الأشرف ويمكن عبادته وتقدم له القرابين. ويعرف الألوهية على
أنها الفضاء الذي يسمح للكائنات بأن تتجلى في الوجود ويعتبر الله مجرد
رسول للألوهية divinité تتمثل مهمته في الإبلاغ داخل مجال المقدس sacré.
أما المقدس فهو النقي الذي حافظ على أصالته وطهارته وبرئت طاقتها
الانفتاحية من كل دنس. ويضيف في السياق نفسه بأنه ليس ثمة في الألوهية إلا
وحدة الأبعاد الأربعة ( الآلهة Divinsوالبشر الفانونmortels والأرض
والسماء).
إذا كانت الوجود هو امتداد بين الولادة والوفاة فان الإنسانهو الكائن
الوحيد الذي لا يعرف انه مداهم بالموت فحسب وإنما الذي يعلم أنه الوحيد
الذي يكون موته متضمنا في صميم وجوده والدليل أنه لا يعيش تجربة الموت إلا
في إطار تعامله مع الآخرين بل انه ينظر إلى الموت على أنها حدث يقع
للآخرين. إن الكائن البشري يحوز على صفة الوجود من أجل الموت لأن تحقق
إمكان الموت معناه إعدام الإمكانيات الأخرى. هنا ننتهي إلى أن الدازاين
كائن بلا بيت وأن تمركزه يكون فوق اللاثوابت يعاني من قلق الموت. فهل
يساعده التفكير في اللاهوت على الانتقال من الزمن إلى زمانية الوجود ومن
الزمانية إلى التاريخية ومن التيه إلى الإقامة؟
أطروحة هيدجر في هذا السياق أننا نعيش عصر انسحاب الآلهةDieux ولا خيار
لنا سوى أن ننتظر عودة الإلهي Divinواستعادة الانفتاح على الوجود ، حول
هذا الأمر يصرح هيدجر:" وحده الإلهي Divin يمكن أن ينقذنا". غير أن الأمر
الذي يجب تفاديه هو أن "السؤال المتعلق بالوجود، الذي أصبح تلخيصه مهمة
تبناها هيدجر على عاتقه، يجب أن لا يفهم على أنه سؤال متعلق بالله كما وضح
ذلك هيدجر بصورة لا لبس فيها".[5]
ان محاضرة فنومينولوجيا الدين التي ألقاها هيدجر على طلبته في فرايبورغ
والتي أعاد تقديمها توماس شيهان تعكس الاشتغال المبكر بمجال اللاهوت وصحة
انعطافة اللاهوتيين المسيحيين ( الكاثوليك والبروتستانت) نحو هيدجر في
الآونة الأخيرة وتبين بالقدر الكافي أن هيدجر كان يملك المؤهلات الضرورية
لأداء مهمة دينية ترجمت في الانجذاب الروحي إلى العهد الجديد ورسائل بولس.
ربما كان هيدجر على بينة من أن اللاهوتيين القدامى كانت لهم طريقة معينة
في فهم أنفسهم والعالم الذي يندرجون فيه أكثر ملاءمة من المناهج التي
تقدمها العقلانية المعاصرة.
بيد أن الحافز الديني كان وراء تساؤلات هيدجر الأكثر خطورة وكان كشف
القديس أوغسطين عن لغز الزمان خير محرض على معاودة التسآل عن كبرى القضايا
البديهية في الفكر الغربي وخاصة مسألة المنطق والسببية والذات والحقيقة
والعقل والعلم واللغة والشيء والتقنية. ان ولع هيدجر النقدي بفنومينولوجيا
هوسرل وأرسطو اللامدرسيجعله يكون "قادرا على أن يبين أن الوجود من جهة
حركيته ولا تحجبه ليس من الموضوعات التي يمكن للمرء أن يعد حولها بيانات
معينة."[6]
دون شك اهتم هيدجر بالرسالة المسيحية الأصلية وكان ذلك شحذا لعزيمته
النقدية وحافزا حقيقيا له لكي يمتلك جرأة الهجوم على التراث الفلسفي
الإغريقي واستلاف بعض المفاهيم الأنطولوجية المتعلقة بالزمانية مثل
البراءة والرؤية الكارثية والتناهي والانهمام. إن دوافع هيدجر الدينية
التي ظلت مخفية تشتغل في ذاكرته وذاته العميقة هي التي بينت له أن طبيعة
الوجود الانساني تظل مخفية وان شعور المرء بالزمان يتأرجح بين الوجد
والفقد والحضور والغياب والامتلاء والفراغ.
إن كيركغارد هو الذي سطر من حيث لا يدري علاقة هيدجر بالمسيحية فنقده
للكنيسة وتفتيشه عن الوجود الفردي قد دفع بهيدجر إلى أن ينتبه إلى أن
التساؤل عن الله يختلف عن التساؤل عن أي شيء آخر وأي مجادلة على ذاك النحو
ماهي سوى غواية ميتافيزيقية. في هذا الصدد يشير غادامير ببراعة إلى أن
صحبة هيدجر لبولتمان في فرايبورغ ولمؤرخ الأديان فرانز أوفربك قد مكنته من
اكتساب ثلاثة أمور أساسية:
- الأول هو بناء نظرة تاريخية اللاهوت المسيحي ساعدته على التعامل مع الحقيقة الإنسانية على أنها متناهية وتاريخية.
- الأمر الثاني هو التمرس على السجال مع المقدس وانبعاث الشكوك في عقله حول مسلمات الموروث الديني.
-بقي الأمر الثالث وهو انتباه هيدجر إلى "عدم ملاءمة مفهوم الوجود
الإغريقي للفكرة المسيحية عن الآخرة (الأخير، النهائي) التي هي توقع لحدث
آت." [7]
أن مهمة اللاهوت الفكرية حسب هيدجر في الروح المسيحية الأصلية هي
"إيجاد الكلمة التي تدعو إلى الإيمان وتبقيه فيه". لكن هيدجر حاول أن يوفق
بين طمأنينة الإيمان الديني وقلق الدازاين وانهمامه المستمر، فكيف يجد
الدازاين في الله مستقره؟
يجيب هيدجر بأن الأمر يتوقف على حسن الجوار بين الدازاين والوجود لأنه
"في هذا القرب للوجود من الوجود وفيه وحده، يجب أن يتقرر وإلى الأبد، هل
ما إذا كان الإله والآلـهة ستظل ممتنعة عن التجلي وكيـف يحصل هذا الامتناع
؛ وهل ما إذا كان الليل سيستمر؛ وهل ما إذا كان نـهار المقدس سيشرق ؛
وكيـف سيكون ذلك الشروق ؛ وهـل ما إذا كان من الممكن لتجلي الإله والآلـهة
في هذا الفجر المقـدس أن يبدأ من جديد وكيف"[8].
هناك علاقة بين اللغة التي يتحدث بها هيدجر عن المقدس والإلهي واللغة
التي يتكلمها الشعراء، اذ طالما أن الإنسان يجد مقامه في بيت الشاعر فان
هيدجر يستعين بالعلاقة التي يقيمها الشاعر هولدرلين مع الله الذي يتحدث عن
حدوث سقوط ناتج عن الخطيئة وانفصال غامض للناس عن الله وهو مرتبك باختفاء
الآلهة وهروب الله وبقاء الكائنات في حالة ضياع وتشرد وعذاب. وهذا
الاختفاء يقترن بنهاية الميتافيزيقا والتفكير في مجاوزتها بتغيير النظرة
إلى النواة الأساسية للوجود.
لقد عوض هيدجر النفس بالجسد والعقل بالخيال والنص بالتأويل والسماء
بالأرض ورأىالطبيعة مستودع للطاقة ولعبة تخفي أكثر مما تظهر وطالب بالكف
عن منطق الاستيلاء والاستحواذ وحاول تحطيم بقية مبادئ المنطق التقنية.
يعبر هيدجر عن حيرته في رسالة في النزعة الانسانوية ويعلق الحكم بشأن
وجود أو عدم وجود الكائنات الغيبية بقوله:" أما فيما يتعلق بمعرفة هل ما
إذا كان الموجود يتجلى وبأية كيفية يتم له ذلك، وهل ما إذا كان الإله
والآلهة وكذلك التاريخ والطبيعة يلجن في نـور الوجود وانفتاحه، وما هي
الكيفية التي بـها يلجـن فيه، وهل ما إذا كن حاضرين أو غائبين، فإن
الإنسان ليس له أن يقرر بشأن ذلك."[9] هذا الإحجام عن الحكم يضعه في مرتبة
وسطى بين الإيمان والإلحاد. ولكنه يرفض بشدة الخلط بين الوجود والله
بقوله:" فالـ "وجود" ليس إله أو أساس العالم. إنه من بين كل الموجودات
الأكثر بعدا عن الإنسان. ومع ذلك فهو الأقرب إليه من أي موجود آخر سواء
كـان صخرة أو حيوانا أو عملا فنيـا أو آلة أو ملاكا أو الإله نفسه"[10].
لماذا ظل هيدجر ينظر بريبة شديدة نحو الدين؟ وكيف يكون:"المخيف حقا هو
المقدس ذاته"؟ وإلى أي مدى يستقيم رأيه بأنه "عندما نصرح بأن الله هو
"أسمى قيمة" إنما نحط في الحقيقة من قيمته"؟
إن المقصود هنا أن الذين يحاولون إثبات وجود الله عبر جملة من البراهين
هم يتسببون في قتله دون أن يدروا لأنهم شوشوا وضوحه الذي يعرفونه بينما من
يبحث عن الله يعرف الله ، أنه هناك وأنه ثمة الله.
يشير غادامير إلى أن المصادر اللاهوتية لهيدجر هي التي جعلته يهتم
بتاريخية الدازاين ويتعجب من الدعوة إلى التناول العلمي لماهو روحي بطرحه
السؤال التالي:" كيف يمكن تناول اللاهوت بوصفه علما من دون أن يفقد روحه
المسيحية ومن دون أن يقع مرة أخرى في نفوذ مفهومي الذاتية
والموضوعية؟"[11] بعبارة أخرى هل من المشروع أن نخضع التجربة الدينية
الروحانية للمنهجية العلمية المجعولة أصلا لدراسة الظواهر الطبيعية
والوقائع المادية؟
الغريب أن هيدجر حسب قراءة غادامير يبعد نسبيا مبحث اللاهوت عن الفلسفة
ليلقي به بين أحضان العلم، إذ بين سنة 1927 في محاضرة بفرايبورغ أن
اللاهوت علم وضعي قريب من الكيمياء والبيولوجيا لأنه يدرس الروح المسيحية
كشيء كائن ويقوم بشرح تجربة الإيمان شرحا تصوريا، بينما الفلسفة هي العلم
الذي يختص بدراسة الوجود.
يعترض غادامير على هذا التصرف ويحاول أن يعيد ترتيب طبقات التأويل بحيث
يعود اللاهوت إلى الشأن الفلسفي ويبرر ذلك بأن الاعتقاد لا يشبه بأي شكل
المواضيع التي تدرسها الكيمياء والبيولوجيا وأن العلم لا يمكن أن يحل محل
الإيمان لدى الإنسان، بل إن التكوين الأنطولوجي الأساسي للدازاين
(الخطيئة، الذنب، الانهمام والتناهي) يساعد على شرح تجربة الاعتقاد شرحا
تصوريا. حول هذا الموضوع يؤكد غادامير:" إن المواجهة الشاملة بين الفلسفة
واللاهوت، بطبيعة الحال، مواجهة خرقاء مادام هناك شك في... هل اللاهوت
علم؟...وهل اللاهوت يفرض الإيمان بالفعل؟"
إن الشعور بالذنب وجعل المرء منتبها إلى الزمن والرغبة في الضمير
والوجود نحو الموت هي حالات مرتبطة بتاريخ الإيمان المسيحي، فهل يعني ذلك
أن شؤون الإيمان هي من الأسئلة التي تعود إلى الجانب الوجودي أم أن السؤال
المتعلق بالوجود له مصادر نابعة من الإيمان؟
ربما المنعطف الذي قام به هيدجر في أواخر الثلاثينات وتوضح أكثر بعد أن
ألقت الحرب العالمية الثانية أوزارها قد قاده نحو التفطن بأهمية الجانب
العملي للاهوت وذلك لأنه علم عملي قد يجاز عليه المرء الذي جسد التحقق
الحدثي للدازاين في شكل انهمام يقدر فعلا.
إن البحث الهرمينوطيقي الذي أجراه غادامير قد قاده نحو التأكد من وجود
البعد الديني في مدونة هيدجر ولكنه بعد ديني مفارق لللاهوت والميتافيزيقا
وقريب من شعر هولدرلين ولغة نيتشه بالرغم من تجاوزه لنزعته الإلحادية
الدغمائية .ان الدرس الهيدجري الذي استخلصه غادامير هو أن الإنسان يستطيع
أن يعرف المقدس من دون أن يحسم أمره بشأن الألوهية سواء إدراكا أو تملكا.
علاوة على أن كل الآلهة اختفت ولم يبقى سوى المقدس وهو الأمر الوحيد الذي
ينبغي على الإنسان أن يعتصم به لأن" فقدان بعد المبجل والمقدس هو ربما
الإثم الحقيقي الذي اقترفه عصرنا"[12] .
إن الدرس الذي يمكن أن نستخلصه من فنومينولوجيا الدين عند هيدجر هو
إفلاس التقسيم الثنائي: الإيمان والإلحاد بخصوص الفكر والعلم والأدب
والثقافة فمصطلحات مثل الإلحاد المنهجي والعلمانية المؤمنة والوجودية
الدينية ولائكية المعرفة التي ترددها بعض الألسن هي مجرد مقولات جوفاء.
إذا كان الذي يمكث بين البشر هو آخر آلهة العالم القديم فإن الناس غير
قادرين على بلوغه لأنهم يتحدثون عنه بشكل لا يسمح لهم بفهم إيمانهم الذاتي
به، ألم يصدق هيدجر حينما صرح:"إن السؤال: من هو الله؟ هو سؤال في غاية
الصعوبة بالنسبة للبشر، وبوسعهم على الأكثر أن يسألوا: ماهو الله؟"[13]
لكن أليس طرح السؤال بهذا الشكل هو بحث ميتافيزيقي عن المائية وتكريس طرق
التفكير المألوفة وغير الكافية؟ ألا ينبغي أن نبحث عن طرق تفكيرغير معهودة
وأن نستخدم الإشارة في ظل ضيق العبارة؟
المراجع:
هانز جورج غادامير، طرق هيدجر، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد المتحدة ، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى
الإثنين أكتوبر 22, 2012 3:27 pm من طرف عزيزة