تتعدد
الأدلة التي يستخدمها المتدين لإثبات وجود اله ويمكن إرجاع هذه الأدلة إلى
واحد من ثلاثة أنواع كما قسمها كانط، وهي الدليل الانتولوجي والدليل
الكوزمولوجي ودليل التنظيم؛ في هذا الطرح سأتناول الدليل الكوزمولوجي
باعتباره الأكثر استخداما والأكثر أهمّية في نظري على الأقلّ.
يستند الدليل الكوزمولوجي إلى مبدأ رئيسي من مبادئ العقل البشري الذي
ينص على أنّ لكلّ شيء سببا أو لكل معلول علة، معظم النظريات العلمية (ان
لم نقل كلها ربما باستثناء مكانيكا الكم) تستند إلى هذا المبدأ وبدونه
سيصبح تفكيرنا محدودا جدا رغم، وكما سنرى لاحقا، أنّ هذا المبدأ ليس عاما
كما يتصور الغالبية منا. إذن لنسلّم بأنّ لكلّ شيء سببا وهنا نتفق مع
المتدين في المقدمة التي طرحها، يقول المتدين بعد ذلك أن للكون سببا (فهو
شيء ولا بدّ له من سبب بناء على المقدمة) ويعلن أنّ الله هو سبب الكون،
إلى الآن لا أرى أيّ خرق في المقدمة وبالتالي أتوقع (أنا الملحد أو
اللاادري) أن لله سببا لذلك أبادر مباشرة بسؤال المتدين "ما سبب الله؟" أو
بالصيغة الأكثر شهرة "من خلق الله؟"، مهما اختلفت صيغة السؤال لا يتغير من
أين أتى الله؟، وهنا يفاجئك المؤمن بالإجابة ويقول بأنّ الله لا سبب
له؟!!!؛ ألم تقل أنّ لكل شيء سببا، إذن هذا الله يحتاج هو الآخر إلى سبب
وأنت بذلك تخرق المقدمة التي بنيت عليها استدلالك، إلا إذا لم يكن الله
شيئا، لكن في هذه الحالة سيكون الله لا شيء، وبالتالي لا يمكن أن يكون
سببا للكون (أو للوجود المادي بشكل عام)، إذ لا يمكن أن يكون اللا شيء
سببا لشيء. الخلاصة أن المؤمن إمّا أن يخرق المقدمة التي بُني عليها
الاستدلال أو ينفي وجود ما يريد أن يثبت وجوده دون أن يدرك ذلك.
لكن يا ترى لماذا لا يدرك المؤمن أنه ناقض المقدمة ويصرّ على أنّ
استدلاله محكم ومفحم ولا يمكن الردّ عليه؟؛ أعتقد أن ذلك يرجع إلى حكم
مسبق، فالمقدمة التي طرحها ليست عامة وهو نفسه يقرّ بذلك ضمنا ولنضع
المقدمة بصورة واضحة، كما يتخيلها المؤمن، ستكون أن لكلّ شيء سببا عدا شيء
واحد فقط، والمؤمن يفترض ضمنا أن هذا الشيء الواحد هو إلهه، لذا كان ردّه
على سؤال "ما سبب الله؟" بأن ليس لله سبب؛ لكني أقول إن هذا مصادرة على
المطلوب أي وضع النتائج في المقدمات، ومن الممكن أن أثبت بنفس الطريقة أن
الوجود المادي لا سبب له، وبهذا يصبح نفس الدليل الذي يستخدمه المؤمنون
يمكن أن يستخدمه الملحدون وهذا ما فعله ايمانويل كانط تحديدا.
بعض المؤمنين يقومون بقفزة بهلوانية بعيدة تماما عن التسلسل الذي
بني عليه الاستدلال إذ يسألك فجأة "ماذا قبل الثلاثة"؟ طبعا اثنان. و"ماذا
قبل الاثنين"؟ طبعا واحد. و"ماذا قبل الواحد"؟ طبعا صفر. وسواء أجبت
بالإجابة الأخيرة أم لم تجب يقول لك بأنّ الواحد ليس قبله شيء والله هو
ذلك الواحد الذي ليس قبله شيء؟!!!؛ مهلا يا هذا ما هذه القفزة البهلوانية؟
أنت هنا تضع مقدمة أخرى لم نتفق عليها بعد وفي نفس الوقت ترتكب نفس الخطأ
الذي ارتكبته مسبقا أي وضع النتائج في المقدمات، سأسلّم بأنّ الواحد ليس
قبله شيء، لكني لا أسلّم بأنّ الله هو ذلك الواحد فبالنسبة لي الوجود
المادي هو الواحد الذي ليس قبله شيء وبالتالي أنفي وجود إلهك بنفس الدليل
الذي طرحته لكن باختلاف الحكم المسبق.
سأكتفي بهذا القدر، في المرة القادمة سأناقش صورة أخرى لهذا الدليل ربما تكون أكثر تماسكا لكنها هي الأخرى تعاني نفس المشكلة.
كل متغير حادث ولكل حادث مٌحدث، هذه إحدى صور الدليل الكوزمولوجي وتبدو
للوهلة الأولى أكثر تماسكا من الصورة التي ناقشتها في المقال السابق؛ ذكرت
في المقال السابق أن مشكلة الإثبات "لكل شيء سبب" هي أنه ينطبق أيضا على
الله وبالتالي يثير السؤال عن سبب وجود الله، ذلك أن الإثبات لم يقم
باستثناء الله صراحة (طبعا الاستثناء يحتاج إلى مبرّر قويّ)، وسبب التماسك
الظاهري للدليل الحالي (كل متغير حادث…) هو في كونه يحاول استثناء الله
صراحة في المقدمات.
يستمر الإثبات بملاحظة أن الكون متغير، لذلك فهو
حادث ويحتاج إلى محدث وهو الله، في هذه الحالة عند السؤال عن سبب وجود
الله تكون الإجابة بأن الله ليس بمتغير وبالتالي ليس بحادث ولا يحتاج إلى
محدث؛ لكن هناك ثغرة في هذا الإثبات ذلك أن المُحدث يعتريه تغير لحظة
تسببه في الحادث، فمثلا لو تذكرنا مثال البيت في المقال السابق سنجد أننا
نجزم أن من بنى البيت اعتراه تغير لحظة البناء. بكلمات أخرى نقول إذا لم
يعتره تغيّر لما بنى البيت من الأساس، بالمثل لو لم يعتر الله تغير لما
خلق الكون (أو الوجود المادي)؛ خلاصة ما سبق أن من المستحيل استثناء من
قام بالفعل من الخضوع لنفس القاعدة أي أن الله كذلك متغير (لأنه قام بفعل
الإحداث) وبذلك يكون هو الآخر حادثا ويحتاج إلى محدث، هذا يعني أن استثناء
الله لم يتم بسبب القاعدة إنما بدافع حكم مسبق أي مصادرة على المطلوب.
مرة
أخرى هذا الإثبات إمّا أن يؤدي إلى تسلسل لا نهائي وإما أن يتوقف الإثبات
عند نقطة معينة بدافع دغمائي بحت، وبهذا أكون قد فنّدت هذا الاستدلال دون
أن اضطر إلى محاكمة المقدمات نفسها.