فرانز فانون في التفكير مابعد الحداثي: الكلمة والشيء
|
| |
حظيت الدراسات الكولونيالية ومابعد الكولونيالية في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحالي باهتمام متزايد في الحقول الفلسفية والدراسات الأدبية المقارنة. ويرجع سبب ذلك إلى عودة الطابع الالتزامي في الأدب وبروز نزعة مابعد حداثية ترمي إلى تجاوز المقاربات المحايثة التي تعتمد مفهوم النسق المغلق.
إن التركيز على الأبعاد الثقافية في هذه المقاربات يدل على محاولة حثيثة لتجاوز النزعة البنوية التي غلقت النص في أطر لغوية ذات انعكاس- ذاتي، كما يدل على إرادة لنسف إيديولوجيا شكلانية سافرة تتوارى خلف مبدإ يطلق عليه هربرت ماركوزه مصطلح تهدئة الكينونة؛ ويقصد بذلك أن كل نظرية تنحو إلى نفي الذات بالمفهوم الفلسفي مع التركيز على دور المنطق العلائقي وتعاليه ستجعل العالم ساكنا ومعدوما من الحركة والتطور والتحول.
تعددت المدارس التي وقّعت انتماءها إلى الدراسات الكولونيالية ومابعد الكولونيالية، كما تداخلت مع هذا الحقل النقدي عدة مناهج وعلوم، ويرجع ذلك إلى نزعة مابعد حداثية تكفر بالمرجعية الأحادية والمركزية النظرية والأرثوذوكسية العلمية. لهذا نجد كبار منظري هذا الاتجاه يغترفون من التحليل النفسي وفلسفة التاريخ والأنثروبولوجيا وتاريخ الأفكار والأدب والفلكلور.
عندما راح نقاد كبار في حقل الدراسات مابعد الكولونيالية من أمثال إدوارد سعيد وغياتري سبيفاك وهومي بابا وآنيا لومبا يشتغلون على نصوص أدبية أو تاريخية، انطلاقا من نظرة نقدية وتفكيكية، كان فرانز فانون يمثل لهم مرجعية ومرتكزا خطيرا في بلورة مفاهيم تقارب ظاهرة المقارنات من زاوية تفتت المركزية الغربية. فالرهان الكبير تجلى في محاولة التفكير في مقاربة تتجاوز مقولات الآخر وتبعث روحا جديدا في النقد يمثل المغيّب والمسكوت عنه والمحبوس والتابع.
لم يكن فرانز فانون الرائي بعيدا عن الحيثيات التي خلفتها تجارب مابعد الاستعمار بصفة عامة؛ على الرغم من أن الرجل سرقه الموت قبل أن يلحق باستقلال معظم البلدان المستعمرة (بما فيها الجزائر) إلا أنه كان يؤمن إيمانا جازما بأن الاستقلال لا يمثل سوى مرحلة واحدة في سيرورة التحرر؛ لأن التحدي الأكبر يكمن في كيفية الحفاظ على هذا الاستقلال وكيفية مجاراة الشكل الجديد للاستعمار الذي سيطلق عليه فيما بعد مصطلح الاستعمار الجديد (استعمار التبعية الثقافية والاقتصادية والاستغلال الرأسمالي لرسم ولتكريس جغرافية الجوع مكان جغرافية الاستعمار التقليدي).
لو عدنا إلى كتب فانون (خاصة كتاب ‘بشرة سوداء أقنعة بيضاء’ وكتاب ‘المعذبون في الأرض’) وإلى السياق الثقافي الذي كان سائدا في زمنه للاحظنا بأن البراديغم الغالب على تفكيره هو التحرر. لقد تأثر كثيرا ببعض وجهات نظر جون بول سارتر وأفكار إيمي سيزار (في البداية) والأنثروبولوجي السوريالي ميشيل ليريس والفيلسوف الظواهري ميرلوبونتي والمحلل النفساني لاكان.
لم يقرأ فانون هؤلاء مستثمرا مقولاتهم المعرفية ومواقفهم السياسية انطلاقا من عقدة الزنجي الذي يحاول أن يتبرجز على الطريقة الباريسية، بل راح يستعيد آراءهم كي يوجه نقدا لثلة من المفكرين الكولونياليين الذين حولوا المعرفة إلى أداة للسيطرة في السياق الاستعماري. ففي عالم التمثلات تصبح المعرفة قرينة للسلطة يتوجب على المثقف الملتزم بقضايا التحرر أن يفككها ويقاومها عن طريق فك الارتباط والتطابق المتوهم بين النظرية (الذات الاستعمارية) والموضوع المحدد مخبريا (الذات المستعمرة).
كرس فانون العديد من مقاطع كتاباته لنقد محلّية التحليل النفسي؛ إذ يرى بأن الذات في سياق الكولونيالية تعاني من تجاذب في الهوية وتبدد في الشخصية يصعب مقاربتها بأدوات طبقت وجربت في أوروبا أو في العالم الرأسمالي. لهذا فهو يدعو في العديد من المرات إلى خطورة الاسقاطات التي يقوم بها الكثير من اطباء الأمراض العقلية في البلدان المستعمرة دون التماس الفوارق الوجودية والاقتصادية والنفسانية.
يعد نقد فانون لمانوني بمثابة مثال ثان على أن الثقافة والنظرية في نظر صاحب كتاب ‘المعذبون في الأرض’ لا يمكن أن تتمفصل بمنأى عن مبدإ المقاومة، لهذا فهو يرفض رفضا قاطعا تلك الممارسات العلموية les applications scientistes المفضوحة التي زجت بالدارس الكولونيالي في إيديولوجيا عبثية وصل بها الأمر إلى مقارنة جماجم الأصلانيين مع جماجم الأوروبيين لتبرير الوجود الاستعماري تحت شعار الرسالة التحضيرية مرة وانعدام كفاءة الأصلاني مرة أخرى.
استعاد الدرس مابعد الكولونيالي، الذي نعده هنا عبارة عن استمرارية لسيرورة تصفية الاستعمار في كل مناحي الحياة، فانون كثيرا لأنه يشكل مرجعية حية في نقد وتبديد أساليب السيطرة والهيمنة الإمبريالية. ولم تكن هذه الاستعادة وهذا الاستثمار الفانوني بمنأى عن بعض التحريفات وبعض الاستعمالات التي يصعب نوعا ما أن يتقبلها النص الفانوني في الخطاب مابعد الكولونيالي.
إن تفطن فانون لانشطارية الذات في سيرورات التماهي داخل النسق الاستعماري شجع بعض المقاربات مابعد الحداثية ذات الأصول مابعد البنوية على تبئير هذه الجزئية دون الرجوع إلى التجربة الفانونية في كليتها. وهنا ستبدأ، حسب اعتقادنا، بداية تحريف هذا العمل الذي يضج بالطاقة والكمون.
لقد اختار هومي بابا في كتابه ‘موقع الثقافة’ منحى تفكيكيا في قراءته فانون من باب انشطارية الذات الكولونيالية. لهذا راح يستعين ببعض مفاهيم النزعة التفكيكية مثل (الإزاحة والترجمة والانشطار والتأجيل والهجنة) للولوج إلى عوالم فانون الواضحة في رأينا. جعلت هذه القراءة التفكيكية هومي بابا يذهب بعيدا في تأثيث العوالم الفانونية، ففانون بابا تجلى ككاتب يرفض السرود الكبرى ويكاد يكفر بالتاريخ والتجاوز والحركة. لقد أصبح فانون في قراءة بابا كائنا يرفض الثنائيات الميتافيزيقية ويؤمن بسيولة العالم وبهلامية مبدإ الأصل. كما أن الالتزام لم يصبح نتاج فكرة موجودة مسبقا بل أصبح مجرد فكرة بصدد التبلور. لقد حاول هومي بابا تحويل فكر فانون من السيرورة التاريخية إلى التصيّر الكينوني. بلغة أكثر واقعية لقد ألبس هومي بابا فانون قبعة ديريدا والتفكيكيين رغم كل العوائق المعرفية والممانعات النصية.
لا يمكن لأي باحث أن يسد الطريق أمام قراءة تروم الوصول إلى فتوحات جديدة كما يدعي هومي بابا، ولكن لا يمكن أن تخلق القراءة تناقضا داخل النسق أوتحمله فائضا من التأويل يقتل مبدإ الدائرة الهيرمينوطيقية. لهذا يلوم تيري إيغيلتون الكثير من الدارسين في حقل المقاربات مابعد الكولونيالية حينما يروجون لمبدإ التأزيمية النصية متناسين في ذلك أن النصوص وليدة الاستغلال الاقتصادي بكل مستوياته.
إن مسايرة هومي بابا في قراءته لفانون ستوصلنا إلى إفراغ فانون من مبدإ المقاومة. ويعد هذا الإفراغ الثوري بمثابة نسف جذري للمشروع الفانوني الذي حاول مليا ربط الممارسة بالنظرية. فحينما يقر فانون بتلاشي ثنائية المستعمِر والمستعمَر في سياق الانشطار الذي يخلقه السياق الاستعماري لا يعني هذا بتاتا نفي هذه الثنائية بقدر ما يعني محاولة تطويرها للوصول إلى جدلية هيغيلية ذات تركيب منطقي يؤمن بالمقولة التاريخية. لقد ذكر فانون في مقاطع كثيرة من كتبه بأن جدلية السيد والعبد التي فلسفها هيغل في كتابه ‘فينومينولوجيا الروح’ لا يمكن الاتكاء عليها في سياق كولونيالي لأن المستعمَر لا يمكنه الانعتاق من عقدة المستعمِر إلا حينما يكون التحرر جوانيا من طبيعة نفسانية.
لقد تناسى هومي بابا هذا الجانب وأوصل بنزعته التفكيكية فرانز فانون إلى منطق خال تماما من المقاومة لأن تفكيك ثنائية المستعمِر والمستعمَر سيجر البحث لامحالة إلى نفي ظاهرة الاستعمار من الأساس.
إن الدليل القوي الذي يجعلنا نعتقد بأن هومي بابا قام بتحريف فانون هو تركيزه المستميت على نص ‘بشرة سوداء أقنعة بيضاء’ دون الاهتمام بنص ثوري قوي مثل نص ‘الثورة الجزائرية في عامها الخامس′ أو نص ‘المعذبون في الأرض’. فالكتاب الأول نلمح فيه تأثرا كبيرا بنزعة وجودية وسوريالية مؤسلبة جعلت النص يبدو مخلخلا على طريقة فولكنر ودوسباسوس اللذين كتب عنهما كثيرا جون بول سارتر. فالكتابة المخلخلة تعد موقفا من العقلانية الغربية، لهذا يشبه هنا فانون كثيرا كاتب ياسين في نص ‘نجمة’. لقد دأب كتاب كثيرون جاؤوا من المستعمرات إلى الميتروبول على كتابة نصوص مفككة لتذكير الاستعمار باحتضار العقلانية الغربية وبأن الإنسانية يمكنها أن تفجر طاقات إبداعية وثقافية خارج الأطر التي رسمها الغرب.
لم يرد هومي بابا الالتفات إلى نص ‘معذبو الأرض’ لأنه يتجاوز هذه النظرة السوريالية إلى نظرة واقعية تعد نتاجا للعيش في عالم الحرب والثورة. إن اهتمام هومي بابا بتفكيك الثنائيات في مشروعه مابعد الكولونيالي جعله أقرب إلى كتاب فانون ‘بشرة سوداء’ لغلبة التحليل النفساني عليه. أما فيما يخص كتاب ‘معذبو الأرض’ فهو كتاب يؤمن بالحركة وبالمقولة التاريخية لهذا لم يكن مركزيا في دراسة صاحب كتاب ‘موقع الثقافة’.
نلاحظ هنا بأن قراءة هومي بابا لفانون تشبه كثيرا الخلط بين براديغمات من طبيعة مختلفة. فقراءة براديغم التحرر (فانون) ببراديغم العدم والسيولة (دريدا) سيحول الفانونية إلى مجرد لعبة لغوية حرة. سيفرغ هذا العمل من مغزاه وبعده الثوري ليحط به في عالم تأجيل العلامات ومرجعية الدوال الامنتناهية.
على العكس تماما من هومي بابا، حاول إدوارد سعيد في كتابه ‘الثقافة والإمبريالية’ قراءة فرانز فانون تحت فصل المقاومة الثقافية! ويعد هذا دليلا آخر على أن إفراغ الرجل من الدينامية التاريخية سيزج به في دهاليز التحريف. ففانون يعتقد بأن مشروع فانون لا بد أن يثمن لأن فيه مبدأ نفي الهوية الاستعمارية (الانشطار) الذي بفضله يمكن إعادة توزيع الأدوار التاريخية وكتابة فصل جديد يقوم على الندية وليس على الفوقية. اتبع إدوارد سعيد في هذا التحليل الكثير من الدارسين مابعد الكولونياليين من أمثال آنيا لومبا وغياتري سبيفاك وخاصة أصحاب مدرسة التابع في التاريخ الهندية التي استرجعت مفهوم الجماهير لتفجير التواريخ المنسية للفلاحين والريفيين والعبيد.
إن القراءة المنفتحة ستشجع لامحالة النص الفانوني على التبلور والتطور ولكن يبقى السياق ضامنا في كل مقاربة قد تحمل النص ما لا يطيق لتجعله في عنق الزجاجة