شيء من الفلسفة لا يضرّ… قصّة الدجاجتين على
الرغم من أن الفلسفة قد لا تروق للكثيرين في العالم العربي، ومن أن فعل
التفلسف قد خضع لتحويرٍ اصطلاحيّ سيء، بحيث بات يعني الرغو الفارغ،
والاستفاضة في تفاصيل لا معنى لها، يبقى اللجوء إلى الفلسفة أمراً ملّحاً
في واقع ضبابي تختلط فيه المفاهيم بعضها ببعض. وفي هذا الصدد أعرض هنا
قصّة الدجاجتين الشهيرة للفيلسوف البريطاني برتراند راسل، التي ترد في عدد
من كتب الفلسفة لإيضاح الفارق بين نوعين من المعرفة: المعرفة اليقينية،
والمعرفة الظنية أو التجريبية.
تروي هذه القصة حواراً دار بين دجاجتين في قفص إحدى المزارع،
وتتناقشان حول إمكانية الخروج من القفص الآمن إلى الفناء، لتناول طعامها
من الحبوب التي تلقيها لهما زوجة المزارع. تقول الدجاجة الأولى لصديقتها:
لن أخرج لأكل الحبوب اليوم، فلست أثق بهذين المزارعين. فتجيب الدجاجة
الثانية: لم؟ فقد أعطيانا دائماً الحبوب، وأعتقد أيتها الدجاجة بأنهما
سيعطياننا طعامنا اليوم أيضاً. هنا تعترض الدجاجة الأولى قائلة: إنها
حقائق من الماضي! إلا أنها لا تثبت شيئاً حيال ما سيجري هذه المرة. إنها
ليست بالإثبات المنطقي أليس كذلك؟ ولديّ حدس بأن المزارعين يخططان اليوم
لقتلنا! لن أخرج من القفص إن لم تتمكني من إقناعي بأنه لمن الآمن الخروج.
فتجيب الثانية: ثمّة نظرية أيتها الجبانة تقول إنه يمكننا القبول ببعض
المعتقدات من دون إثبات مطلق، إن كان تجاهلها
سيؤدي بكِ إلى رمي الكثير من معتقداتك الأخرى, فالمعتقدات هي خريطة الواقع
التي لا غنى عنها، والتي تقودك خلال يومك. أما المعرفة اليقينية فهي نوع
من الإثبات الإضافي. في نهاية الحوار تقرّر الدجاجة الثانية الخروج إلى
الفناء، حيث تلتقطها زوجة المزارع وتذبحها لتقدمها على وجبة الغذاء.
للوهلة الأولى، يبدو لنا بأنّ الأمر المنطقيّ الوحيد الذي
يمكن للدجاج عمله ذلك الصباح، هو الاختباء في أقصى ركن من القفص. إلا أنه
ما من دليل في التجارب الماضية يمكن أن يقود الدجاج إلى هذا الاستنتاج، في
حين تحفل التجارب الماضية بالأدلة التي تدعم الاستنتاج القائل بسلامة
الخروج. يدعو الفلاسفة هذه العملية بالاستقراء، أي الانتقال من الخاص إلى
العام، بعبارة أخرى وضع قانون عام انطلاقاً من بضع حالات خاصة.
يقوم الاستقراء في حالة دجاجتينا إذاً، على مبدأ مفاده أن ما
سبق لنا اختباره يدلنا على مآل الأمور في المستقبل. يقوم الناس بعمليات
استقراء مشابهة على الدوام، على الرغم من كون معظمها غير صالح! إذ غالباً
ما نلجأ في استقرائنا إلى اختيار ما يلائمنا، ويدعم رأينا، متجاهلين في
الوقت نفسه كثيراً من المعطيات الأخرى التي فيما لو ضمت إلى غيرها لربما
أعطت استقراءً بنتيجة مغايرة. ولنأخذ على سبيل المثال موقف الأقليات
(الدينية، الإثنية، الفكرية، الطبقية والاقتصادية) المتوجّس من الربيع
العربي.
تقوم أبرز الحجج التي يبرّر بها المتوجسون إحجامهم عن
المشاركة في حركات الاحتجاج التي تشهدها بلادهم، أو دعمها معنوياً على
الأقل، على الدروس والعبر المستخلصة من تجارب الماضي. ولنا في المبرّرات
التي أطلقتها بعض المرجعيات الدينية هنا وهناك، وكذلك بعض المثقفين، خير
مثال. فقد اعتبر عدد منهم أنّه في كلّ مرّة قامت ثورة في الشرق (أو حالة
من الفوضى كما يحلو لمعظمهم أن يسميها)، دفعت الأقليات والنخب الثمن، وأنه
ما أن تضعف السلطة في الشرق، حتى يتطاول الرعاع والجهلة على الأقليات
والمتنورين…
من الجليّ هنا أن المحاججة السابقة قائمة على استقراء خاطئ
للماضي، يدفع إلى اتخاذ قرارات حاضرة خاطئة بدورها. فتجارب الماضي غنية
بالعديد من الدلائل على أن نكبات النخب والأقليات لم تكن بسبب ضعف السلطة،
بل نجمت بالأحرى عن محاولات السلطة لاستغلال النخب والأقليات، يمكن أخذ
مذابح عام 1860 على سبيل المثال، كنموذج لاستغلال السلطة للأقليات في
صراعها السياسي مع القوى الكبرى.
لا يتوقف الخطأ هنا إذاً عند عملية استقراء ذات بنية منطقية
مختلة، أهملت كثيراً من المعطيات، بل تتابع سلسلة المبررات لتصل إلى نتيجة
مفادها أن تجارب الماضي ذاتها، قد علّمت الأقليات بأن استمرارها رهن
بدفاعها عن النظام والاستقرار وسلطة القانون!
مرة أخرى نجد أنفسنا أمام بناء هش لاستنتاجات خطيرة، أسّست
على مقدمات أو مسلمات خاطئة! فالنتيجة السابقة المبنية على مسلمة مفادها
أن الحكومات أو الأنظمة القائمة في المنطقة، تمثل النظام والاستقرار وسلطة
القانون، هي لعمري أوهن حجج الخطاب التوجسي. فالممارسات التي شهدناها على
الأرض منذ انطلاق ربيعنا العربي، في معظم الدول التي تأثرت بالحراك، يثبت
ومن دون أدنى مجال للشك أن دولنا هي دول اللانظام واللامؤسسات، وأيامنا
باتت بلا استقرار، وأن لا مادة قانونية، صغيرة كانت أم كبيرة، إلا وداستها
أقدام العسكر أو عناصر أجهزة المخابرات والأمن في أكثر من بلد.
ولكن كيف يبرّر والحال هذه انضمام بعض أبناء الأقليات للحراك
العربي، الأمر الذي قد يبدو من جديد، وبناء على خبرات الماضي كما يدّعي
المتوجسون في محيطهم، تصرفاً لا منطقياً، بل انتحارياً مفتقداً إلى
الحكمة، ويقود إلى مستقبل غامض ومبهم؟ علماً أنهم يقومون بدورهم
باستقرائهم الخاص للماضي؟ قد نجد المبرّر لدى فيلسوف بريطاني آخر هو جون
لوك أبو المذهب الليبرالي وأحد أهم مفكّري عصر الأنوار، الذي يعتبر
الاستقراء ضرورياً في بعض الأحيان، ذلك أنك إن تصرفت فقط بناء على المعرفة
اليقينية المتشكلة لديك، أي فقط إن كنت متأكداً بشكل مسبق من نتيجة
أعمالك، فإنك ستصاب بالشلل. ولعل الشلل هو أفضل توصيف لحال دور أغلب
الأقليات اليوم، التي تحجم عن التحرك مما لم يتوفر لديها اليقين مما يخبئه
المستقبل. ولكن يبقى السؤال مفتوحاً: أي استقراء للماضي أصح؟
بالعودة إلى حالة الدجاجتين، فثمة استقراءان، يدعوهما الأول
لالتزام جانب الحذر والبقاء في القفص إلى أجلٍ غير مسمّى، لتضعا نفسيهما
أمام احتمال وحيد هو الموت جوعاً وعطشاً، وأما الثاني فيدعوهما للمغامرة
بالخروج من القفص والانطلاق إلى الفناء الرحب بحثاً عن الغذاء دون ضمان
واضح للمستقبل. لا بل قد نسمح لأنفسنا بالقول، أن الضمانة الوحيدة قد تكون
بالإبكار في الخروج من القفص قبل أن تستيقظ زوجة المزارع وتبدأ التلويح
بسكينها.
قد تكون مخاوف الأقليات من المستقبل مفهومة، وكذلك مخاوف
البورجوازيات الإسلامية (إذا ما استثنينا منها البورجوازيات المحدثة
والحريصة على استمرار أنظمة فاسدة هي بالأساس سبب وجودها وولية نعمتها) من
تدهور إضافي يقلص من حجمها ونفوذها المنكوبين أصلاً. إلا أنه لا يمكننا
بحال من الأحوال فهم أو قبول المنطق الذي يروج لمقولة أن الديكتاتوريات
العربية هي الحصن الأخير أمام بقاء الأقليات في المحيط العربي المضطرب.