في كيمياء القصيدة
لأنّ
التيه هو وطن الشاعر، بل هويته الوحيدة، تتشرّد الكلمات في كلّ درب. لا
المعاني تجد مستقراً لها، ولا الاستعارات البيض تجنح إلى هدوء. فاللّغة في
جوهرها، مجازية، وهي بالتالي، خيانة مستمرّة للمعنى، تقول الشّيء ونقيضه،
محكومةً بالانزياح، تحاور بريق اختلافها وتناوره، في لعبة مرايا لا تنتهي.
في البدء، كانت الكلمة صمتاً، وكان النطق تلعثماً، وكان المكان متاهاً.
وحين يهتدي الشّاعر إلى مفرداته الأولى، يعود القهقرى إلى حضن المتاه،
يحاصره شغف عوليس بالارتحال، لا يثق كثيراً بالدروب، ولا بالخطى التي حفرها
الأسلاف من قبله. من هنا رؤيا المتاه، وفتنته التي لا تقاوم.
تولد
القصيدة من رحم الفكرة الأولى، ومن اصطدام الوعي بلغز شقائه، نتيجة
انفصاله عن براءة الرّوح الكلّية. تولد لتنطق بأكثر من لسان، ويشترك
الشعراء جميعاً في تأليفها، فالشعر الحديث مدين لبودلير بالتركيز على
جماليات القبح، ولريتسوس بتصيّد التفاصيل المهملة، ولريلكه بوصف مكابدات
الأنا في حوارها مع أطيافٍ عليا لا تنفكّ تتوارى، ومدين لإليوت بأسطرة
العابر، ولستيفنس بالارتقاء بالطبيعة إلى مستوى التأمّل الميتافيزيقي
المحض. وشعرنا العربي مدين لأبي تمام بقوّة البلاغة، وللمعرّي برصانة
التفكير الفلسفي، وللنفّري بجماليات التكثيف، ووهج العبارة التي لا تدلّ
إلى على نفسها، ولجبران ببذخ التمرّد وبهاء التأمّل الذاتي. إنّ استلهام
أثر السلف لا ينبغي أن يكون محاكاةً لنموذج مقدّس، بل فعل إبداعٍ وتجاوز،
وعملية صهر معقّدة للتقليد الأدبي. ولا بدّ للشّاعر من الاتكاء على قوّة
الموروث، وخلق صلة تناصّية مع النسق المنجز، والفكرة القديمة القائلة بأنّ
الإبداع مصدره إلهام سحري غامض، يهبط على حين غرّة، لم تعد تملك الصدقية
نفسها اليوم في ضوء الدراسات النفسية والسيميولوجية والبنيوية والتفكيكية،
وسواها. إنّ امتلاك الشّاعر ما يدعوه إليوت الحسّ التاريخي، يساهم في توليد
نصّ مركّب، غائر في شرطه المعرفي، ينقذ الأنا من خطر الوقوع في التعبيرية
المجانية التي لا تتجاوز حدود الهلوسة الضيّقة.
كانت
كلمة شاعر (Poet) بالنسبة الى الإغريق، تعني الصانع (Maker)، وهذه إشارة
إلى أنّ الشعر حرفة بالدرجة الأولى يجب إتقانها وامتلاك أدواتها. وعندما
نشر الشاعر الأميركي إليوت قصيدته «الأرض الخراب» أهداها إلى مجايله وصديقه
عزرا باوند بكلماتٍ تقول «إلى الصّانع الأمهر»، بعدما قام باوند (وليس
إليوت) بحذف الكثير من مقاطعها في مسودتها الأولى، مما اعتبره حشواً لا
يتموسق مع البنيان العام للقصيدة. هذا يؤكّد أنّ الشّعر نتاج موهبة وثقافة
في آنٍ. يسعى الشاعر إلى إتقان حرفته أولاً، عبر التمرّس والدربة والاطلاع،
وعبر الإصغاء إلى الصوت الداخلي، الغامض والمربك. فالشعر، في كثير من
وجوهه، مسّ يجب إخضاعه لمنطق ما. والمجاز، بكل ثقله الانطولوجي، يعني
الدراية العميقة بتلك الحيل البلاغية من إيــقاعٍ وصورٍ وكنايات، وما تقوم
به من وظائف في ربط النصّ بلحظته النفــسية العميقة.
وما
الحداثة، في أعمق معانيها، سوى اصطدام اللّغة برؤيا الخراب الكوني الذي
يتعرّض له الكائن في زمن الآلة والتقدّم الرّقمي. هنا تبرز العزلة كضرورة
ملحّة تتيح للشاعر الوقوف خارج الحشد، وتأمّل الحال الإنسانية، واستنطاق
مكبوتها الجمعي. هذا لا يعني، في أي حالٍ، الانقطاع عن زخم الحياة
وتناقضاتها، والقفز فوق الرّاهن والمرئي، بل الخروج من السّائد والمألوف،
والبحث عن بؤر العتم في الثقافة والتاريخ، وهذا يتأتّى من المكوث طويلاً
على الحافّة، والتحديق عميقاً في الهاوية. في نهاية المطاف، لا يملك الشاعر
سوى عزلته بين الكلمات، يقلّم أظافرها كلّما استطالت، ويشذّب ويهذّب
وحشيتها قدر المســتطاع، في فــعلٍ خــلاّق يبدأ ولا
ينتهي.
تولد
القصيدة، إذاً، وتتشكّل كلاًّ واحداً، في تناغمٍ وتعايشٍ بين الصّور
والمعاني، وانصهار الإحساس بالفكرة، ليتشكّل ما يمكن تسميته «البنية».
ولكلّ قصيدة بنيتها الفريدة، تارةً تتبلور جليةً واضحةً، وتارةً تضمحلّ
وتتلاشى. وغالباً ما يشتكي الشّعراء من بطش اللغة وقسوتها، لأنها لا تلبّي
كلّ ما يريدون قوله. هذا مرتبط بكيفية توظيف تلك الأدوات الخرساء، وجعلها
لينة مطواعاً تخدم أغراض القصيدة. فالشّاعر يعرف كيف يروّض الكلمات، ليس من
أجل تدجينها أو إخضاعها لمنطق مسبق، بل للإبقاء على بربريتها وعنفوانها ما
أمكن.
لا ينتظر الشّاعر من
القصيدة أن تكتمل، أو تقف عند حدّ، فهي كالسّيل الذي يولد من رحم ذاته. ولا
يتوقّع أن تكون لها وظيفة إنقاذية، فغايتها ليست خلاص الكائن، بالمعنى
الدّيني، بل تعميق شعوره بالفناء، وشحذ إحساسه باقتراب النهاية. هي القصيدة
التي يجب أن توجد فحسب، ذائبةً كالشّمعة في ضوء ذاتها، عبثيةً، ولا طائل
من حضورها سوى متعة ذوبانها في التناقض. ألم يحكم أفلاطون على الشعراء
بالنفي الأبدي لأنهم لا يخدمون، برأيه، «الحقيقة»، وتنبأ بمصيرهم التراجيدي
كمنفيين أزليين؟ أليس هذا هو حال الشعر منذ فجر الخليقة؟
يعلم
الشّاعر، إذاً، أنّ جوهر القصيدة شبحي، لا يلمع إلاّ في العتمة، ولا يزهر
إلاّ في الشّقوق، ويعلم أن كيمياء القصيدة هواء يهبّ في كلّ اتجاه، لا غاية
تسنده سوى ارتحاله الدائم في بهيم المعنى، من دون رغبةٍ في الوصول، أو
الرّكون إلى مستقرّ نهائي.