عــــلي الرواحــــي
ملخص :
تتطرق هذه المقالة للتاريخانية كمنهجية في رؤية المسار
المستقبلي الذي تقوم عليه الحركة التاريخية، ذلك أن هذه النزعة التاريخانية
تقوم على «الحتمية التاريخية» التي تسيّر الأحداث البشرية، وهي في عمقها
تتسم ببُعد إيماني، بالرغم من الطابع العلمي لها. كما تتطرق هذه المقالة
إلى الجانب الآخر من الرؤية التاريخية التي جاءت من نظرية «أثر الفراشة»،
حيث تذهب هذه الأخيرة إلى رؤية مغايرة للنزعة للمسار المستقبلي.
التاريخانية وأثر الفراشة
يطرح
فيلسوف العلم الشهير (كارل بوبر 1902م- 1994م) سؤالا ً افتتاحيا ً
لمحاضرته حول فلسفة التاريخ، وهو : هل هناك خُطة للتاريخ، وإذا كانت هناك
خُطة فما هي؟(1)، ذلك أن النزعة التاريخانية هي تلك النظرية التي تقول
«بوجود خُطة للتاريخ، سواء ً أكانت إيمانية أم إلحادية» (بوبر، م س، ص160)،
تقدمية متطورة أم تراجعية نحو مركز تاريخي سابق. لا تعتبر النزعة
التاريخانية بهذا المعنى رؤية جديدة للمسار التاريخي، بل هي متجذرة في عمق
الأدبيات المختلفة : الدينية، التاريخية والأدبية...الخ. غير ان هذه النزعة
تتسم بطابعها الايماني العميق، ذلك ان هذه الخُطة «لا يمكن إدراكها إلا
بصورة ٍ مبهمة، لأنها ناتجة عن مشيئة الرب، أو الأرباب»(م س، 159). تتوافق
هذه الرؤية بشكل ٍ كبير مع «بنية الفكر الأوروبي بأسره، والتي هي أساسا ً
بنية لاهوتية في أصولها» (م س)، وهو ما نجده واضحا ً في «منهج الوحدة
والاستمرارية «هذا المنهج الذي تم تطويره في بداية القرن الثامن عشر، على
يد كل من فيكو (1668م-1744م)، وكوندورسيه (1743م-1794م)، فهو يقوم على فكرة
مؤداها ان التاريخ «خاضع لقوانين قارة تسير به في إتجاه مرسوم نحو غاية
محققة»(2). تجلت التاريخانية بهذا المعنى، أو المبدأ الغائي للتاريخ، بشكل ٍ
خاص لدى الفلاسفة الألمان البارزين: كانط ( 1724م-1804)، هيغل (1770م-
1831م)، ماركس (1818م – 1883م). يرى كانط «أن حرية الإرادة التي يشعر بها
الإنسان، إنما تتحدد وفقا ً لقوانين طبيعية عامة، شأنها في ذلك شأن أية
ظاهرة أخرى من الظواهر الطبيعية «(م س، ص47)، وهو بهذا المعنى « يُلحّ على
ضرورة البحث عن الغاية الطبيعية الموجهة للتاريخ» (نفسه، ص48). فالتاريخ
حسب كانط ينبغي ان يتم إخضاعه لقوانين كما أخضع سلفه بالمعنيين: الزمني
والمعرفي، نيوتن (1642م- 1727م) العالم الطبيعي لقوانين تستطيع التنبؤ
بالأحداث الطبيعية المستقبلية. في هذا السياق نجد ان العلوم الإنسانية
والإجتماعية تحاول أن تسلك مسلك العلوم الطبيعية: الفيزياء، الكيمياء
وغيرها، من حيث ضرورة إخضاع الفعاليات البشرية بشكل ٍ عام لقوانين تشابه في
دقتها، وميكانيكيتها، تلك القوانين التي يخضع لها العالم الطبيعي.كان هذا
المناخ الفيزيائي من نيوتن، والفلسفي من كانط، مشحونا ً بالعلموية التي
تسربت إلى الفلاسفة اللاحقين: هيجل، وماركس وغيرهما، الأمر الذي أدى بهيجل
إلى أن يستمد «مفهومه للتاريخ من المماثلة الكاملة بين التاريخي والمنطقي»
(م س، 48) أو بين البشري والعلمي، وهو ما جعله يتجه إلى منطق التاريخ أكثر
مما يتجه إلى مضمونه، وبذلك أخضع التاريخ إلى المنطق، بدل ان يحرر المنطق.
لم
تكن هذه الأفكار التاريخانية، أي تلك التي تقول بوجود غائية للتاريخ،
منعزلة عن المسار العلمي آنذاك، فلقد ظلت فلسفة العلم وكشوفاته المستمرة،
تعزز هذا الاتجاه وتعمّقه، وربما اللحظة النيوتونية تعتبر من أهم اللحظات
التاريخية التي جعلت اليقين البشري بامتلاك ومعرفة كل شيء، ممكنة، وبشكل ٍ
محدد، مع إكتمال صياغته لقوانين الحركة الثلاثة، وهي:
1) قانون القصور الذاتي: الذي يقول بأن كل جسم يظل على حاله سكونا ً أو حركة في خط مستقيم، ما لم يجبره مؤثر خارجي على تغيير حالته.
2) معدل التغير في العزم (كمية التحرك) يتناسب مع القوة المؤثرة في الجسم، ويكون اتجاه العزم هو نفسه إتجاه القوة المؤثرة.
3) لكل فعل رد فعل مساو ٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.
بهذه
القوانين الثلاثة تبادر إلى الجميع في تلك الفترة وما بعدها وكأن نيوتن قد
وصل «بنسق العلم إلى الذروة، ذلك انه وضع لأول مرة في تاريخ البشرية نظرية
تحكم كل وأي حركة في هذا الكون، وأمكنه ان يضم المرحلتين السابقتين في نسق
العلم، أي الحركتين السماوية والأرضية، وذلك بحكم عمومية الفيزياء
وشموليتها، الأمر الذي أدى إلى وجود تصور يقول بأن الكون شُكّل على هيئة
آلة ميكانيكية ضخمة مغلقة على ذاتها، من مادة وطاقة و(قوى) تسير تلقائيا ً
بواسطة عللها الداخلية وتبعا ً لقوانينها الخاصة في مسار صارم، تُفضي كل
مرحلة من مراحلها إلى المرحلة التالية، أي يؤذن حاضرها بمستقبلها»(3)، كانت
القوانين التي توصل إليها نيوتن، وبتمهيد معرفي سابق من الفيلسوف
الانجليزي (فرانسيس بيكون 1561م- 1626م)، بمثابة الموضة العلمية التي سعى
إليها العُلماء بكل تخصصاتهم الفيزيائية ،الحيوية، الكيميائية والطبية
وغيرها، وهي التفكير بشكل يقيني، وحتمي تجاه كل الفعاليات البشرية، فهذه
الفعاليات تعمل بشكل ٍ ميكانيكي صرف، حتى المسائل النفسية : كالوعي
والإدراك...و غيرها، وهو ما أدى بالفيلسوف الانجليزي (أوجست كونت
1798م-1857م) الشروع في تأسيس الفيزياء الإجتماعية «التي تدرس المجتمع
بمنهج العلم الحديث، فتقتصر على تفسير الظواهر بفضل ما بينها من علاقات
ثابتة تماثلها وتعاقبها» (م س، 99)، فهي «تدرس الظواهر الاجتماعية، تماما ً
كما تدرس العلوم الأخرى الظواهر الفلكية أو الفيزيائية أو الكيميائية أو
البيولوجية. وقد قسم الفيزياء الاجتماعية إلى قسمين، هما: الديناميكا
الاجتماعية التي تدرس المجتمعات في حركتها وتقدمها، والاستاتيكا الاجتماعية
التي تدرس المجتمعات في حالة ثباتها وإستقرارها خلال مرحلة معينة من
تاريخها» (م س، ص100). توصل كونت لاحقا ً إلى ان الظواهر الاجتماعية أكثر
تعقيدا ً من مقدرة المنطق الرياضي الميكانيكي على تفسير التحركات
المجتمعية، وهو ما جعله يتراجع عن مفهوم «الفيزياء الاجتماعية» ليستقر
لاحقا ً على مصطلح علم الاجتماع، ليأتي من بعده أميل دوركايم (1858م
-1917م) ليؤكد أن «علم الاجتماع قائم بذاته ويدرس ظواهر لا يشاركه فيها أي
علم آخر، وعليه ان يبحث عن علل ظواهره، كما راح يؤكد أن كل ظاهرة لها علة
واحدة، وليس هناك غاية أو هدف» ( م س).
من الممكن في هذا السياق المعرفي
الحديث عن التأثر الكبير للعلوم الانسانية بالعلوم والمناهج الطبيعية
متمثلة ً في علمي الاجتماع والنفس بحيث ان الاول يماثل علم الفيزياء
بالنسبة لمنهجية العلم وذلك باهتمامه «بالنسق الاجتماعي حيث تتفاعل شتى
العوامل ككل متكامل»، في حين أن علم النفس يبحث في الخصوصيات والجزئيات
الفردية.
نحن هنا أمام مبدأ هام جدا ً من المباديء العلمية الأولية، انه
مبدأ الحتمية، وهو يعُتبر من أخطر التصورات العلمية، فهو في مستوى من
مستوياته يجعلنا أمام يقين عقائدي (دوجمائي) متطرف بوجود حتمية للمعرفة،
والحياة، والمسار البشري، فهي (الحتمية) تعني من الناحية الوجودية «ان نظام
الكون مطرد ثابت شامل، لا يشذ عنه شيء في أي زمان ولا في أي مكان. فهو ذو
علاقات عليّة ضرورية ثابتة تجعل كل حدث من أحداثه نتيجة ضرورية (معلولا ً)
لما سبق، ومقدمة شرطية (علة) لما سيلحق «في حين أنها تعني من الناحية
المعرفية «عمومية القوانين وثبوتها ويقينها، فلا استثناء لها ولا تخلف عنها
ولا اتفاق فيها أو جواز أو إمكان أو عرضية» (م س، ص106).
لم يستمر مبدأ
اليقين والحتمية العلمي في التبلور والتضخم طويلا ً الذي ترافق معه وجود
تصورات طوباوية مستقبلية للتاريخ، والعلم والفلسفة وغيرها، فسرعان ما بدأت
الأزمة تلوح في أفق الفيزياء التي تعتبر بمثابة العمود الفقري لنسق العلم
الحديث والمعاصر، وذلك من خلال الهزات التي أحدثتها الاكتشافات في مجال
الديناميكا الحرارية أو النطرية الحركية للغازات...وغيرها. في حين ان
منهجية التأريخ بقيت بمنأى عن هذه التغيّرات العلمية، وهو ما جعل الماركسية
على سبيل المثال تواصل تصلبها العقائدي القائل «بحتمية التقدم التاريخي»
حيث ستصبح «ملكية وسائل الانتاج عامة وتنحل التناقضات وينتهي التاريخ، لأن
العصر سيمتد إلى الأبد وينعم فيه الناس كل حسب طاقته ولكل انسان حسب حاجته»
(4).
أثر الفراشة والمؤثرات الأثيرية :
يعتبر قاموس علم الفوضى أو
علم اللامتوقع حسب الترجمات العربيات المتنوعة، يعتبر هذا القاموس ما زال
في طور التكوّن، والتبلور، فهو قد بدأ في النشوء والتبلور في العام 1960م
وما بعدها، على يد الكثير من العلماء الأمريكيين، أبرزهم عالم الفيزياء
إدوارد لورنز. حيث «تبتدئ نظرية الفوضى (الكايوس) من الحدود التي يتوقف
عندها العلم التقليدي ويعجز، فمنذ شرع العلم في حل ألغاز الكون، عانى دوما ً
من الجهل بشأن ظاهرة الاضطراب، مثل تقلبات المناخ، وحركة أمواج البحر،
والتقلبات في الأنواع الحية وأعدادها»(5). فهي (نظرية الفوضى) «تجسد علما ً
عن العمليات المتحركة اكثر مما تصلح وصفا ً للحالات الثابتة» (م س، ص18)،
وهو ما يعني بأنها قد غيرت زاوية الرؤية لدى العُلماء ولاحقا ً لدى مستهلكي
نتاج العلم. لم يقتصر علم الفوضى على الجانب التجريدي فقط كما هو شأن
الكثير من مواضيع الفيزياء التقليدية، حيث كانت «النسبية تتعامل مع المقياس
الكبير (الكون) فيما تفكر فيه الكوانتم (الكمومية) في المقياس الاصغر
(الذرة ودواخلها)، في حين أن علم الفوضى يتأمل في التجارب اليومية والعادية
للبشر» (م س، 19).
من الممكن تلخيص نظرية الكايوس بنوع ٍ من الكثافة
المجازية التي عُرفت لاحقا ً باسم «أثر الفراشة» التي تقول: إن رفة جناح
فراشة فوق بيجينغ (بكين) تستطيع أن تغير نظام العواصف فوق نيويورك»، وهو ما
يتصل في سياق فلسفة التاريخ هنا، بعدم إمكانية التنبوء بالنتيجة اذا وجُدت
الاسباب الكافية لذلك، سواء ً على مستوى الطقس، أو بعض الأحداث الكثيرة
غير المحسوسة بشكل كبير ومباشر.
خاتمة :
هكذا نجد مما سبق أن
التاريخانية كرؤية إيمانية موجهة تجاه التاريخ والمستقبل أيضا ً قد ساندتها
الكثير من الكشوفات العلمية والمسارات العلمية، في فترة زمنية معينة، ثم
ما لبثت هذه المسارات بعد توغل التقدم العلمي، وتشعبه، إلا أن تغير مسار
التفكير والرؤية الميكانيكية للوجود لتستبدلها بعدم القدرة على التنبؤ
بالمستقبل، بالرغم من وجود خيط ضمني رفيع يحرك هذه الأحداث.