الفضاء الحداثي في المغرب ملاحق
في كل كبيرة وصغيرة بالمد التقليداني
محمد سبيلا لـ»الاتحاد الاشتراكي»:حاورته: بديعة الراضي
في
حوار مع المفكر المغربي محمد سبيلا، حول إشكالية اجتماعية ومجتمعية كبرى
يعيشها المغرب بكثير من القلق الفكري والسياسي والاجتماعي،قال سبيلا إننا
أمام دورة تاريخية طافحة بالوعود والبشائر بتخليص المجتمع وتطهيره، وسيعود
التاريخ ليبين بأن الأمر مجرد دورة تاريخية لها محدوديتها، وستنكشف حدودها
وخاصة حدود ممارسة نخبها التي تدعي أنها تحكم باسم القدسية وتعد الناس
بالجنة على الأرض، وسيتبين أنها مجرد تجربة بشرية لها حدودها ونقائصها،
لكن ذلك يتطلب عناء تاريخيا، ليعرف الناس أن الخطاب والوعود والأحلام
الطوباوية والبشائر شيء وأن سيرورة التاريخ الفعلي الواقعي التي تحكمها
الرأسمالية والإمبريالية والتقنية والحاجات والرغبات لها منطق آخر.
- الأستاذ سبيلا، نريد أن ننطلق معكم من السؤال الفكري حول المرحلة
الراهنة، وهو سؤال لا يمكن فصله عن باقي الأسئلة في الفضاء المجتمعي، وعيا
منا بأن السياسة في ممارستها اللحضوية تبقى معطى لا يمكن الاستهانة به،
لكنها معطى مبني على فعل مجتمعي، يقف عنده المفكر بتحليل مختلف وأحيانا
كثيرة مستقبلي وتنبؤي.
فبرأيكم الأستاذ سبيلا وباعتباركم تتوفرون على ما يكفي من عناصر الرصد
للحظة الراهنة، سياسيا، وفكريا، ما هي أهم محطات التغيير في محيطنا الوطني
وعلاقة ذلك مع المحيط الجهوي والإقليمي والدولي.
> المغرب ككل البلدان محكوم بسياق تاريخي زمني وجغرافي، يفرض عليه
بالضرورة الانفتاح والتفاعل، والاندراج في سياق التحولات الإقليمية
والدولية.
لقد عاش المغرب تحولاته بطريقته الخاصة حيث انطلق النضال التقدمي التحديثي
منذ اللحظات الأولى للاستقلال من أجل تحديث الدولة وتطوير المجتمع، وانتهت
هذه الصراعات الطويلة المدى (التي تسمى سنوات الجمر، وهي فترة تقارب نصف
القرن، أي من بداية الاستقلال إلى مطلع القرن 21) إلى ضرورة التفاهم
السلمي والحوار السياسي. وقد أدى هذا الصراع الحاد والدموي، إلى تحولات
بطيئة وتدريجية، التحولات البطيئة فرضت بعض التعديلات الدستورية وإقرار
بعض الحريات السياسية والنقابية وبعض الحقوق واعتراف النظام بالتجاوزات
السابقة وإقرار المصالحة وجبر الضرر وتقبل دخول المعارضة إلى السلطة. وقد
تواقت هذا المسلسل مع اندلاع الحراك الجماهيري العربي.
هذا التحول الباكر البطيء والمتعثر الذي حدث في المغرب والذي ارتبط أساسا
بشكل مفصلي بانتقال السلطة من عهد إلى عهد، والذي كان التناوب التوافقي
ثمرة من ثماره، أدى إلى دخول المغرب في مخاض، بعض التحولات السياسية رغم
بطئها، التي البلد يساير سياق التحولات الإقليمية والجهوية، لما يُعرف
بالربيع العربي، بطريقته الخاصة وبزمنيته المتثاقلة الخاصة.
{ نلاحظ أنه بعد سنة من الحراك، بدأ المفكر يتساءل، بشكل مختلف وبآليات
مغايرة حول تفاصيل هذا الحراك الذي أنتج تمظهرات معينة، هناك مطالب يُتفق
عليها حول الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية، وهي مطالب
رفعها «المثقف العضوي» منذ سبعينات القرن الماضي، بشكل، يكاد يكون تصادمي
مع الأنظمة، إلاّ أن الحراك اليوم هو مجتمعي يسير بآليات أخرى في غفلة من
المثقف، علما أن الحراك في جميع الساحات يكون مسرحية واقعية تتشابه
أحداثها في العديد من الساحات مع الاختلاف في المغرب.
{ كيف ترصدون المشهد، أستاذ سبيلا، من موقعكم الفكري، خصوصا وأن الأمر يدعو إلى كثير من التساؤل وغير قليل من التشاؤم؟
> فيما يخص مواكبة المثقفين للربيع العربي نسجل حدوث تحولات في الوظائف، وتحولات في الأدوار بالنسبة للمثقف.
أولا هناك توسع في مفهوم المثقف الذي بدأ يعني فئات واسعة لم تكن واردة في
البداية، المثقف الفاعل، الذي أصبح يضم الإعلامي، والصحفي، والمناضل
الشبكي أو العنكبوتي والناشط الميداني، وفئات واسعة تتدخل في العملية
السياسية بينما وجدت، فئة المثقفين نفسها إما، بحكم موقعها الأكاديمي أو
بحكم نوع ثقافتها أو بحكم حصيلة تجربتها الماضية، مضطرة إلى أخذ مسافة مما
يحدث، تتيح لها التفكير، إذا لم يكن الموضوعي فعلى الأقل التقييمي والنقدي
لما يحدث.
وتدريجيا لم يعد المثقف بالمعنى الكلاسيكي للكلمة هو ذلك المثقف الذي
يندرج في إطار الحراك الاجتماعي والمنفعل، والذي يهتز ويصرخ، بقدر ما
استشعر ضرورة الاقتصار على تحليل المعطيات ورصد العوامل الذاتية للفاعلين
وتحليل المعطيات الميدانية ومحاولة تبين الخلفيات والبنيات والتفاعلات
العميقة.
فالانخراط في الحركية التاريخية يحجب على المحلل إدراك الأعماق المتفاعلة
داخل ما يحدث. فاتخاذ مسافة كافية، هو وحده الذي يتيح أمرين: 1- تبيان
الآليات الداخلية. 2- فرصة التقييم والنقد.
خاصة بالنسبة للأحداث الشائكة، مثل أحداث الربيع العربي التي هي أحداث
معقدة ومتداخلة، فيها الإعلامي والإلكتروني والديمقراطي، والاجتماعي،
والثقافي، والسياسي، وغيرها. كما تتداخل فيها أيادي محلية وأخرى خارجية.
إضافة إلى أن هذا الحراك هو -إلى حد ما- هو حركية لم تكتمل بعد.
إن محاولة تحليل أحداث ما يسمى بالربيع العربي هي محاولة التأريخ للحاضر،
لكن هذا الحاضر ما زال في حالة غليان ونتائجه لم تعط كل ثمارها بعد، فهذا
الحراك، ما يزال يتفاعل، ونتائجه غير واضحة.. بل، على الرغم من بعض
المكاسب، ما تزال متعثرة ومعاقة. نعم هناك إسقاط رموز أنظمة، هناك الرئيس
المخلوع، والرئيس الهارب، والرئيس المقتول، ولكن النظام السياسي، ما يزال
هو هو، فهذه الحراكات، هي حراكات جماهيرية تحكمها التلقائية والعفوية،
وغياب النخبة المؤطرة، والإيديولوجيا الموجهة وغياب اليوتوبيا والتصور
المجتمعي. إنها على خلاف الثورات العالمية السابقة، تفتقد إلى هذا الموجه
التاريخي، وإلى النخبة المثقفة الفاعلة، والإيديولوجيا الحافزة والتصور
المجتمعي والأفق الفكري. لذلك يبدو أن الحراك الجماهيري العربي يعاني
التعثر والتباطؤ والارتباك. فهو يقدم خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء،
وهذا الوضع يضاعف صعوبات التحليل لما يحدث إصدار أحكام جاهزة، وخاصة
الأحكام الإيديولوجية والنهائية التي يتلهف عليها الجمهور ووسائل الإعلام.
كان الرهان الأول يفترض أن العرب دخلوا التاريخ الحديث أول مرة، وخرجوا من
سباتهم الطويل وأن هذا الحراك العربي سيحقق الديمقراطية والحداثة والتطور،
ولكن من بعد تبين أن أفق الانتظار مختلف وأن التاريخ خادع ومخادع لأن
نتيجة الحراك هي نوع من المراوحة الخادعة، بزوغ القوى التقليدية المنبعثة
من الأعماق السحيقة للمجتمع والتي تريد توجيه الحراك نحو استلهام نماذج
الماض.
{ ما هو مضمون مداخلتكم الأخيرة حول الربيع العربي؟
> المداخلة التي ألقيتها أخيرا تحت عنوان: كيف نقرأ «الربيع العربي»؟
وهي إلى حد ما قراءة إبستمولوجية، بين المستويات الممكنة لقراءة وفهم
أحداث الحراك الجماهيري العربي، ولخصتها في أربع مستويات القراءة النضالية
التمجيدية، وهي قراءة الفاعل المباشر وما يرتبط به من آمال وانتظارات وهي
قراءة ذات مشروعية لكن لها حدودا تتمثل في الأسطرة والشوفينية ومباركة
الأوهام. القراءة الثانية هي القراءة الاستشكالية، وهي قراءة وصفية
إشكالية انطلاقا من معطيات ميدانية ابتداء من العامل الديمغرافي والحضري
ومعطى نسبة التعليم والأمية وجغرافيا الأجيال، والمعطى الاقتصادي المتمثل
في التفاوت الاجتماعي والبطالة والغلاء وانسداد آفاق التشغيل والاندماج
الاجتماعي، والمعطى السياسي المتمثل في نوعية الاستبداد السياسي/العسكري
العربي كاستبداد مطلق. أما المستوى الثالث فهو قراءة ما يحدث قراءة فلسفية
على ضوء مقولات فكرية كبرى كالعقلنة والحداثة والتقنية والحرية ومكر
التاريخ. المستوى الرابع هو القراءة الجيوستراتيجية بمعنى خاص أي كقراءة
تركيبية استجماعية تراعي دور وإرادة الفاعل وآماله ومطالبه مع تجاوز
أوهامه وهلاوسه التاريخية، وتراعي المعطيات الميدانية من مختلف المستويات
كما تراعي ثالثا معنى التاريخ الكوني أو توجهاته كما تمثل ذلك القراءة
الفلسفية، لكنها تدرج كل المعطيات ضمن «رقعة الشطرنجّ العالمية بقواها
السياسية والاقتصادية والثقافية المختلفة مع تلقيحها بمقولة فلسفية هي
مقولة «مكر التاريخ» من منظور تعديلي لمقولة هيجل، بالإشارة إلى مفارقات
هذا المخاض التاريخي المتمثلة في الصراع بين إرادة التقدم وعوائقه
وتراجعاته.
{ في مسار حديثكم، وردت كلمة لها دلالاتها وتتعلق بمفهوم «التراجع»، ومن
هذا المنطلق وباعتباركم رجل حداثة، كرست فكرك ووقتك ومجهودك العلمي
والمعرفي من أجل الكتابة عن الحداثة، وما بعد الحداثة. هل فوجئتم بتوقف
المسلسل الحداثي، لبروز التيار التقليدي وهيمنته في العديد من الأشكال
الاجتماعية والمؤسسات السياسية. هل الأمر يتعلق بانكسار أم برياح مارة؟
> الرصد المتأني للمجتمعات العربية يجعل المرء لا يفاجأ بهذه النتائج.
فالمجتمعات العربية شهدت تحولات سطحية على مستوى التحديث التقني، والتحديث
السياسي الحديث المؤسسي بشكل أو بآخر، لكنها لم تعش تجربة التحديث الفكري،
والحداثة الفكرية.
التاريخ الثقافي العربي هو تاريخ التكرار والاجترار والعود الأبدي لذات
الشيء. فالمجتمعات هي مجتمعات ما زال يحكمها الماضي ونماذجه، كما يحكمها
التراث وتحكمها التأويلات المتزمتة لهذا التراث. نعم في مصر في القرن
الماضي كانت هناك حركية نهضوية وتنويرية لكن بعد ذلك التف عليها التأويل
المحافظ (طه حسين مقابل الشيخ شعراوي).
ولهذا لم يكن من المنتظر أن تحدث تحولات أعمق من التحولات التي حصلت. لأن
العمق الثقافي لهذه المجتمعات هو عمق تقليدي، مرتبط بثقافة تقليدية دينية
لم تتحدد ولم تعرف التأويلات الاجتهادية، التي تيسر التكيف مع معطيات
العصر وتستلهم المناهج والرؤى العقلانية والتفتح والتسامح والقبول بالتعدد
والاختلاف على كافة المستويات. فجل الحركات التي ظهرت هي، إما حركات
تقليدية متشددة ومتزمتة ومتشنجة، وإما حركات تحاول أن توفق بين الماضي
والحاضر، بين التراث والحداثة لصالح الطرف الأول. ولهذا لم تكن هناك في أي
فترة مؤشرات تدل على أننا أمام تحولات نوعية في التاريخ العربي الحديث.
فالمجتمعات العربية محكومة بقوة بآليات التقليد. وما أشكال التحديث إلا
أشكال سطحية، ولم يتم إسنادها بركائز أو بمقومات التحديث الفكري الذي هو
البنية الأساسية للحداثة. فهذه الأخيرة لا تقتصر على التحديث التقني
وإنشاء المعامل والصناعات الحديثة والإدارات الحديثة، لأن هذه الأمور تظل
على أهميتها تحديثا شكليا وسطحيا. أما البنية التحتية العميقة فهي غائبة،
وأعني بها التحديث الفكري.
{ تتحدثون الأستاذ سبيلا عن فاعلين جدد، في مسار تحليلكم، وكذلك في نتائج
اشتغالكم على هذا المسار. فهؤلاء الفاعلين الجدد هل يملكون زمام الأمور
لتوجيه تيار الحداثة نحو المستقبل، بتقويم الاعوجاج. وأقصد الفاعلين الجدد
في التيار الحداثي؟
> على مستوى الفاعل هناك مستويات من الفاعلين. فهناك الفاعل الخفي، أو
الفواعل الخفية أو الأيادي الخفية، سواء كانت دولا أو مؤسسات، أو شركات
متعددات الجنسية إلخ.. فالفواعل متعددة، سواء تعلق الأمر بالفواعل الضخمة
غير المرئية كالعولمة أو الامبريالية، أو الإمبراطورية أو شيئا من هذه
القبيل، وهي فواعل موجهة ومؤثرة توجه الأحداث من وراء الستار.
أما الفاعل المباشر في الميدان فيتوهم أنه هو الفاعل الحقيقي، وبأنه هو
المؤثر الحقيقي، وبأنه صانع الأحداث ولكن صناعته تظل محدودة، ومجال تأثيره
وفعله محدود.
المخزون العميق لهذه الفئات المباشرة وخاصة الشباب وعلى الوجه الأخص
الشباب الذي استخدم الأدوات الإلكترونية للتجميع والتجييش، وللتعبئة في
المظاهرات والتجمعات، هو الثقافة التقليدية بدرجات متفاوتة، لكنه اكتسب
جزءاً من الثقافة الحديثة، سواء على مستوى كونها آليات وتقنيات أو على
مستوى أنها منافذ تتيح التعرف على الثقافة الحديثة. وهي فئة اجتماعية
لديها ملامسة أولية للحداثة والتحديث عبر الأدوات والوسائل التقنية
الإلكترونية الحديثة. لهذا نجد الفاعل المباشر، غير المؤطر في حزب سياسي
حداثي، يراوح بين الثقافة الحديثة والثقافة التقليدية، وكثيرا ما تجره
الثقافة التقليدية، لأن هذه الأخيرة قوية، وراسخة في النفوس، ولأنها كذلك
محط تأطير اجتماعي، فالمجتمع يرعاها وكل المؤسسات ترعاها، سواء الإعلامية
أو الثقافية والمدرسة أيضا، والتي تحولت في العقود الأخيرة إلى مؤسسة
لإعادة إنتاج التقليد.
في هذا الصدد نذكر مثلا أن تقرير الخمسينية في المغرب مثلا أشار إلى أن
فئات من المدرسين المتشبعين بأفكار متطرفة دينية حولت المدرسة إلى أداة
لإعادة إنتاج التقليد بشكل سيء. فالتقليد لديه وسائل وآليات لاسترجاع
المجتمع والنخب إلى حضيرة التراث والتقليد.
{ إذا سلمنا بهذا التحليل الذي نشير فيه بأن الفكر التقليدي راسخ ونابع من
استراتيجية معينة على بنية المجتمع ككل، فهل هذا يعني أن هناك خوف على
التيار الحداثي.
> على مستوى الآلية، يرتكز التقليد على آلية موضوعية عبر التربية،
والأسرة، والعادات والقيم وعبر التصورات المتداولة، والحياة اليومية وذلك
عبر مؤسسات، وهذه آليات لإعادة إنتاج نفس التمثلات والأفكار والممارسات
والبنيات.
الحداثة أيضا لديها آليات لإعادة نفسها باستمرار، ولكن مع الفارق بين
قوتين، قوة التحديث وقوة المجتمع التقليدي وقوة التقليد الراسخة والمتحددة
والتي تأخذ صورة دفاع مجتمع عن نفسه تجاه ما يمكن تسميته «عدوان الحداثة»
وخاصة الحداثة الغربية وخاصة في واجهتها السياسي والأخلاقية.
فنحن إذا أمام آليتين تتقاطعان في صمت وتتفاعلان في صمت. فالتقليد يحدد
نفسه باستمرار، والشيء الجديد هو أن التقليد بدأ يعي ذاته عن طريق النخب
والأحزاب الإسلامية الجديدة، مما زاد توطيد وانتعاش التصورات والممارسات
العتيقة كما تعبر عن ذلك مظاهر الحياة العامة، وكما عبر عن ذلك صناديق
الاقتراع مؤخرا.
وبهذا المعنى فالتقليد بدأ يعي ذاته ويضع استراتيجية لعمله المجتمعي، ليس
في المغرب فقط، بل في العالم العربي ككل. فمصر التي عاشت فترة تنوير
وانفتاح، تظهر فيها الآن وبقوة التيارات السلفية، مما يؤكد فرضية أن
المجتمعات العربية محكومة إلى حد الآن بقانون المراوحة التاريخية
(L?entropie) التي عبر عنها محمود درويش بصيغة شعرية جميلة ومعبرة: فلا
الأمس يمضي ولا الغد يأتي.
{ طيب أستاذ سبيلا، أنت تتحدث على أن المد التقليدي، طور نفسه، وجدد
آلياته التي تقول عنها أنها سطحية. من أجل تنمية مشروعه وتأصيله في
المجتمع. ألا ترى معي بأن هذا التيار استند على البنود الكبرى للتيار
الحداثي، من خلال رصد محتوى العديد من الخطابات في السياسة والاقتصاد
والمجتمع وفي الإيديولوجية التي فصلها على مقاسه، كمعطف ظاهره حداثي،
وباطنه تقليداني أصولي محظ، كيف تقرأ هذه المفارقة، وهل بإمكان خطاب هجين
أن يبني مجتمعا مستقبليا منفتحا على الأسئلة الكبرى التي يفتحها دستور
اليوم ليكون المغرب صفا إلى صف الدول المتقدمة ديمقراطيا؟
> هذا التيار التقليدي أو التقليداني، فيه مستويات، فيه المرن، وفيه المتشدد، وفيه المنفتح، وفيه الرافض.
حدة الصراع التاريخي، تفرض على كل طرف أن يقتبس شيئا من الآخر، ومن تقنيات
الآخر، وخاصة الأدوات. فمثلا التيار التقليدي اليوم يحسن استعمال الأدوات
الإلكترونية واستعمال الصحف، والإعلام عامة. أنظر إلى الفضاء الإعلامي
مثلا تجد أن هناك ما يقارب 700 قناة تلفزية عربية أغلبها ذو مضمون تراثي
تقليدي. بالإضافة إلى الفضاءات التقليدية التي يتقنها هذا التيار، وهي
الطقوس والعلاقات الاجتماعية، والعمل الخيري، والمساعدات الاجتماعية، وغير
ذلك. بالإضافة أيضا إلى الآليات التقنية التي استعملها التيار التقليدي
على نطاق واسع، الذي يجد سندا سياسيا قويا من بعض دول الخليج العربي.
ولهذا نقول أنه على مستوى التمويل يمكن القول بأن الوليمة البترولية
العربية قد حول جزء كبير منها لتقوية التقليد المؤسسات التقليدية، وإلا
كيف نفسر اليوم بأن هذه المجتمعات الخليجية، ليس فيها انتخابات ومؤسسات
ديمقراطية وتود توجيه الحراك. فمئات القنوات الإعلامية اليوم، هي أدوات
للتأطير التقليدي للإنسان العربي. فقد اعتقدت بأن اقتباس مظاهر التقدم
التكنولوجي تعفي وتغني عن الانفتاح على ثقافة الحداثة، فهذا الإنسان
العربي المعرض في بيته وفي الشارع وفي كل مكان، لتأطير يومي مستمر، كيف
تريدنه أن يكون حداثيا في غياب ومحدودية ثقافة حداثية واعية. هذا ناهيك عن
الوضعية الهشة للأحزاب العصرية.
ولهذا أكرر أن الفضاء الحداثي ملاحق في كل كبيرة وصغيرة بالمد التقليداني.
فكيف تريدين من هذا الفرد أن يبدع فكراً حداثيا، أو فكرا خارجا عن هذا النمط التقليداني.
{ طيب لكي نجعل من هذا الحوار حواراً يعرج على قضايانا الوطنية فيما يخص
ثنائية التقليد والتحديث، على الرغم أن الوطن جزء من هذا العالم العربي،
لكن هناك خصوصية حسب العديد من المراقبين، وهذه الخصوصية متجسدة في
المسارات السياسية والثقافية والاقتصادية، أو فيما عبرنا عنه جميعا
ودعمناه، والمتعلق بالمشروع الديمقراطي الحداثي، إلى أن بعد الحراك
العربي، لم نعد نسمع حديثا يذكر حول هذا المشروع، وبدأنا نسمع خطابا آخر
يؤشر على أننا لم نكن نعي، نحن أيضا، أن الفرد محاصر في بلدنا بالتيار
التقليداني في العديد من فضاءاتنا الاجتماعية والسياسية؟
> عاش المغرب مبكراً مسألة الصراع من أجل الحداثة والتحديث، فمنذ ما
يقارب نصف القرن كان هناك صراع قوي لإقرار الدستور والديمقراطية والتحديث
السياسي والمؤسساتي والثقافي، وهو صراع حاد وقاسي خلف ضحايا خلال ما يسمى
بسنوات الجمر والرصاص، ولهذا عندما جاء الربيع العربي وجد أن إرهاصات
الصراع في المغرب قد حركت إلى حد ما معطيات موجودة دون أن تذهب بها إلى
الحدود القصوى...
فزمن الربيع العربي هو زمن في ظاهره ديمقراطي حقوقي لكن في عمقه نوع من
المراوحة والانتحاء Entropie. فالآمال التي كانت معقودة في فترة نسميها
فترة الحلم بالديمقراطية والحداثة هي فترة تضاءلت أمام التصويت الجماهيري
الكاسح في الانتخابات. وأنا لا أقول بأن ما يحدث هو نهاية للتيار الحداثي
لأننا فعلا أمام مخاض تاريخي ولعل الأمر يتعلق ببضعة عقود لاختبار تاريخي
ستستنتج فيه الجماهير، بأن الوعود والبشائر والتبشيرات الإيديولوجية
الدنيوية والأخروية محدودة، وأن المتطلبات صعبة وسيكتشف الناس أن التاريخ
وتطور المجتمع معرض للنكسات والخيبات.
لقد عاش المغرب منذ القرن الماضي ثلاثة دورات تاريخية كبرى: فقد عشنا في
مرحلة معينة التجربة الوطنية وكانت هناك نخب وطنية ضد الاستعمار تسعى إلى
تحقيق الاستقلال، وحققت نتائج، ثم ظهرت بعد ذلك نخبة تقدمية رأت أن هذا
الاستقلال ناقص، وبأنه يتعين تحقيق إصلاحات اجتماعية، وإقامة عدالة،
وتوزيع الثروة، وتحديث المجتمع...»، فكانت هذه اللحظة لحظة مخاض وصراع
قاتل، المرحلة الثالثة هي مرحلة الإسلام السياسي والتي ظهرت فيها نخب
جديدة تعيد الاعتبار للهوية الدينية واللغوية والثقافية والتحديث والتطور
سيكون ناقصا.
نحن إذن أمام دورة تاريخية طافحة بالوعود والبشائر بتخليص المجتمع
وتطهيره، وسيعود التاريخ ليبين بأن الأمر مجرد دورة تاريخية لها
محدوديتها، وستنكشف حدودها وخاصة حدود ممارسة نخبها التي تدعي أنها تحكم
باسم القدسية وتعد الناس بالجنة على الأرض وسيتبين أنها مجرد تجربة بشرية
لها حدودها ونقائصها، لكن ذلك يتطلب عناء تاريخيا، ليعرف الناس أن الخطاب
والوعود والأحلام الطوباوية والبشائر شيء وأن سيرورة التاريخ الفعلي
الواقعي التي تحكمها الرأسمالية والإمبريالية والتقنية والحاجات والرغبات
لها منطق آخر. هذه الدورة التاريخية التي تسود المنطقة العربية تعود إلى
نهاية سبعينات القرن الماضي بعد الهزائم العربية أمام إسرائيل المدعومة من
الغرب، وبداية تبلور رد فعل ووعي إسلامي دشنته الثورة الإيرانية التي كانت
إيذانا بمرحلة انبعاث وعي ديني سياسي في المنطقة.
{ طيب أستاذ سبيلا، إذا سلمنا بأن بروز التيار التقليداني هو «دورة
تاريخية» و»سيرورة تاريخية»، ملكنا فيها بالأمس الريادة كحداثيين، وقطعنا
فيها أشواطا هامة نحو تحديث المشروع الديمقراطي الحداثي، فما هي أدوارنا
اليوم كنخبة حداثية بكل مشاربها السياسية والاقتصادية والثقافية
والإعلامية، تدافع عن التيار الحداثي؟
> وظائف النخب لا يمكن إلغاؤها، وليس من اختصاص أي أحد أن يفعل ذلك،
فهذه وظائف تلج الساحة وإذا تخلى فيها طرف فهناك أطراف أخرى، ولكن مع
الأسف يمكن القول أنه في العقد الأخير، حدث نوع من التراخي أو التراجع في
الممارسات والرؤى التقدمية والحداثية، وذلك نتيجة عوامل موضوعية وذاتية.
لكن مع الأسف لا وجود لمعالم مراجعة نقدية ذاتية لهذه التجربة. فالنقد
الذاتي مسألة ضرورية. نعم هناك نوع من الارتخاء التاريخي في التيار
الحداثي، يستدعي إضافة إلى النقد الذاتي تساؤلات فكرية جوهرية من أجل
إحداث تحولات عميقة، ومن هذا المنطلق لا أنفي أن هذه الأسئلة الفكرية
موجودة، عند بعض مفكرينا الكبار (الجابري، العروي..) لكن ما يطغى ويسود هو
آلية التبرير واستمرار السابقة بسلبياتها.
لقد كانت أفكار الحركة التقدمية في الستينات والسبعينات بمثابة يوتوبيا
جذابة مغرية تؤطر الجماهير، وتلهم الشارع لكن مع تدني الممارسات وخاصة مع
تحمل المسؤوليات، بدأت الصورة الجذابة تنطفئ وبدأت النقائض والعيوب تظهر
وتبين أن المناضل ليس ملاكا وأنه مجرد كائن اجتماعي ذو رغبات وحاجات. ورغم
أن في هذه التجربة الكثير من التعثرات والانتكاسات فليس هناك معالم نقد
ذاتي وإعادة تقييم لهذه التجربة.
{ ألا ترى معي أن سبب تعثر التيار الحداثي ناتج عن كونه انزوى وعاش في ماض
لامع في ذاكرته التاريخية لكي يصبح بدوره تيارا يتوجه إلى الماضي عوض
توجهه إلى المستقبل بمعنى هل التيار الحداثي توقف ليسرد انجازاته تاركا
التاريخ أو الدورة التاريخية كما قلت تسير لصالح التيار التقليداني الذي
أعاد أسئلته الوجودية مستفيدا من خطاب الحداثة، في أكثر من موقع أو على
الأقل في شكلها. فما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك من موقعك كمفكر؟ هل
الأمر يتعلق بإرادة خارج عن إرادة الحداثيين أنفسهم بحكم غياب الدعم من
الدولة والمجتمع اللذان يعيشان بثقافة تقليدانية أم أن الأمور تتعلق كما
أشرت بالذات الحداثية؟
> طبعا هناك عوامل متعددة وهذه مناسبة للدخول ومناقشة الأفكار التي
طرحها العروي مؤخرا، حيث يشير إلى أن من عوائق التطور في المغرب هو أن
المجتمع يجر إلى الوراء بحكم تقليدانيته وعدم تطوره والنخب المثقفة موزعة
بين التقليد والحداثة ، والدولة هي حاملة ورائدة التحديث، وأن الملكية
والدولة عامة هي التي تجر قاطرة التحديث، وأن القوى التي تجر إلى الخلف
وتشد الدولة نفسها هي المجتمع أو الجمهور والنخب التقليدية، لأن المجتمع
تقليدي في عمقه.
نقاش العروي الأخير يخرج البحث والتفكير في هذا الموضوع من دائرة العوامل
الصغيرة واللحظوية والانفعالية والتحيزات والانتماءات، إلى مستوى التفكير
التاريخي البعيد المدى أي الدولة والمجتمع والنخب، وهذا الثالوث يضع
أمامنا تساؤلات كبرى.. أيها يقود الآخر؟ ومن يجر إلى الأمام ومن يجر إلى
الخلف؟ الدولة أم المجتمع أم النخب؟
{ طيب بناءا على هذا الثالوث والمتعلق بالدولة والمجتمع والنخب. نجد
أنفسنا أمام إشكالية كبرى اليوم، فهناك دستور متقدم جدا، وهو دستور يرقى
إلى مفهوم مأسسة الحياة السياسية الخاضع للقوانين والأجرأة كما أننا أمام
مجتمع وشعب مثقل كاهله ملف اجتماعي منفتح على أفق ضبابي بثقافة تقليدانية
تفكر بأسلوب آخر في البحث عن ممرات داخل هذه الإشكالية. أنت أستاذ سبيلا
كمفكر يشتغل على المعطيات والآليات كيف تقرأ الأفق؟
> هذا مخاض تاريخي كبير وصراع اتجاهات، فيبدو أننا محكومين بقدر تاريخي
يمثل في ضرورة المرور عبر تجربة أو مرحلة الإسلام السياسي وما سينتجه عنه
من إيجابيات وسلبيات. وبالمقابل يبدو أن حركة التقدم والحداثة لم تبلور
بعد جوابا تاريخيا على هذه الإشكالية الكبيرة. فما يزال هناك نوع من
«الدوخة» التاريخية أو التيه الفكري الناتج عن عماء الممارسة وانطفاء
الفكر.
وعلى العموم أنا لست متشائما لأنني أعطي للعوامل الموضوعية أهمية كبيرة
وأقول أن التاريخ ماكر بمعنى أنه أحيانا يظهر لك شيئا وفي العمق تتبلور
أشياء أخرى. وأريد أن أشير أنه في الغالب تكون ردود الفعل متوقفة عند مسار
الأحداث والتطورات ولكن ما ينبغي الانتباه إليه هو وعي النخب وقدرتها على
إدارة دفة الصراع بغية تحصين المكاسب والتقليل من الخسائر، وعند ذلك
ستتبين حدود ونقائص التجربة الحالية مما سيفتح مجالا أمام الحركة التقدمية
الحداثية واليسارية لانبعاثها من الرماد بالرغم من كل السلبيات. وأفترض أن
هذا الاختيار التاريخي سيكون له نتائج على المدى البعيد إيجابية لصالح
التيار الحداثي.
{ إذا سمعت الأستاذ سبيلا، نريد أن ندقق معك أكثر في هذه السيرورة
التاريخية بما لها وما عليها. فقد انكسر حلم التيار الحداثي ليس اليوم بل
من الأمس البعيد عندما دعمت الدولة التيار التقليداني وذهبت إلى أبعد من
ذلك حتى فككت بين مغرب يدافع عن المقاولات الكبرى في الديمقراطية وحقوق
الإنسان ودولة المؤسسات وبين مغرب ينموا بشكل آخر تحت وطأة التفكير الغيبي
من بوابات كثيرة أهمها التربية والتعليم وكأن هذا المغرب التحتي يشد رحاله
إلى القرون الغابرة. وإننا اليوم إزاء إشكالية كبرى ومأزق تاريخي خطير بين
دولة حداثية في دستورها وقوانينها تسعى إلى بناء الدولة الحديثة وبين
مجتمع يجر إلى الوراء بممارسته اليومية في ظل خطاب ينموا بوعي أو بدونه
ليأسس دولة غير تلك التي نرسمها لمستقبل المغرب.
فهل نخب اليوم قادرة على رصد وتحليل هذه الإشكالية؟
> الحركة التقدمية الحداثية المغربية هي إلى حد ما امتداد للحركة
الوطنية أو فصيل منها. فقد استقل المكون الحداثي وقام بتجربته النضالية
الخاصة. ازدهار وانتصار الحركة التقدمية كان انعكاسا لمرحلة تاريخية كونية
كانت قد تميزت بازدهار حركات التحرر الوطني المدعومة بقوة من طرف المعسكر
الاشتراكي. وهذا الشرط التاريخي الكوني الذي كان السند الخلفي لهذه الحركة
قد اختفى اليوم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وانتصار الغرب الرأسمالي،
وترسخ الهيمنة الأحادية للإمبراطورية الأمريكية مع ما وازاه من ازدهار
القوى التقليدية وصعود الإسلام السياسي سواء في صيغته الإيرانية أو في
صيغته الخليجية المحافظة المدعومة والمحفزة بفوائض الوليمة النفطية
العربية.
والمفروض الآن على القوى التقدمية والحداثية أن تراجع نفسها وخطابها
وتستعيد حيويتها وألا تخجل ذكر نقائصها وأن تعيد الاعتبار للفكر العقلاني
والحداثي وتنشيط الذاكرة الثقافية التي بدأت تتراخى كثيرا وأن تعيد نقاشها
في الملفات الكبرى لضخ الفكر الحداثي التقدمي في شرائح معينة جامعية
وفكرية وثقافية وسياسية ومجتمعية. ورغم أن هذه النبضات الفكرية التي كانت
حية في فترة من الفترات لم تعد قائمة إلاّ أني لست متشائما، لأن تحديات
وضرورات التقدم والتنافس التقني والاقتصادي والفكري اليوم التي يفرضها
العصر هي التي ستفرض على المجتمع ضرورة الاستجابة وتوليد قوى وطاقات
تحديثية جديدة وملائمة