د.محسن الرملي
دابادا... العنوان الصعب
07/11/2011
|
غلاف دابادا في طبعة جديدة |
أثارت رواية (دابادا) لحسن مطلك ردود أفعال متباينة حال صدورها سنة 1988
وذلك لما اختلفت فيه عن السائد في جل عناصرها ابتداءً بغرابة العنوان، ومن
بين ذلك أن الروائي عبدالرحمن الربيعي قد وصفها، آنذاك، بالقول: "لقد جاءت
هذه الرواية صرخة وحيدة وسط كم من الأعمال الروائية العراقية التي اتفقت
على المنطق وتلاقت في الشكل والتقنية واللغة.. إنها رواية غريبة مثل اسمها
(دابادا)" .
فماذا تعني تسمية (دابادا)؟.. ولماذا هذا العنوان بالذات
دون غيره؟.. من أين أتت هذه الكلمة الغريبة؟.. لماذا اختارها المؤلف
عنواناً على الرغم من أن الرواية تزخر بالكلمات والعبارات المدهشة؟..
ويبقى هذا التساؤل يحوم مع غيره في مدار اعتراف الجميع واتفاقهم على أن
(دابادا) رواية مختلفة عن السائد التقليدي في الوضع الروائي العراقي
وموروثه في أشياء كثيرة، إن لم نقل في كل شيء تقريباً، ابتداءً من أول
كلمة فيها (دابادا) ألا وهي العنوان على الغلاف الأوّل وانتهاءً بما كتب
على غلافها الأخير من أنها: "صرخة في الفراغ".
فلا وجود لهذه الكلمة في معاجم اللغة العربية أو في أشعارها وأخبارها
المعروفة، اللهم إلا ما كان موغلا في القدم أو فيما هو خارج أيدينا، ولكن
المصدر الذي استقى الكاتب منه هذه الكلمة ـ على حد علمي ـ هو اللهجة
المحلية العراقية، وبالتحديد اللهجة الدارجة في مناطق (الشرقاط) وقراه
(سُديرات) مسقط رأس الكاتب، علماً بأنها كلمة آيلة إلى الاندثار، ولكنه
التقطها من حديث العجائز والشيوخ والذين أذكر منهم بشكل خاص المدعو (شيخ
العزاوي) الذي كان يستخدمها في أحاديثه بكثرة. أما معناها فهو أقرب ما
يكون إلى معنى تعبير (إلى آخره) أو (الخ)، أو تكرار كلمة (كذا وكذا) أو
(وهلم جرّا).. فهي تحاول وصف أشياء وأفعال متعددة في آن واحد. وهكذا فهمها
حسن مطلك أيضاً حيث يقول:" نعم، ولكنها لا تعني هذا وحسب في الرواية، وهي
تستخدم في المجتمع وربما يكون الاستخدام قريباً؛ فهي تأتي أيضاً عندما
يحاول شخص ما أن يصف حادثة ثم لا يستطيع أن يكمل لشدة ما بهرته الحادثة
ولشدة تأثره بها أو تأثيرها عليه، فيقول لك في النهاية: ودابادا.." .
إنها إذاً كلمة تُحَس أكثر مما يمكن شرح معناها أو تحديده بدقة قاموسية،
وهي بالطبع وليدة خبرة جماعية شعبية متوارثة عن عدة أجيال ومتفصدة عن
تجارب حوارية طويلة حتى استقرّت على هذا الشكل الذي استخدمه الناس
واختاروا لها هذا الموضع في حديثهم، وهي في نهاية الأمر تشبه في حياتها
وظروف ولادتها ولادة الحكايات الشعبية والأساطير والخرافات وشأنها شأن
كلمات شعبية أخرى كثيرة.
وضمن محاولاتي العديدة في تقصي معاني كلمة (دابادا) أذكر ما قالته لي
صديقة أسبانيّة من سكان الشمال الذين يتحدثون القطلانية، من أن ثمة كلمة
شعبية أيضاً يتداولها بعض الأهالي في قرى منطقتها وذلك عندما يبدأون
بتعليم الطفل كيفية المشي بخطواته الأولى، وتلفظ (دابادا) منغمة عندهم
بإيقاعية وليس لها دلالة لغوية، لذا فهي تشبه تماماً ما نقوله نحن في بعض
مناطق العراق للغرض نفسه (تاته.. تاته.. تواته) لتحفيز الطفل وتشجيعه على
الشروع بخطواته الأولى. وبالطبع لم تكن لحسن مطلك دراية بهذه المعلومة عند
اختياره لهذه الكلمة، إلا أنه لم يرفضها حين أخبرته بها معتبراً أن
بالاستطاعة إضافة معناها هذا أيضاً لوصف شخصية شاهين الذي هو في السابعة
والعشرين من عمره ومع هذا لم يغادر الطفولة تقريباً حيث تتعطّل لغته فيأخذ
بالصراخ بهذه الكلمة ليكون أشبه بالأطفال في أصواتهم وخطواتهم الأولى،
وشاهين يتصف بالحس الفطري البريء والمباشر مثلهم، ويضيف في لقاء معه:"
اكتشفت ـ وبعد أن استخدمتها ـ أن الدادئية قد استخدموا لفظة (دادا) عن
المفهوم نفسه تعبيراً عن التلقائية.. صحيح أنها لفظة لا تعني شيئاً ولكنها
تعبر عما هو تلقائي لأنها لفظة طفولية"3 وكان الدادائيون قد عثروا على هذه
الكلمة صدفة في قاموس لاروس. وقالوا أن كلمة (دادا) تعبر عن العلاقة
الأكثر بدائية بالواقع المحيط بنا. وسوية مع الدادائية ينشأ واقع جديد
وتتُقدّم الحياة كتشابك للأصوات والألوان والإيقاعات الروحية التي يتقبلها
الفن الدادائي من اليومي.. وفي الحقيقة أرادت الدادائية إلغاء الذاكرة
والمنطق ومن ثم الدعوة إلى نتاج قائم على العفوية التي وجدوها ضمانة
للحقيقة وأصالة للطرح. وإطلاقية المباشرة خير من يعبر عنها هو صوت الطفل
الرضيع الذي لا يعرف اللغة وقواعدها بعد ولا يملك أية فكرة عن وجود أي
جمال أو تدرج في القيم. وعقل الرضيع مازال طرياً وهو لا يشوه ردود الفعل
اللاشعورية للسرور والحزن4. وهذا الطرح الدادائي قد وظفه حسن مطلك بصورة
ملفتة من خلال طبيعة الشخصية الرئيسية شاهين والتي كان لها انعكاسها
الكبير على أسلوبه في اللغة والتقنية والرؤية.
كما ويبقى من غير المستبعد احتمال وجود هذه الكلمة أو شبيهة لها في لغات
أخرى وإن كانت البدائية منها، فهي وفي أول انطباع عنها توحي بالتشابه مع
كلمات قبائل الهنود والأفارقة أو حتى كلمات لغات الحضارات القديمة وخاصة
حضارات بلاد الرافدين التي كان الكاتب مولع بتقصيها ـ وهو أمر سيتجلى
لاحقاً بشكل أكبر في روايته (قوة الضحك في أُورا) ـ. نجد اسم (أدابا) وهو
ابن إيا، راهب في أريدو. والذي يعرف أيضاً باسم أوان (أو أنس). أول
الحكماء السبعة. عَرّف الإنسان على الفنون والمهارات الحضارية قبل
الطوفان5. ولكن سيبقى الأمر الأرجح هو أن حسن مطلك قد استقى هذه الكلمة من
عالمه القروي الشعبي مثلما استقى كلمات أخرى وعادات وتقاليد وأغان شعبية
وأجاد في توظيفها في الرواية، ثم أن المعنى الشعبي الذي بيناه لكلمة
(دابادا) هو أقرب ما يكون إلى ما أرادت الرواية قوله دون إنكار ما قام به
الكاتب من إعادة خلق لها وكأنه يبتكرها ابتكاراً، فقيامه بعرض كلمات كثيرة
وكبيرة في مدلولاتها وتقطيعها ليركب من جزئياتها أو حروفها كلمة لها علاقة
بكل تلك الكلمات ولها إيقاع صوتي يتناسب تماماً وما يراد منها لإطلاق صرخة
مقصودة، فهي تبدو لمتلقيها أو لمؤديها بأنها مطواعة وأنها التعبير المناسب
الذي يلائم صرخة قوية حبيسة في داخله ويرغب في إطلاقها صائتة أو بلا صوت…
أي ترديدها بشكل هامس لنفسه، أو أنها أشبه بصرخة يراودنا إطلاقها أحياناً
لنشعر بالتفريغ والراحة مع حرصنا على ألا يسمعنا أحد.. أمر نستعير لوصفه
عنوان مسرحية محي الدين زنكنة: "صراخ الصمت الأخرس".
فمن المزايا الصوتية لهذه الكلمة (دابادا) أنها خالية من وجود أي حرف من
حروف الحلق تلك التي تسبب التكلف في النطق وإنما ضمّت حرف الألف لثلاث
مرّات وهو حرف يتيح الامتداد العالي والتطويل للصوت، وتفريق هذا الحرف
بثلاثة حروف قاطعة هي الباء والدال مرتين، مما جعلها تأتي بمثابة عوارض أو
برهات زمنية قصيرة تحل محل الصدى أو تتيح المجال لانتظاره، تقطيعات متكررة
تذكرنا بصرخة طرزان المعروفة، مع أن صرخة طرزان هي حرف الألف مرّة واحدة
ممطوطاً ومقطعاً بضغط الحنجرة أو تواتر الزفير: آ…آ….آ.. بينما حمل
(دابادا) لهذا الحرف ثلاث مرّات يجعلها مضاعفة لتلك الصرخة. إن هذه الكلمة
من النوع الإيقاعي وتأثيرها ينم عن رغبة في شيء وفيها إمكانيّات صوتية
كبيرة واستعداد عال لقبول أي تلحين أو تنغيم إبطاء أو إسراع، رفع أو
تخفيض.. أو غيرها. يوخنا مرزا يقسمها إلى حركات حيث يقول بأن "لفظة
(دابادا) تتمفصل إلى ثلاث حركات تتكون صوتياً من صوت الدال والباء
الانفجاريين وصوت الألف اللين؛ ويولد هذا صرخة تبدأ بقوة (انفجارية)
وتنتهي بلين، واللين في الصوت لا يعني الضعف، وإنما يعني الاستمرار، فكما
هو معلوم فيزيائياً أن أصوات الانفجارات القوية تكون غير مسموعة وتحتاج
إلى صوت لين لتُسمع وتُفهم، وهذا هو حال هذه اللفظة" ويواصل مرزا التأويل
انطلاقاً من ذلك بحيث يشبه دابادا بإحدى سمفونيات بتهوفن "من حيث الإيقاع؛
فإيقاع بتهوفن في ارتفاع وانخفاض رهيبين دون أي عبء بالزمان، وهذه الرواية
أيضاً ذات إيقاع مرتفع ومنخفض في فراغ لا زمان له، والتي ستنسج بعد ذلك
لنفسها زماناً غير هذا الذي نتعامل معه.. تريد الرواية أن تقول أن الزمان
لم يعد زماناً ساعاتياً"6. وربما سيكشف لنا شخص مختص بالموسيقى والألحان
عن رأي آخر مثلما قد يفعل ذلك باحث بأصوات اللغة.
إن هذا العنوان للرواية (دابادا) يُحيلنا إلى إشكاليّة إذا ما حاولنا
قياسه بالمقاييس المتعارف عليها للعناوين، فلو نظرنا إليه من خلال القول
الشائع بهذا الخصوص، وهو: "أن الكتاب يُعرف من عنوانه" لوجدنا مغايرته
وتمرده على قواعد التطبيق، ذلك لأنه ليس بإمكان أحد أن يعرف أو حتى يتكهّن
بما يحتمل أن يحتويه هذا الكتاب لمجرّد أن يقرأ كلمة (دابادا) عنواناً له
وإن رافقتها كلمة التجنيس (رواية)، علماً بأن العنوان ينطبق تماماً ويعبّر
بدقة عن محتوى الكتاب الرواية. وهنا يكمن ما أشرنا إليه، أي عجزنا عن
تخمين ما في الكتاب مع أن عنوانه ينطبق عليه ويصفه تماماً؟! وبهذا سيشكل
العنوان أول خطوة في مسيرة الاستفزازات.. فحين يقع نظر القارئ للمرّة
الأولى على عنوان الرواية (دابادا) فانه سيوضع على الفور في امتحان مفاجئ
لمعرفته وثقافته التي يثق بها حتماً، وذلك لأنه لن يفهمه لأنه وببساطة لم
يقرأ أو يسمع بهذه الكلمة من قبل، ولا يعرف لها معنى على الإطلاق، وهكذا
سيكون أمام خيارين: إما أن يتركها مسلماً بعجز معلوماته أمام معرفة هذا
الشيء مقنعاً نفسه بأنه شيء صعب عليه أو لا يخصه، أو أنه واحد من أشياء
كثيرة راضٍ هو بعدم معرفته لها وإن تكن ذات شأن. أو قد يختار الأمر الآخر
وهو الاستجابة لعملية الاستفزاز والفضول ليبدأ على أثرها رحلة قراءة وبحث
شاقة ممتعة توازي منازلته، وهكذا فكأن المؤلف قد قصد هذا الهدف من وراء
اختياره لهذا العنوان كي يدلل على عدم قبوله قارئاً عادياً لا يستفزّه
التحدي في المعرفة والفن وإرضاء فضوله المعرفي الجمالي الواعي، وهو وفق
هذا كأنه يقوم باختبار القرّاء ليرشح، من بعد، الذين يهمه أن يقرؤون
روايته، مؤكداً بذلك أيضاً ما كان يردده حول احترامه للقارئ وعدم ممارسته
الأستاذيّة أو الوعظية عليه وإنما معاملته على أنه بمستوى الكاتب هذا إذا
لم يكن يفوقه بالوعي والثقافة، وحسن مطلك ينتقد بشدّة الكتّاب الذين لا
يزالون يمارسون دور الناصح الواعظ أو دور الذي يعرف كل شيء، بينما المتلقي
لا يعرف إلا ما يريد له الكاتب معرفته، وكم سمعته يسخر من أولئك الكتاب
الذين يتعاملون مع القرّاء بنظرة فوقية وتعالي!.
إذا توقفنا قليلاً عند الإشكالية التي أشرنا إليها والتي يخلقها العنوان
لاستطعنا القول: أن (دابادا) عنوان تقليدي وغير تقليدي في الوقت نفسه. إن
تذكّراً سريعاً وعاماً لعناوين روايات عالمية معروفة تطابقت مع محتوياتها
وعبّرت عن ذروة ما فيها أو لخصت ثيمتها بدقة مثال ذلك: "مائة عام من
العزلة" لماركيز فهي فعلاً تسرد قصة قرية معزولة لمائة عام وهكذا سائر
رواياته مثل "الحب في زمن الكوليرا"، "قصة موت معلن"، "ليس لدى الكولونيل
من يكاتبه"، "أرنديرا الطيبة وجدتها الشيطانة" و"خريف البطريرك" وكذلك
روايات همنغواي مثل "الشيخ والبحر" التي تصوّر الصراع بين شيخ صيّاد
والبحر. وروايته "وداع للسلاح" ورواية تولستوي "الحرب والسلام" و"الجريمة
والعقاب" لديستويفسكي و"البحث عن الزمن المفقود" لبروست ومن الروايات
العربية "البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا و"عرس الزين" للطيب
صالح و"النهايات" لعبد الرحمن منيف وغير هذه الروايات الكثير.
فدابادا هي أيضاً تعني "دابادا" بدقة وفعلاً لأن الكاتب يستمد هذه الكلمة
من فحوى الرواية.. بل من صميم ذروتها عندما يفقد البطل السيطرة المنطقيّة
على اللغة فيشرع بما يشبه الهذيان المتدفق لسيل من الكلمات التي يجمع من
بعض حروفها هذه الكلمة ليصرخ بها ويكررها في محاولة منه لقول كل شيء دفقة
واحدة. وكأن الصراخ بهذه الكلمة وحدها كفيل بالتعبير عن الصراخ بآلاف
الأشياء والكلمات في آن واحد، مع أن الكلمة لا تعني شيئاً وفي هذا وصول
إلى تطابق هذا العنوان مع الفكرة الفلسفية للرواية التي تصف الحياة..
ومحاولة للإحاطة بكل شيء مع إحساسها الصادق بأن لا معنى لكل هذه الأشياء..
لا معنى لشيء… فدابادا بالضبط وكما أراد لها المؤلف أن تكون أو كما كان
يجيب حين يسأل عنها "أنها تعني كل شيء وأنها لا تعني شيئاً".
أما عن كونه عنواناً غير تقليدياً فذلك لأنه كلمة غريبة ومنحوتة لا وجود
لها في معرفة المتلقي، إضافة إلى أنها لا تعبّر عن اسم علم أو شخصية داخل
الرواية فتحمله عنواناً لها كما فعلت روايات كثيرة مثل: (زوربا)،
(يوليسيس)، (السيدة دالاواي)، (الزيني بركات)، (الأخوة كرومازوف)، (يهوذا
الأسخريوطي)، (سد هارتا)، (جلال خالد)، (زينب)، (لوليتا) وغيرها.
أو أنها لم تعبّر عن اسم لمكان تاريخي أو جغرافي موجود كأن يكون مدينة أو
قرية أو حارة أو هضبة أو جبل كما هو معروف في روايات عديدة مثل:
(بندرشاه)، (حارة الزعفراني)، (خان الخليلي)، (برج بابل)، (مرتفعات
وذرنخ)، وغيرها، ولم تكن عنواناً تشويقياً مغرياً يحمل تضاداً ظاهرياً أو
انزياحاً يثير الفضول كما في روايات: (ذكريات من بيت الموتى)، (صباح الخير
يا منتصف الليل)، (الساعة 25)، (عناقيد الغضب).. وغيرها.
وهكذا تتضح غاية حسن مطلك في اختياره للعنوان، أنه يبحث عن عنوان يتناسب
أو يعبر عن خصوصية وشمولية في آن واحد، وأن وضع هذا العنوان الصعب للرواية
لا يشكّل امتحاناً واختباراً للقرّاء فحسب وإنما هو ذو حدّين في ذلك لأنه
يقوم باختبار القرّاء واختبار المؤلف على حد سواء، فالقرّاء هل سيقرؤون أم
لا ؟.. والمؤلف هل سيقرأه أحد أم لا؟… والاختبار الثاني هو الأصعب لأن
القرّاء لن يضرهم إذا ما فاتتهم قراءة رواية ما، أو إذا استسلموا
لصعوبتها، وتجنبوها ولكن عدم قراءتها يخلق صعوبة على الكاتب، فهو إذاً قد
غامر باختياره لهذا العنوان وخاصة أن هذه الرواية هي عمله المطبوع الأول
في كتاب، وأنه لا زال شاباً وفقيراً دفع ثمن نشرها من ديون اقترضها
بالدراهم، بينما المرجح أن يقوم الكتّاب في بداية حياتهم بتأسيس قاعدة من
القرّاء والجمهور لهم، ثم بعد ذلك يستطيعون طرح الأفكار أو الأعمال الأكثر
عسراً وصعوبة، ولكن قيام حسن مطلك بهذا التحدي ما هو إلا دليل آخر على
إيمانه بالعمل الجاد ومن ثم إيمانه بصدق عمله وثقته العالية به، وتفضيله
لطرح عمل بهذا الشكل والمضمون مرفقاً بقلّة المعجبين، على عمل رخيص يفتقر
إلى الأصالة وخاضع لوسائل الدعاية التجارية وعناوين الإعلانات، وبالفعل
فقد كان لظهور هذه الرواية فعل الصدمة حيث نفر منها البعض بينما استقبلها
البعض الآخر باحتفائية فاقت التوقع، ومرور الوقت زاد من المحتفين
والمهتمين بها مما يجعل كفة رأي الكاتب ترجح بالتدريج لتؤيد الأعمال
الجديّة والحقيقية ولتؤكد بديهة: البقاء للأصلح.. إذاً فهو ـ كعادته ـ لم
يساوم على حساب قناعاته بضرورة المواجهة والصبر أمام المغريات فرفض وضع
عنواناً طنّاناً أو دعائياً يستثير القارئ العادي. مع أنه قد سبق وأن وضع
لها قبل هذا العنوان عناوين أخرى أكثر جاذبية ومعبرة مثلما أنها من داخل
الرواية وهي: (توابع الناس قبل القيامة) عنوان شطبه بعد الانتهاء من
كتابتها للمرّة الأولى ووضع غيره: (أعراس الكرة الأرضية)، الذي أعاد تحته
كتابتها مرّتين، علماً أنه قد أعاد كتابتها خمس مرّات، أي أن حصة العنوان
(دابادا) كانت على المسودتين الأخيرتين، وقد ترددت عبارة (..قبل القيامة)
على مدى الرواية وفي الصفحات: 52، 64، 134، 150،166، بينما كان ذكر (أعراس
الكرة الأرضية) الضعف تقريباً حيث تردد في الصفحات: 24، 29،58، 85، 101،
126، 200 و 219. إن نظرة متأملة لهذين العنوانين (أعراس الكرة الأرضية)
و(توابع الناس قبل القيامة) تكشف لنا عن سعي الكاتب لوضع عنوان كوني أو
شمولي كبير، فـ(القيامة) هي حدث مهول كما صورته لنا الديانات
والميثولوجيا، وما قبلها يعني الحياة كلها بناسها وحتى بتوابعهم التي تعني
تفاصيل الحياة الملحقة أو المرفقة بوجود الإنسان تصاحبه في فترة إقامته
على الأرض قبل القيامة. و(الأعراس) فهي أيضاً تقصد احتشاد الناس وتجمعاتهم
الصاخبة الضاجة المشتركة والتفصيلية، وإضافة (الكرة الأرضية) تضفي عليها
الصفة الكونية وتضخيمها وهذا الفعل.. أي البحث عن عنوان كبير إنما يدلنا
بوضوح إلى أن الكاتب كان مدركاً تماماً أو راغباً في إعطاء روايته صفة
الشمولية والتفصيلية والتشبه بكلية الحياة، ولكي يكون بذلك، أيضاً، أكثر
اقتراباً إلى منهج كان يفكّر بالدعوة إليه وهو (الواقعية المطلقة).
وفي الصفحة26 نعثر على عبارة نتحسس فيها مطاردته للكلمة أو اللفظ الذي
يعبّر به عن (كل الحياة) ليُتوجه عنواناً وإن كان القصد الأخير منه وصف
كلمة (دابادا) التي استقر عليها رأيه في النهاية: "في كل مرّة يحاول
الإمساك بلفظة تختصر الحياة، كلمة يقولها فلا يبقى سرّ بعد ذلك ولكنها
تقفز إلى مكان آخر كلما حاول جمعها".. فكيف جمعها إذاً؟. هذا ما سنحاول
تتبعه عملياً عبر جولة خاصة للبحث عنه في النص، فمع أن الرواية بأكملها
ومنذ السطر الأول بل وحتى ما هو مفترض قبل الرواية من أحداث وموروث
للشخصيات كان يعد للانفجار بالصرخة (دابادا) إلا أن البداية الفعلية
المدونة تبدأ من الصفحة 152 عندما يهيئ المختار بيته لحبس شاهين فيه وذلك
بإيصاد كل منافذ النور ليصبح مظلماً تماماً: وهكذا اعتقل شاهين وتم أخذه
بالقوة إلى بيت المختار "قال الصوت: هاتوه الآن. فأدخلوه إلى عتمة الممر،
ظلت هاجر تحك رأسها بعصبية وتؤجل قرار لبس الحداد مجدداً دون أن تعرف ماذا
يتوجب عليها فعله بالضبط" ص152ـ153، وهكذا يكشف لنا قلق هاجر وخوفها على
ولدها وترددها في تنفيذ أو تأجيل قرار لبس الحداد الذي سبق وأن خلعته
عندما خرج من عزلته، مدى خطورة الوضع الذي سيق إليه شاهين والذي يقترن
عندها بذكرى اختفاء زوجها الصياد.
ثم يتواصل السرد شاملاً مشاهد متعددة وانتقالات إلى أحداث وأشخاص آخرين مع
حوارات مقتضبة منها ما هو ساخر يدور بين شاهين من طرف وحلاب من طرف آخر.
إلى أن نصل إلى ص160 حيث تبدأ أزمة شاهين الداخلية تتفاعل بحدة مع الغلبة
الخارجية، أما قبل وصولها وعلى مدى صفحات تتكرر علينا العبارة التالية
"ادفعوا عني هذا السواد لأرى" ص157 "وصاح شاهين ادفعوا عني هذا السواد
لأرى. فلم يجبه أحد غير احتكاك الخفين بالأرض وسؤال بسيط: 1+1 كم يساوي؟..
ويصرخ لن أجيب حتى أرى.. هه وتنطلق الصرخة الفحيحة الرفيعة تهز أعمدة
العتمة، أما الخفان فيثيرانه باحتكاكهما في قاعة أو فضاء لا أدري؟"
ص157-158
نلاحظ هنا ما يمارس على شاهين الحساس من استفزازات ساخرة وأصوات ترهبه في
الظلمة التي يضيق بها جداً ويتصاعد هذا الضيق عبر تكرر العبارة السابقة
بعد عدة مشاهد "ويصيح شاهين: ادفعوا عني هذا السواد لأرى فلم يجبه أحد غير
احتكاك الخفين، ثم سؤال بسيط: مريم ابنة عمران.. ما اسم والدها؟ فيقول لن
أجيب حتى أرى هه". ويتواصل بعد هذه النقطة التصاعد حاداً أمام شاهين الذي
يضيق ذرعاً بالظلمة ويطالب بالرؤية دون أن يستجيب له أحد ونقتطف فيما يلي
الاقتباس الذي وإن يكن طويلاً إلا أنه يبرز لنا جوهر السطور التي كانت
بمثابة الطلق والمخاض لولادة هذه الكلمة (دابادا) وفيها تبدو الدقة الصعبة
والحبك الرصين في تناول هذه المرحلة الحرجة للرواية: "يتوقف الصوت فجأةً.
وتتوقف الأسئلة أو تضمحل تقريباً، يمد ذراعيه فلا يصلان، ليس ثمة حائط أو
عمود أو خزانة أو جسد أو بقرة، لا شيء تقريباً ظلمة، سواد، هوّة خانقة،
لذا فكر أن تجربة اليومين الماضيين…أية تجربة؟ فكر بأنه ميت. أين الباب؟
هل من سقف لهذا السواد؟ أسئلة ضائعة. يسأل من؟ ومن يجيب؟ كان الصوت يضمحل
ـ انتهاء الشاي يضمحل ـ جفاف الغدران يضمحل ـ العمر…أين عظام البشر؟".
لاحظ بتأن رموز المعاني "هل من سقف لهذا السواد"، "الوجود"، "أسئلة
ضائعة"، وكذلك محاولة اصطياد التواقت بين الأحداث والصور حيث الصوت يضمحل
في الظلمة وصوت انتهاء الشاي يضمحل في الخارج والغدارن تضمحل في ذاكرته
أيضاً لكنه يقفز إلى السؤال الموحي الكبير وهو: أين عظام البشر؟… راقب
اختلاط المعاني والأسئلة، وانثيال اللغة الممتزج بطعم الظلمة.. تداخل
المدلولات، شظايا تفجر لغوي، تفكيكها ومن ثم تركيب الكلمة الجامعة: "يقول:
هذا الظلام ويرى الظلام، الظلام انطفاء الضحك، وعد بلا إشارة ـ مجرد دعابة
جافة تؤدي إلى ثقوب مغلقة حيث مستنقع البرد والسكون. تأتي جميع الصور
والذكريات والأحلام والمخاوف والمشاعر والأفكار في لحظة واحدة، واحدة
وتذهب اللغة فيعتقد بأنه ميت ولذلك يصرخ هذه الصرخات لكي يسمع نفسه،
ويتأكد بأنه ينطق ويسمع. فيقول: هذا الظلام الحق المخيف الجارح الآسر
المفردات ـ تجاوزها… الصعوبة كانت القوة مرحلة المرض في المفردة الصغيرة
يمكن ذلك، عضو من الأعضاء يمكن الاستغناء عنها كالقلب المكروه كما هو مؤلم
جدير بالقذف ـ ستبقى دائماً على السطح دائماً دائماً…دا… إلا إذا كانت
الخوارق شئ كثيف هابط ممتزج بوجوه الثعالب والأصدقاء ويبقى السر لحظة
أخيرة من النزع حركة سكين الذبح في باب المذبح، باب بابا ـ با… لأجل الألم
يقترن بانغراس الأصابع في فروة الشعر لكنها تنشر ولا تخفف لأنها مباحة
دائماً دائماً - دا … قلـ … وبـ … عسى … لا…لو…فردا..دا..با..دا تحيات
العمق…دافـ ….دابادا…دابادا".(ص160-161).
واكتملت الكلمة إلا أن الحالة المتفردة مازالت مستمرة عبر تداخل الذكريات
والتجارب والحكمة والأحاسيس والمخاوف السرية في دخيلة ثنايا هذه الشخصية..
أتى كل شئ دفعة واحدة في لحظة واحدة لينتج ما يعبر عنه بكلمة واحدة
(دابادا) ولا ينقطع هذا المناخ والهذيان المحموم فينسكب بأشكال أخرى ليصل
إلى النتيجة ذاتها والوليد نفسه؛ حيث تعاود كلمة (دابادا) تشكلها من
مفردات ومعاني أخرى فهي ساعية إلى احتواء كل المعاني مهما تباينت: "تأتي
صور أخرى. صرخة بلا حبور. وتذهب خيوط اللغة: هذا القيد شكل الرداء حالة
البشر ـ الدمعة اكتشاف حديث. وما هو الرداء ضد الرداء.. ادفعوا هذا السواد
ضد الجمال نفسه والموت تحول الوجه إلى رداء …رداء…داء…دا…
ليس ثمة بقعة لممارسة العري العري والتجرد من اللغة القيد خير دليل على
مجيء الغد هو البراءة قطرة عذرية الرجل قي ذهن رجل آخر صورة جميلة من صور
التفاني اليائس ـ احتضن البشر تحت الشجرة… البشر… البشر..البـ..با…سيلان
الممكن في الجامد كالحديث الجارح عن الرمل والهواء والنميمة عن الجبل رفض
الفكرة لأجل الآخر الآخرين – الآخر.. صرخة هي اسكات من ع حتى أقاصي ك
دائرة.. دائرة..داء..دا…دابادا…دابادا".ص161.
وكأن هذه الكلمة تنطوي على مزيج كل المدلولات.. فكل معادلة لغوية نتيجتها
هذه الكلمة.. حفلة من كلمات ترقص في جملتين حيث تشترك الكلمة الواحدة
مرتان في جملتين لتعطي معنيين وكم مركب؛ مثل كلمات: (العري، اللغة، القيد،
الغد، الرجل) فكلمة القيد تأتي في نهاية الجملة التالية: (والتجرد من
اللغة القيد) وفي بداية الجملة التالية (القيد خير دليل على مجيء الغد)
وكلمة الغد التي أتت في نهاية الجملة السابقة تأتي في بداية الجملة
التالية: (الغد هو البراءة) والبراءة تشترك في جملتين لاحقتين إحداهما هي:
(البراءة قطرة عذرية الرجل) وهكذا بقية الكلمات التي يبرهن تنوع استخدامها
على مقدرة اللغة اللامحدودة عبر ترابط عجيب ومحكم يضع المعاني والموسيقى
والحروف والسحر في جملة واحدة يتم تركيبها بمهارة لتلد لنا كائناً جديداً
مستقلاً هو كلمة (دابادا).
ولا يتوقف الأمر عند هذا النحت اللغوي وإنما يتصاعد السرد ليطلعنا المؤلف
على قفا المحاولة وربما مواقع استخدامها كرد فعل تصفها بشكل آخر: "ولكنه
نادراً ما يصل إلى الإغماء. يمد ذراعيه فلا تصلان. إذ ليس ثمة حائط أو
خزانة أو عمود أو زفير.. ويصرخ صرخة بلا حبور ولا صوت: دابادا".. وكأن
الوصف قد جاء دائرياً ليربط النهاية بالبداية، ثم يطالعنا بعد ذلك رد فعل
حلاب الذي يبدو لنا أكثر قرباً إلى تصوير حالة باراسايكولوجية؛ ففي الوقت
الذي يصرخ به شاهين صرخته الحزينة التي لاصوت لها وسط ظلام دامس نجد حلاب
يتأثر بشدة ويلجأ للاستعانة بأسلافه وما يؤمن به من قواهم الغيبية: "يصرخ
شاهين صرخة بلا حبور ولا صوت: دابادا، بينما يضمحل حلاب في موسم الفيضان،
أطراف صدى متكسر في أذنيه. يقطع تنفسه لكي ينزلق من خيط رسمته التي فتحت
عينيه بسكين البصل المحمى ويقول: جدتي ساعديني حتى أقهر شاهين".. فكم هي
قوية هذه الصرخة الخرساء إذاً.. تلك التي تحوّل الاضمحلال من طرف شاهين
إلى الطرف المعادي؟.. فأين تكمن قوتها وهي بلا صوت وبلا حبور؟.. كأنها
فاعلية السحر وقوة روحية أجادت التسلح باللغة المقدسة.. تلك التي وظفتها
الكتب المقدسة والأنبياء والدراويش والسحرة والشعراء.. قوة لها امتدادات
متجذرة في تلافيف الذاكرة البشرية وربما تكون مبثوثة في أثير الكون لا
نراها نحن البشر العاديين.. وقد تكون لها أرواح أيضاً مادامت تواصل
مقدرتها على الفعل… ترى هل سينفعنا التذكير هنا بأن حسن مطلك كان كثير
الإطلاع على كتب السحر القديمة وخاصة ما يعتمد منها على ترتيب سري للحروف
والآيات القرآنية وأسماء الشياطين..؟.
"ويبقى شاهين وحيداً لا يدري، مستديراً، مخروطياً.. أشكال أخرى يصيرها
كالعجين والغرين، ومن بعيد جداً صعدت سيارة عبر التواء الأراضي فقرأ على
هدي أضواءها لافتة في الممر: "(أعقد رأس الخيط حتى لا تفوتك غرزة). صرخت
الحريم: إلى متى سنظل في الظلمة؟"ص163.
تذكرنا هذه الصور والدوائر والمجسمات التي تبعثها الظلمة في العيون
باللعبة التي كنا نمارسها في طفولتنا: نغمض عيوننا ونفركها بقوة لتتراءى
لنا في ظلامها أشكال عجيبة من المربعات والدوائر والخطوط والأقنعة
والأشباح، ولكنه هنا ينتقل من ظلمة ليربطها بظلمة أخرى أو يشرك الظلمتين
الداخلية والخارجية، الذاتية والموضوعية. ظلمة تستغيث منها النساء.. وكأنه
يستحث الجميع مبتدءاً بالنساء المظلومات (الحريم) واضعاً أقدامهم على
الأولى وهي التساؤل، إلى أن يؤدي ذلك بهم إلى ما أدى به وهو الصراخ بتلك
الكلمة الرمز: دابادا.. دابادا.. التي تأخذ معاني متعددة ومنها المطالبة
بالنور.. بالحرية، وخاصة إذا أدركنا بأن هذا الصراخ هو صوت زوجات حلاب
اللاتي شملتهن الظلمة التي فرضها على شاهين، وهذه إشارة إلى أن نساء حلاب
هن أقرب الناس إلى قيوده وأول من يقع عليهن الظلم، وإشارة أيضاً إلى عزلة
حلاب وتجرده نفسياً حتى من زوجاته حين لا يفرق بينهن وبين شخص يعتقد بأنه
يضمر له الشر والعداوة، ثم ان وصفهن بـ(الحريم) يوحي بعبوديتهن وامتهانهن
حيث تطلق هذه اللفظة على المرأة من أجل تحجيمها واعتبارها مُلكاً، بل
ملكاً سلبياً فهي عيب وعورة، وتذكرنا اللفظة بالجواري والحريم في قصور
الشرق القديم ـ وربما الحالي أيضاً بشكل آخر ـ. وهذه حلقة تقودنا إلى
حلقات أخرى مترابطة كما هو الترابط العام والنسيج الدقيق لعموم الرواية.
ولكي لا يجرنا تواصل التأمل والتأويل إلى الابتعاد عن قصدنا في التقصي عن
مواضع دابادا وأوكارها في الرواية، نعود إلى النص، حيث تُطالعنا هذه
الكلمة بعد ما يقارب العشر صفحات، حين يدون الكاتب شيئاً شبيهاً بالوصف أو
التعريف لها:" واتته الفرص كثيرة لاعلان نتائج التجربة غير انه كان يخاف
سلامة النطق، فيضيع بعض الحروف، ثم الكلمات جميعاً، ثم الصدى باستثناء
صرخة يتقنها، لا تعني شيئاً أو أحداً. صرخة بلا حبور ولا صوت، صادرة عن
أسفل القصبة الهوائية، عن أسفل الشعور المرير بغلبة فيضانات الهند من خلال
نشرة الأخبار، عن أسفل الأسماء والأفعال والصفات وروائح الآخرين. أسفل أي
شئ آخر. ولكنها محض صرخة في الفراغ: دا.. با..دا.."ص170-171.
يتجلى في هذا المقطع نوعاً من الكشف عن جذور هذه الصرخة النابعة من مزيج
خرافي، شعبي، اجتماعي، وعي ثقافي، فيسيولوجي (أسفل القصبة الهوائية)، نفسي
(خاف سلامة النطق)، لغوي فلسفي (لا تعني شيئاً أو أحداً)، عضوي وشعوري
إنساني مدرك وحاد حيث تعاطف البطل الشديد مع إخوانه البشر في بقاع بعيدة
كالهند وأفريقيا ومشاكل أخرى تتعلق بنشرات الأخبار. إن الأسفل الذي تصدر
منه هذه الكلمة لا يقتصر على (أسفل القصبة الهوائية) وإنما يتعداه إلى
العمق والجذور الحقيقية أو قد يعني أسوأ ما في الشيء، ولكنه ينبهنا إلى
عدم جدوى هذه الصرخة لأنها لن تؤدي إلى ما يتمنى أن تؤديه للمساهمة في حل
المشاكل السالفة الذكر فيقطعها "ولكنها محض صرخة في الفراغ: دا.. با.. دا"
ومع هذا فهي صرخة تاريخية أيضاً، صرخة استنجاد، صرخة تشبه صرخة اللبوة
الجريحة في منحوتات الآثار "وهو يسمع نجدتها القادمة من أقصى العصور حتى
ساعة القيامة، صرخة صادرة عن أسفل القصبة الهوائية. وكان قد ضرب المقود
بحركة تنم عن خسارة وظل جالساً لبرهة يحدق بوضع مائل إلى الظلام في
الظلام"ص134. فهو يسمع صوتاً عندما ينظر إلى صورة اللبوة الجريحة، صرخة
قديمة جداً ومتواصلة حتى قيام الساعة، وتبرق له ذكرى والده وهو يضرب
المقود بحركة تنم عن خسارة، وهي حركة من ماض قريب وجزء من تركيبته الشخصية.
يعود الكاتب إلى ذكر هذه الكلمة العنوان (دابادا) بعد ثلاثين صفحة تقريباً
حيث يتبدل مكان شاهين دون أن يتبدل مفهوم الكلمة وإنما يتسع قرب النهر
والجبل والحقول والحشرات، في الطبيعة الحرة هناك " تمدد فوق الكرة الأرضية
شاعراً بزيت الأجنحة، بالغطس حتى أحجار القاع، لجة النهر الفيضان، اللبوة
الجريحة، الباذنجان على الجريدة حيث الموضوع المكتوب عن مجاعة السود،
الطيور الأصوات الطيور الأصوات الطيور الأصوات بهديل الدائم الداء الدا..
دا.. با..دا"ص200-206. هذا شاهين كما عرفنا همومه بجزئياتها الصغيرة.. هم
وجودي، كوني عميق الصلة بالعالم، بالحياة، فحين يتمدد.. يتمدد على الكرة
الأرضية، وإن بدا أنه ينشد الراحة إلا أن راحته ضاجة برهافة إحساسه الذي
يشعره بحصى قاع النهر ولجة مائه ويضيف إلى همومه الأخرى كفيضانات الهند هم
أكبر وألم تاريخي ثقيل ترمز له اللبوة الجريحة التي رسمتها آلام الحضارات
في وادي الرافدين، وكذلك فهو لا يستطيع طرد صورة الباذنجان على الجريدة
فوق موضوع يتحدث عن مجاعة السود في أفريقيا، سواد على سواد، فيهرع إلى
طبيعته النقية، إلى التعبير مثل الطيور الأصوات الطيور الأصوات أو صوت
زقزقته فهو تلك الكلمة الكبيرة.. الصرخة وليدة كلمات أخرى ككلمة (دائماً)
وكلمة (داء) و(بابا) ولكن صوته يضيع "ويضيع صوته يضيع لأنه لم يجرب لذة
أفضل من الماء ذلك أن هاجر ولدته في قيظ جهنمي، الناقص ابن سبعة شهور كحلم
قرب الثدي الطبيعي. يتذوق برودة الحليب ويركز في شفتيها اللتين علمتاه
اللفظة الجامعة: دابادا "ص201. وهنا تفلت الإشارة الخاطفة التي تصرح بأن
مصدر هذه اللفظة الجامعة في الحقيقة هو شفتي هاجر أمه (مصدرها الشعبي) حيث
كان يراقب شفتيها منذ كان رضيعاً وبهذا أيضاً يربط الكاتب الكلمة ربطاً
بالتراث ليعلن عن توارثه المخلص لهذه الكلمة/الصرخة وكأنها وصية يتوارثها
الأبناء عن آبائهم.. يتلقون هذه الوصية الأليمة الخرساء الجامعة لتاريخ
وحاضر الأحزان وللأحلام الجامحة نحو الوثوب إلى التحرر والمشاركة أو
الاحتجاج.. إنهم يتلقونها من شفاه أمهاتهم مع الحليب الذي يرضعونه، إنها
كالأمانة، كالأرض، كالدين، كالهوية، كالحياة.. إنها تحمل كل شيء ولا تحمل
شيئاً.. إنها صرخة ضائعة لا تضيع.. إنها.. دابادا.
كلمة فيما وراء اللغة.. كيف؟ لقد أشار حسن مطلك في حوار معه إلى أن كلمة
دابادا تشبه لحظة الصمت في السمفونية التاسعة لبيتهوفن، وكان بتهوفن قد
ترك برهة أو لحظة صامتة في سمفونيته بعد أن ارتفع بموسيقاه إلى ذروتها..
إلى لحظة قال بأنه قد عجز عن التعبير عنها حتى بالموسيقى فسميت بلحظة وراء
الموسيقى. وفي دابادا كان الروائي يتمنى أن يقدم شخصيته أو أن يكتب رواية
بلا لغة ولكن هذا غير ممكن فمزج بين حس شاهين واللغة التي دفع بها وارتفع
إلى أقصاها (لا بد أن أصنع كلمات) ولكنها أشياء تفوق طاقة البطل، أشياء لم
يستطع التعبير عنها بمنطقية اللغة المعهودة فجذب كل الكلمات في لحظة واحدة
فأتى منها ما أتى كالمغناطيس ليجمعها في كتلة.. في كلمة واحدة/صرخة "ففي
كل مرة يحاول الإمساك بلفظة تختصر الحياة، كلمة يقولها فلا يبقى سر بعد
ذلك"ص26. كلمة ذروة تقابل لحظة الصمت في سمفونية بتهوفن الأخيرة وهكذا حقت
التسمية على (دابادا) بأنها كلمة فيما وراء اللغة.
إنها عنوان جاف، غريب ومحايد، وجديدة بالنسبة للقراء، تشبه اسماً جديداً
مخترعاً لاختراع جديد. فحسن مطلك عندما نحت هذا العمل الروائي وخلقه راح
يفكر بما يفعل المخترعون حين يبتكرون أجهزة جديدة فينقبون لها عن اسم خاص
وجديد قبل أن يضيفوها إلى موجودات العالم. فهذا الكائن الفني البديع
(دابادا) هو أيضاً وليد جديد تماماً ويحتاج إلى اسم خاص به، متفرداً به عن
بقية الموجودات الأخرى في عالمنا ويتميز به عن أقرانه القريبين إليه
بالشبه والجنس. ولكي تحافظ هذه الرواية على شخصيتها حتى وإن أصبحت قاعدة
جديدة لانطلاقة ما، كما كان لغيرها من ملاحم إبداعية إنسانية كبيرة أخرى
كالإلياذة والأوديسة وكلكامش، أو أشبه بالروايات التي أضافت درجة في سلم
رقي هذا الفن العظيم كروايات بلزات وفلوبير وفرجينيا وولف وبروست وجويس
ودستوفسكي وماركيز وساراماغو وغيرهم. وكلنا يدرك مدى الأهمية التي يشكلها
ما تضيف هذه الدرجة في سلم نمو الرواية العربية والعراقية منها على وجه
الخصوص.
وعن العنوان أيضاً قال الناقد الدكتور عبدالله إبراهيم:" كلمة جديدة لا
معنى لها (دابادا) التي تشكل حروفها أوائل الحروف في كلمات كبيرة ذات
دلالة خاصة.. إن الوعي يتكون خلل اللغة، وإن العالم يتكون بوساطتها فلا
سبيل إلى الخداع. إذاً فأية محاولة للاقتراب إلى العالم خارج اللغة أو
بعيداً عنها ما هي إلا مغالطة لا تحيل إلا إلى الوهم الذي أرساه العقل
والمنطق ليكون واضحاً في الافتراض على الأشياء المرئية والبرهنة عليها،
هذا ما اعتمدته الرواية التقليدية. دابادا لا تنهض على هذه المسلمة
المنطقية التي أرستها الفلسفات والمعارف والعلوم بل تعمد إلى تقويضها فهي
تجعل من العالم خطاباً لغوياً سائلاً غير متناه"7.
أما وصف حسن مطلك لدابادا بأنها: صرخة في الفراغ، فإن تعريفه هنا لها
يحتمل أكثر من تأويل واحد مثل كل ما هو موجود في هذه الرواية التي تتعدد
وتتشعب فيها المعاني والمقاصد لأبسط شيء فيها، بغض النظر عن المعنى
الموضوعي المتمخض عن التسلسل السردي المتمثل في وضع هذه الصرخة في مرتبة
أو مكان تكون فيه صرخة الشخصية الرئيسية (شاهين).. صرخة في الفراغ وصرخة
لا معنى لها، فإن تكرار وضع هذا التعريف على غلاف الرواية الأخير منفصلاً
ومجتزأً عن موضعه في تطور الأحداث يجعلنا نجهد في إيجاد تفسيرات أخرى
ومنها أن الكاتب قد أطلق صرخته، فأما عن كون هذه الصرخة في الفراغ فهذا قد
يعني أنه لا ينتظر صداها أو رد فعل بعينه، وإنما اكتفى بإطلاقها ليستريح
وتنتهي مهمته عند ذلك.. أما المعنى المحتمل الآخر فإن إطلاق الصرخة
(دابادا) في الفراغ ما هو إلا رغبة تحريك هذا الفراغ أو ملئه. ولكن ما هو
هذا الفراغ؟ هل هو أمر يتعلق بالميدان الثقافي الأدبي؟ أم هو أمر يتعلق
بالمسألة الوجودية عموماً؟. والمعنى الآخر قد يكون في أن إطلاق هذه الصرخة
في الفراغ ما هو إلا تحسس لاحتمال وجود أحد فيه، فإذا رد أحد عليها إنما
يعلن بذلك عن وجود أحد في هذا الفراغ. أما إذا لم يجب أحد فيعني ألا وجود
لأحد.. وإن وجد ولم يرد، ولم ينتبه، ولم تهزه فما هو إلا أصم أو أنه جزء
من هذا الفراغ.. أي أنه فارغ أيضاً.. وهكذا يمكن لهذا التعريف الذي وضعه
الكاتب أن يقودنا إلى سلسلة لا متناهية من التأويلات والتصورات ذلك لأننا
نشعر، إن لم نكن على يقين، من أن هذه الصرخة ليست بسيطة سهلة وليست
اعتباطية ولا يمكنها أن تتيه في الفراغ أو تكون فيه دون قصد، وأن ما أراده
المؤلف من تعريف لها هو أعمق بكثير مما يبدو عليه. وهو أمر يذكرنا بما
قصده أيضاً عبدالرحمن الكواكبي (1848 ـ 1902) حين كتب على غلاف كتابه
(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) في أول طبعة له ما يلي:".. وهي كلمات
حق، وصيحة في واد… إن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غداً بالأوتاد".
1-عبدالرحمن الربيعي، دابادا..رواية عراقية، جريدة (القادسية) العدد 2683 بتاريخ 17/10/1988 بغداد.
2 حوار مع حسن مطلك، مجلة(ألواح) العدد 11 سنة 2001 مدريد، ص135.
3 المصدر السابق نفسه ص135.
4 عدنان المبارك، القرن العشرين.. التحولات الكبرى في تاريخ البشرية، منشورات الزمان 2001 لندن، ص47.
5 أساطير من بلاد ما بين النهرين، ت: نجوى نصر،الناشر:بيسان 1997 بيروت، ص371.
6 يوخنا مرزا خامس، رواية(دابادا) لحسن مطلك.. رموز الحياة في النص الروائي، صحيفة (الزمان) العدد 1963 بتاريخ 10/11/2004م بغداد.
7 د.عبدالله إبراهيم، الاحتفاء برواية عراقية، جريدة (القادسية) بتاريخ 12/8/1988م بغداد.
الأحد أكتوبر 21, 2012 2:19 pm من طرف جراح