بول يوهانس أوسكار تيليش (Paul.J.O.Tillich ) (1886_1965) فيلسوف ولاهوتي
ألماني، حصل على الدكتوراه في الفلسفة بأطروحته في تطوير فلسفة شلينغ
(1911) من جامعة برسلاف، ورسم قسيساً عام (1912) . كان مدرساً مساعداً
بهال في برلين ثم في ماربورغ وأستاذاً في درسدن ثم فرانكفورت حتى هاجر إلى
الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن طرده النازيون عام (1933)، وصار
أستاذاً في المعهد اللاهوتي (Union Theological Seminary ) في نيويورك
ومدرساً في جامعة هارفرد حصل على جائزة السلام عام(1962) من رابطة
الناشرين الألمان، يعده البعض من أعظم وأبرز فلاسفة المسيحية في القرن
العشرين وأحد مؤسسي الانطولوجيا المعاصرة.
إن لاهوت تيليش المؤسس على المعنى مثّل محاولة للنهوض بموقف نقديّ إزاء
مفهوم الدين عامة والدين المسيحي على وجه الخصوص. إذ تهدف فلسفته
الأنطولوجية إلى هز وزعزعة أساسات التراث المعرفي والديني الشائع، خاصة
بعد الحربين العالميتين التي وضعت الإنسان المعاصر أمام أزمة حضارية
متمثلة بفقدان الثقة بالعلم والتقنية والتقدم التكنولوجي فأكبر "انتصارات
العلم هو القوة التي منحها للإنسان لإفناء نفسه وعالمه" وما رافقها من
أزمة وجودية تجلت في التمرد أو عدم الاكتراث والخواء وفقدان المعنى واليأس
فأصبح الإنسان مغترباً ومنفصلاً في عزلته. وبالتوازي مع ذلك أزمة دينية
لاهوتية فالخطيئة والشك بالعناية الإلهية وفقدان الإيمان والبحث عن القوة
المخلصة وغيرها من المشكلات التي شغلت الكثيرين من الثيولوجيين.
كان التساؤل المركزي الذي طرحه تيليش هو ما الذي فقدته الرسالة المسيحية
حتى باتت عاجزة أمام مشكلاتنا المعاصرة؟ على هذا النحو صاغ تيليش السؤال
بصدد مشروعه الحضاري لتحديث اللاهوت البروتستانتي، ولئن كان مطلبه
مطلبا مشروعا في ظلّ اهتمامات مماثلة كما يؤكد علي عبد المعطي في كتابه
"مدخل إلى الفلسفة " إذ بتنا نشهد بعثاً جديداً للحركات اللاهوتية قام بها
فلاسفة اهتموا بالمسائل الدينية " ويقصد تجربة كل من نيقولا برديائيف في
إعادة كشف اللاهوت الارذوثوكسي وجاك ماريتان بإحيائه للاهوت الكاثوليكي
ومارتن بوبر للاهوت اليهودي إلا أن النهوض بذلك يبقى أمرا شاقّا.
درس تيليش اللاهوت في هيل وتأثر بكل من اللاهوتيين ( فلهلم لوتجرت ) و(
مارتن كاهلر) اللاهوتي المعتدل والخصم اللدود للاهوت البريشت ريتشل إلا أن
هذا التأثير برأينا أتاح لتيليش الجرأة على إنهاء تبعيته اللاهوتية
للأفكار السائدة واتخاذ موقف الاستقلال الفكري إزاء المناقشات اللاهوتية
حول ملكوت الله، وطبيعة المسيح، ومبدأ التقوى الشخصية، والنقد التاريخي
للكتاب المقدس، والنزعة الفائقة للطبيعة، ومفهوم الخلاص، والتبرئة الإلهية
للخطيئة، وعلاقة اللاهوت بالتطور العلمي، والسلطة الدينية الكنسية ..
فضلاً عن أنّ هذا التأثير نمّى لدى تيليش حساً نقدياً ورؤية ناقدة لأهم
المشكلات الدينية واللاهوتية والحضارية في عصره.
لقد آمن تيليش بتعامد القطبين اللاهوتي والفلسفي متخذاً موقفاً حدياً على
التخوم، فبرأيه أن الطابع النسقي الصارم للاهوت لا يمنعه من استعارة
المفاهيم الفلسفية لتطبيقها على المشكلات الحضارية واللاهوتية في محاولة
لتقديم إجابات على تساؤلات الوجود الإنساني، ومن هنا فالكتاب المقدس يصبح
نصاً مفتوحاً لتأويلات تتجاوز المعنى الحرفي والمعنى المعرفي إلى مستوى
المعنى الوجودي وذلك لإدراك الإرادة الإلهية بوصفها تجربة وخبرة روحية .
يقول تيليش في كتابه التخوم :"أن مفهوم التخم أو الحد قد يكون الرمز
الملائم لكل تطوري الشخصي والعقلي. ويكاد في كل موضع انه كان علي أن أقف
بين إمكانيات بدائلية للوجود ألا أكون مستقرّاً تماماً في أي منها وألا
اتخذ موقفاً محدّداً ضدّ أيّ منها، ولمّا كان التفكير يقتضي التقبل
للإمكانيات الجديدة فان هذا الوضع هو وضع مثمر للفكر ولكنه وضع صعب وخطر
بالنسبة للحياة ".
إن موقفه الحدي أو التخمي ما بين الفلسفة واللاهوت ما بين الدنيوي
والديني، ما بين الله والعالم أتاح له استقلال الرؤية والجرأة الثورية في
النظر إلى المشكلات اللاهوتية والأنطولوجية والحضارية، فمشروع (التحديث
الثقافي للاهوت) والمتمثل بنقد التراث القديم عبر تدمير رموزه وإيقوناته
وتحطيم العبادة الصنمية دفعه صوب التأسيس للمعنى الروحي مقابل جمود
المعرفة الشائعة وتصلّبها، فالإيمان في نظر تيليش مفهوم لا بدّ من إعادة
تفسيره وهدم أو محو تشوهات المعنى التي ارتبطت به عبر تراث القرون
السابقة، سواء منها التي تؤسس الإيمان على الإرادة أو على الانفعال،
فالإيمان هو اهتمام أقصى ونشدان للمعنى اللامشروط .
لذا فمن أجل تحقيق مشروعه التحديثي كان لزاماً عليه أن يعيد قراءة مشكلة
العلاقة ما بين الثقافة، بوصفها توجهاً نحو الأشكال المشروطة للمعنى،
والدين باعتباره توجهاً نحو اللامشروط في ضوء حضور المعنى فبتحقيق الروح
للمعنى في الوجود الجديد بوساطة الحركة الجدلية لعناصر المعنى يتم رفع
التناقض الروحي الوجودي في مركب الحل الثيونومي المعبر عن مضمون المعنى في
الزمن المتحقق مبيناً وظائف المعنى النظرية والعملية ومقولاته المتجلية في
التاريخ الثقافي عبر التأسيس للحضور الأبدي أو الإلوهية اللامتناهية
واللامشروطة في الوجود الجديد.
هذا الموقف الذي يتخذه تيليش ونقصد به الطابع النقدي لمفهوم الدين ورموزه
إنما يتطلب شجاعة يسميها بشجاعة تأكيد الذات وتأكيد الوجود رغماً عن
العناصر التي تتضارب مع تأكيده الجوهري لذاته.
وهنا نستطيع القول إن من يتناول فلسفة بول تيليش بالقراءة والفحص والنقد
يكتشف ما تتسم به هذه الفلسفة من جرأة ورؤية نقدية عميقة للدين وتساؤلاته
الروحية واللاهوتية، ذلك أن موقف الاستقلال الذي اتخذه على التخوم ما بين
الفلسفة واللاهوت مكنه من مواجهة هذه المشكلات بحرية وببصيرة حادة في
محاولة لعصرنة اللاهوت واستجابة لروح العصر، وما أحوجنا اليوم لمثل تلك
البصيرة والرؤية العقلانية لمواجهة أزماتنا الحضارية والدينية والإنسانية
خاصة ونحن نشهد اهتماماً متزايداً بالدين وقضاياه على كافة المستويات
السياسية والاجتماعية والفلسفية والحضارية..
الجمعة أكتوبر 19, 2012 12:49 pm من طرف نابغة