كتاب ‘التفكيكية التأسيس والمراس’ لهشام الدركاوي الصادر عن دار الحوار
للنشر والتوزيع بسورية في طبعته الأولى (2011)، ينبني على رؤية ابستمولوجية
تتوخى التفكير في التفكيكية بوصفها ممارسة نقدية ما بعد حداثية، وقد سعى
الباحث هشام الدركاوي على امتداد كتابه (150 صفحة) إلى المزاوجة بين المهاد
النظري للتفكيكية، وممارسة فعل التفكيك انطلاقا من قواعد وآليات تنفتح على
شواهد شعرية مخصوصة بغية إخضاعها لمشرحة النقد، وارتباطا بهذا السياق تضيئ
المقدمة التي وضعها للكتاب الدكتور الرحالي الرضواني الأثر التحليلي
لاستراتيجية التفكيك التي لم تجد ما يوازيها من اهتمام داخل المحافل
العلمية العربية، ولعل ذلك راجع برأيه إلى طبيعة المسوغات الفلسفية
للتفكيكية التي تربأ بذاتها عن ارتداد سرابيل المذهبية المبتذلة.
وينبغي استحضار مؤتمر جامعة ‘جون هوبكنز’، في تشرين الاول/أكتوبر سنة 1966
الذي انعقد لمناقشة اللغات والعلوم الإنسانية، وتميز بمشاركة رواد المدرسة
البنيوية أمثال لوسيان جولدمان، وتزفتان تودوروف، ورولان بارت، وجاك لاكان،
وجاك دريدا، وأجمعت مداخلاتهم على نقد البنيوية، وتأسيس ما اصطلح عليه ما
بعد البنيوية، وقد شكلت مداخلة جاك دريدا ‘البنية، والعلامة، واللعب فى
خطاب العلوم الإنسانية’، إعلانا عن ميلاد التفكيكية غير المنتمية للخطابة
الفلسفية التي يمكن أن تفيد الهدم كما هو الحال مع مارتن هيدغر، ولا
الانحلال مع فريد، بقدر ما ترتبط بتحليل البنى المترسبة التي يتشكل العنصر
داخلها.
والتفكيكية حسب موراي كريغر حقل معرفي، وهي من ثم مختلفة عن البنيوية
ومعترضة على سلطة اللغة، وينبغي استحضار التمييز الذي قدمه جاك دريدا حول
مفهوم الإغلاق في التاريخ أي إغلاق الميتافيزيقا، والنهاية، فهل تقف
التفكيكية في المسافة بين الإغلاق والنهاية؟
لا وجود لجواب نهائي طالما أن التفكيكية تؤكد على انفتاحها على السؤال
الفلسفي وعلى التجربة، إنها مجموعة قواعد وإجراءات ترتبط بالنص تطبيقيا،
والكتابة تدمير لنسق تصوري للدال والمدلول بالمعنى الوارد في كتاب محاضرات
في اللسانيات العامة لفرناندو دوسوسير.
إن علم الكتابة أو الغراماطولوجيا ليس علما ولن يكون كذلك. والنص text يشكل
بؤرة أساس في التصور الفلسفي للتفكيكية، ليس فقط لدى جاك دريدا بل لدى
نقاد من طينة ج. هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم، النص
هو المطبوع أو المكتوب، ويرتبط بمفاهيم مثل الملفوظات uerances، و يتمتع
بغنى وطاقة واقتدار على استيعاب كل أنماط القراءة الممكنة إلى جوار مزية
قابليته التأويلية، وقدرته على إنتاج المعنى في علاقة وطيدة بالمتلقي، ما
دام اللفظ لا يحمل معنى في ذاته، مما جعل المدلول يتمتع بأساليب المراوغة
الزئبقية التي مكنته بتعبير الدكتور الرحالي الرضواني من أن يصبح دالا يحيل
إلى مدلول يتحول بدوره إلى دال ضمن نطاق سيرورة لامتناهية عجيبة.
ويعكس كتاب ‘التفكيكية التأسيس والمراس’ لهشام الدركاوي العلاقة بين
الثقافة العربية والثقافة الفرنسية، وولع الثقافة العربية بالمناهج
والنظريات الغربية، وهي علاقة تتسم بخصوبة وافتتان، وهو ما تعكسه لائحة
المراجع الموزعة بين الكتابات المواكبة لتطور الدرس النقدي الغربي، والعلوم
الإنسانية بصفة عامة، وبين الترجمات التي تسعى إلى تقريب هذه المناهج من
القارئ العربي، مثل كتاب بوزيد بومدين الموسوم بـ: الفهم والنص، دراسة في
المنهج التأويلي عند شلير ماخر وديلتاي الصادر عن الدار العربية للعلوم
ناشرون، وأنطوان خوريك مدخل إلى الفلسفة الظاهراتية دار التنوير للطباعة
والنشر، وعبد الكريم شرقي: من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة منشورات
الاختلاف، وعادل عبد الله: التفكيكية إرادة الاختلاف وسلطة العقل دار
الكلمة للنشر والتوزيع، وبسام قطوس: استراتيجية القراءة، التأصيل والإجراء
النقدي دار الكندي للنشر والتوزيع، إلى جوار ترجمات من قبيل ترجمة فريد
الزاهي لمواقع جاك دريدا الصادرة عن دار توبقال، وترجمة أسامة الحاج لكتاب
التفكيكية لبيير زيما الصادر عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر
والتوزيع.
وهشام الدركاوي بانفتاحه على هذه المرجعيات يؤشر على طبيعة المثاقفة بين
الثقافة العربية والثقافة الفرنسية التي اكتسبت سابقا تقاليد الحوار
المثمر، نستحضر في هذا السياق الحوار الفرنسي الألماني، وجاك دريدا مثل
مركز اهتمام المثقفين الألمان خاصة منهم مانفريد فرانك المختص في تفكيكية
جاك دريدا، إضافة إلى شراح ومترجمين أمثال ألكسندر كورييه، وألكسندر كوجيف،
وإيريك فايل، وإيمانويل ليفيناس.
كتاب ‘التفكيكية التأسيس والمراس’ لهشام الدركاوي يتسم بالجدة والابتكار،
ويترجم عملية مثاقفة واعية لأصول الخطاب ولامتداداته الفكرية والأدبية، وفي
الوقت نفسه يسهم الباحث الدركاوي في إعادة التفكير في مفاهيم مثل الاختلاف
التي وضع لها جاك دريدا تسمية غير مألوفة في اللغة الفرنسية فبدلاً من
(La. Dierence) طرحت (La dierance) بابدال حرف (a) بدلا من (e)، وهو اختلاف
لا يظهر فى نطق الكلمة، وإن كان يظهر فى الكتابة. ويرتبط مفهوم الاختلاف
بمفهومي الإرجاء والفسحة.
ومفهوم الكتابة يعد مفهوما واسعا وعميقا في الممارسة التفكيكية، ونستحضر في
هذا السياق حديث سولير في المجلة الفرنسية الفلسفية magazine philosophie
fran’aise عن مفهوم الكتابة معتبراً انها أسلوب من أساليب التناص، وستعمل
زوجته جوليا كريستيفا، ورولان بارث على تأسيس نظرية النص Th’orie Du Texte
والإهتمام بالكتابة انطلاقا من الدرجة الصفر الكتابة le degr’ zero de
l’ecriture، وسيسعى رولان بارث إلى تقديم مفهوم جديد للكتابة في كتابه لذة
النص Le Plaisir du texte معتبرا الكتابة لذة اللغة أو كماسوترا اللغة،
وهذا ما يبرر لجوء صاحب الكتابة والاختلاف إلى كشف غراماتولوجيا الكتابة،
وتأسيس علم الكتابة عبر أسلوب يتسم باللعب والقلق اللغوي، وعلم الكتابة أو
الغراماطولوجيا ليس علما ولن يكون كذلك. وقد عمل جاك دريدا على نسف المعاني
الثابتة لمفاهيم مثل مركزية العقل، و مركزية الصوت، وميتافيزيقا الحضور،
والأثر، والاختلاف، والانتشار.
ويتبع الباحث استراتيجية تحليلية في أرخبيل كتابه المكون من ثلاثة فصول،
وكشف مصطلحي دقيق منطلقا من إشكالية أزمة الترجمة وإيجاد المقابل العربي
لـ: D’construction مستحضرا اجتهادات عدد من الباحثين أمثال: عبد الله
الغذامي الذي يترجمها بالتشريحية في كتابه ‘الخطيئة والتكفير’ وميجان
الرويلي وسعد البازغي اللذين يترجمانها بالتقويضية في كتاب ‘دليل الناقد
الأدبي’، وسعيد علوش بالتفكيكية في ‘معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة’،
وعبد الله إبراهيم وسعيد الغانمي وعلي عواد بالتفكيكية في كتاب ‘معرفة
الآخر’. وهذا التيه يمتد إلى مفاهيم أخرى مثل الأثر والاختلاف والمركز
والهامش، لينتقل الباحث هشام الدركاوي للحديث عن شرعية التفكيكية في الساحة
النقدية العربية، حيث وصفها صلاح فضل بالمناهج النقدية، في حين وصفها عزيز
عدمان بالفلسفة، وسيعمد الباحث إلى كشف العلاقة القائمة بين التفكيكية
والمصطلحات المتاخمة خاصة في نظرية التلقي والسيميائيات منتهيا إلى المشترك
بينهم (لانهائية التأويل) ونقاط الاختلاف والاختراق (سيرورة التأويل).
إن التفكيكية بما تمتلكه من آليات الشك والتقويض والبرهنة ستعمل على نسف
المركز المتمركز حول اللوغوس، ورفض ميتافيزيقا الحضور ما دام جاك دريدا قد
جعل من المجاز والاستعارة أصلا للكلام منتقدا في الوقت نفسه النظرية
اللغوية السوسورية، والإتجاه البنيوي، والتشكيك في كل المفاهيم البنيوية.
ويؤكد الدركاوي أن صاحب الكتابة والاختلاف رغم تأثره بظاهرية هوسرل فإنه
يختلف معه في مسألة نهاية التأويل وأحادية التفسير التي يقول بها
الظاهرتيون. ولعل جدة الباحث تتجلى بشكل أساس في مساءلته للجهاز المفاهيمي
للتفكيكية محققا حوارا تأويليا مع مفاهيم مثل الإختلاف، والأثر، وعلم
الكتابة، مستفيدا من تكوينه الأكاديمي الرصين.
وهذا العبور التأويلي والمزاوجة بين الأصول ومستجدات العلوم الإنسانية سيجد
لدى الباحث هشام الدركاوي مجالا للتحقق من خلال تحليله لقصيدة الحمى
للمتنبي منطلقا من قراءة التمركز إلى تفكيكية اللاتمركز، وتفكيك قصيدة
‘الثور والحظيرة’ لأحمد مطر عبر مساءلة المعنى والدائرة الحجاجية، وهذا ما
جعل الكتاب يتسم بغناه المعرفي وطاقته البلاغية والجمالية التي جعلت من
النص مجالا للبحث والتقصي العلمي الدقيق