وهلأ لوين: قراءة في فيلم نادين لبكي الجديد يوم
الاثنين هو يوم كئيب لصالات السينما اللبنانية، إذ غالباً ما يشهد تخفيضات
على الأسعار لحثّ الرواد على القدوم وملء الصالات شبه الفارغة. إلا أن
الاثنين الماضي
كان مختلفاً، إذ كان ملفتاً ازدحام الصالات في رابع أيام إطلاق فيلم نادين
لبكي الجديد “وهلأ لوين؟” الفيلم الذي حطّم كل الأرقام القياسية التي
عرفتها السينما اللبنانية، مسجّلاً حضور أكثر من 21 ألف متفرج في الأيام
الأربعة الأولى على إطلاقه، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ السينما
اللبنانية، حتى أن بعض المسارح خصصت أكثر من صالة لعرض الفيلم في وقت واحد.
يعدّ فيلم “هلأ لوين؟” التجربة الإخراجية الثانية لنادين
لبكي بعد فيلم “سكّر بنات”، وتدور أحداثه في قرية صغيرة معزولة عن محيطها،
يسكنها مسلمون ومسيحيّون، لهم تاريخ من الصراع الطائفي دفعوا ثمنه حياة
خيرة شبان القرية.
يبدأ الفيلم بمشهد نساء القرية المتشحات بالسواد والمتّحدات
بالحزن والأسى في زيارتهن لمقبرة الضيعة، وهناك يحدث الانفصال حيث تتجه
النسوة كلّ إلى مقبرة طائفتها لتزور أخاً أو
ابناً أو زوجاً أو قريباً… والمفارقة التي أرادت المخرجة إظهارها بوضوح
تكمن في مقابر لا تضمّ سوى رجال وشباب الضيعة، في إشارة رمزية إلى التاريخ
الثقيل لهذا المجتمع الصغير. ورغم المأساة التي تعيشها القرية والتي ندخل
في أجوائها منذ البداية، فلا يبدو أن الخسارة الإنسانية الثقيلة قد علّمت
أهلها شيئاً، إذ سرعان ما تندلع المشاحنات الطائفية بين رجال القرية، إثر
أنباء عن صدامات طائفية في مناطق أخرى من البلد. وهنا يكمن جوهر الفيلم
ورسالته، إذ لم تستطع السنوات القليلة ممن السلام والعيش الهني بين
الطائفتين، والتي ركّزت عليها المشاهد الأولى من الفيلم، من انتزاع
الأحقاد القديمة من قلوب الناس، فسارع كل منهم إلى التمترس الطائفي،
متجاهلاً كل العلاقات الحميمة وصداقات رفاق الطفولة. الأمر الذي نشهده
يتكرّر في أكثر من مكان في عالمنا العربي المزدحم بالفوالق الطائفية
والقبلية.
وفي هذا الصدد، تقول مخرجة وبطلة الفيلم نادين لبكي أن فكرة
العمل نبعت من تجربتها الشخصية في حوادث 7 أيار 2008، إذ اكتشفت حملها في
ذلك اليوم تحديداً والذي استعادت فيه بيروت أجواء الحرب، فأُقفِل المطار
وأشعلت الإطارات، ودار قتال شوارع عنيف في المدينة، فتناسى الجيران،
والأصحاب والرفاق كلّ ما يربطهم، وعادوا فجأة إلى انتماءاتهم الطائفية
والحزبية الضيقة ليتقاتلوا تحت رايتها. وهي أحسنت التعبير عن ذلك في أكثر
من مشهد، تتحوّل فيه حوادث تافهة وغير مقصودة إلى أسباب للاقتتال الأهلي،
دون أن يكلف أحد نفسه مشقة التساؤل عن مغزاها وسببها.
ما الحل؟ يبدو مثل هذا التساؤل ملحّاً إزاء انسداد الأفق،
وسط غياب العقل والهيستيريا الطائفية الجماعية التي تصيب مجتمعاتنا. و
الحل النسويّ الذي تقدّمه نادين لبكي ثوري بامتياز، في ما قد يبدو نوعاً
من النبوءة إلى أن النسوة سيكنّ المدخل إلى حلّ مشاكل القرن الجديد بعد أن
فشل الذكور في ذلك. ففي محاولاتهن لتخفيف من حدّة المشاحنات، تلجأ نساء
القرية إلى عدد من الحيل والخدع في تعاون مميز مع رجلي الدين المسلم
والمسيحي اللذان يأخذان دوراً إيجابياً في الفيلم بعكس الصورة السائدة.
ورغم فشل محاولاتهن المتكررة، فإنهن يخرجن في النهاية الجميلة وغير
المتوقعة بحلّ مفاجئ يمتع الجمهور ويدعه مع التساؤل الأساسي “وهلأ لوين؟”
من الناحية الفنية، يمكن اعتبار الفيلم تحفة جمالية حقيقية،
ولعله من أجمل ما أنتجته السينما العربية في سنواتها الأخيرة، إذ يحتوي
على خليط ممتع من الكوميديا ذات القالب المحليّ الجميل، مع شحنات درامية
عاطفية أبكت المشاهدين، وموسيقى تصويرية أبدع فيها زوج مخرجة العمل خالد
مزنّر، عدا عن الفواصل الغنائية الجميلة والتي أثرت العمل. كما يسجّل
للبكي حسن توظيفها لأشخاص عاديين يمثّلون للمرة الأولى في أداء أدوار
خلّفت انطباعات جيّدة لدى المشاهد.
بقي أن نذكر أن الفيلم المذكور قد دخل في سباق الترشيحات
لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، بعد أن سبق له وفاز بجائزتين في كلّ من
مهرجان كان وتورنتو السنمائيين.