تزخر المنطقة العربية بعدد من الإحتجاجات الشعبية المرتكزة على معارضة السلطات القائمة. ويحمل هذا الواقع معاني جمة تجاه ما يتضمنه مفهوم السلطة في سياق تطورها التاريخي. كما يندرج في هذا الإطار، كيفية تداول هذه السلطة في سياق تدرجها وتطورها.
إن الاستحواذ على السلطة، كان عبر التاريخ، هدفاً لتحقيق المقاصد والأماني بالنسبة للحاكمين، كما كان وسيلة معلنة للطامحين إلى الإصلاح والتغيير. إضافة إلى ان مجمل الصراعات حولها كانت سبباً للحروب والنزاعات بين الدول والأمم والجماعات. ولعل هذا الأمر، أدى بنخبنا العربية إلى السعي نحو الإصلاح السياسي كوسيلة لإعادة الإعتبار للسلطة كونها وسيلة لتنظيم حياة الناس، وليس من أجل فرض الحكم عليهم دونما إعتبار لأي غرض إجتماعي آخر.
إن عالمنا العربي بعمقه التاريخي لم يمارس كثيراً آليات تنظيم إنتقال السلطات وتداولها على أسسس سلمية وعادلة تمنح الناس فرصة أن يكونوا متساوين لدى إختيار حكامهم. تتطلب السلطة في جوهرها الفكري والفلسفي مستويات عدة على صعيد إصدار الأوامر وتلقيها. وهناك قوانين تحدد الحقوق والواجبات تجاه هذه المسألة . في هذا المجال، ينبغي علينا التمييز بين معنى السلطة الحقيقي ومفهوم السيطرة. فإذا تم إستعمال السلطة بطريقة مغايرة لمعناها الحقيقي فإنها بالتالي ستتجه إلى ممارسات مختلفة مما يعرضها للتفكك والإنهيار والضياع. على هذا الأساس، يمكن إعتبار نظرية مصادر السلطة بمثابة سلطة قائمة إتخذت أسسها ومرجعيتها من طبيعتها أو التفويض التعاقدي الذي اتسمت به.
أي محاولة لتحليل مفهوم السلطة تقودنا الى كشف جوهرها بإعتبار أن مكانة العدل يجب أن تكون متقدمة على نفوذها وأن يثبت فوقها وأيضاً معها. هو فوقها باعتباره قيمة قانونية مبدئية، ومعها كونه محتاجاً إليها.
كل هذا من أجل وضع ثوابت لقيام نظام حكم تسلطي، وايضاً لمعرفة الحدود المانعة للتسلط كي يصبح سلطة كاملة ومطلقة. إن الحق لا يكون موجوداً فقط عبر إعطاء الأوامر بدافع السيطرة. وهناك دلائل عديدة تؤكد وجوده في كينونة البشر. على هذا الأساس ووفقاً لهذا المفهوم علينا في عالمنا العربي، وإنطلاقاً من سيرورة التاريخ الإبتعاد عن التوحش سبيلاً للوصول الى السلطة، كذللك يجب تعزيز الإتجاهات الأكثر واقعية وحضارية من أجل إكتسابها.
إن مبدأ تداول السلطات في بلداننا العربية لا بد أن يرتكز على أسسس تنافسية سلمية. وهذا ما تشير إليه مسارات تاريخية لإنتقال السلطة ديموقراطياً. ويبرز تاريخ السلطة في منطقتنا العربية، ولبنان واحد من دول هذه المنطقة، على أنه مسار تحكمت به عوامل إنفصام في تاريخه تجاه واقع هذه المسألة، خصوصاً في ظاهرة تداولها أو عدمه. ظاهرياً، لقد بدت السلطة وكأنها شفافة. بينما واقعياً، إتخذت منحى آخر، وذلك بسبب حصرها في يد العائلات والإقطاع التي تحكمت بمسارها بشكل أو بآخر.
والسؤال الذي يطرح نفسه حالياً هل ما زلنا نعيش هذه الحالة الإنفصالية؟ وهل ما زالت مسألة حكم العائلات وتوريث الأبناء والأقارب قدر لا مهرب منه؟ في تاريخنا الإسلامي تجربة كان من المفروض أن تبقى رائدة وقد إستمرت ما يقارب الثلاثين عاماً، هي تجربة الخلفاء الراشدين البالغ عددهم أربعة خلفاء. غير أن هذه التجربة فشلت ودخلت الدول العربية حالة حكم العائلات والتوريث السياسي.
لقد إستمرت موضوعة السلطة وتداولها لدى العرب تواجه بيئة جامدة ساهمت في إفشال فكرة تطويرها إلى حكم يستند الى العدالة، في حين أن الدول الاوروبية قامت بتطوير نفسها، حتى أن النظام الملكي لديها سعى الى فصل دور الملك والحاكم. وقد إتجهت الدول بمعظمها نحو نظم ديموقراطية تقوم على مبدأ إختيار الحاكم من طريق الإنتخابات الشعبية، إضافة الى نظم سياسية أخرى إتبعت نظماً تتناسب مع فكرة السلطة لديها. لقد استمرت خريطة السلطة في المنطقة العربية ثابتة دونما تغيير، كما هي الحال بالنسبة الى الدول التي إستبدلت نظمها وإتجهت الى الحكم الجمهوري، فلم يتبدل جوهر السلطة بإعتبار أنها إنتقلت من حكم العائلات الى حكم الأفراد الذين ربما يؤسّسون لحكم عائلي تحت شعارات مزيفة في الديموقراطية وغيرها. لهذا شهدنا في عالمنا العربي سلسلة من الإنقلابات العسكرية بدءاً من حقبة نيل إستقلالنا من المستعمر، وقد أدت هذه الإنقلابات المتتالية الى تغيير طبيعة تركيبة الحكم أو السلطات التي أدت بدورها الى تغييرات إجتماعية وسياسية وحتى إقتصادية .
الجدير بالذكر، أن غالبية الدول العربية، وعلى الرغم من أن موضوعة السلطة ومسألة تداولها قد حددت قانونياً في الدساتير العربية، كانت عدلت مواد الحكم لديها بما يتماشى مع توجهاتها السياسية... كما أن عدداً من هذه الدول ليس لديها حتى الآن دساتير وقوانين من أجل تبادل السلطة. ما هو ملحوظ أيضاً، أنه وعلى الرغم من أن العديد من الدول العربية لديها إنتخابات نيابية، فإن ذلك لم يؤد إلى تشكيل سلطة فعلية لديها، كما أن هذه الإنتخابات وفي ظل وجود حكم وراثي أو إستبدادي أو إحتكار في السلطة قد أنتجت استلابا فيها وهيمن التفرد على صعيد الحكم.
يبقى أن الكلام عن مستقبل للسلطة والموانع التي تمنع قيام ديموقراطية حقيقية تنتج محاسبة للحاكمين يطرح أسئلة من نوع: هل بمقدور الجماهير العربية التي إنتفضت في الآونة الاخيرة في عدد من الدول أن تتمكن من استعادة سلطتها وتداولها؟ إن طموح الإنسان العربي وقدرته في إطار ما طرحناه عن معنى السلطة الحقيقية يبقى همه الأساسي لبناء مجتمع عربي غايته إرساء مشروع شامل لحضارة إنسانية متجددة في عروبة متجددة أيضاً ترتكز الى مفهوم الحداثة السائد في الدول المتقدمة.
إن عالمنا العربي الذي عاش قروناً مديدة في ظل التسلط وإلاستبداد تواق الى تكوين مجتمعات تكرس قيام سلطة حقيقية تستند الى أشكال متقدمة من الحكم العادل. غير أن واقع الأمر مخالف للأمنيات. فأنظمتنا العربية لم تقم حتى الآن بإصلاحات جذرية تؤسس، عملياً، لقيام مثل مجتمعات كهذه، وهي تخشى من خسارة مواقعها في الحكم وعدم السيطرة عليها.
لذلك فإنها تلجأ الى إبتكار أشكال من العلاقات داخل بلدانها، ما يؤدي الى بروز مجموعات من المثقفين والتكنوقراط يتمحورون حولها وفي مقدمة هذه المجموعات فئات محددة من رجال الأعمال.
يبقى أن الديمقراطية هي أساس الحكم الرشيد والعودة إلى قواعدها في إنتخابات حرة نزيهة هو أساس أي إصلاح جدي.
عن جريدة النهار
الثلاثاء أغسطس 11, 2015 5:31 pm من طرف نابغة