كما في ( أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها / وعاد مستشهداً / فبكت دمعتين ووردة / ولم تنزوي في ثياب الحداد)، التي علّمنا فيها محمود درويش كيف نرى الموت ، تشكَّل وعي التجارب الشعرية الجديدة وتخلق في مستويات نصية مغايرة تؤسس لشعرية عربية جديدة ، تنتقل بالذائقة والتلقي من ذاكرة التوقع إلى أفق انتظارات مخيبة.
و كدرويش آخرون معاصرون حفروا أنهار القول الشعري بمخيال التجربة الجديدة ، فأنشأوا مدائن الشعر المفارقِ صورةَ التقديس المبالغ فيه للتجارب السابقة. ومن أولئك الشاعر محمد علي شمس الدين الذي قرأ وداع أمه قراءة مشعرنة ، فكتب في ديوان المراثي المعاصرة قصيدة تعد أنموذجاً في علو كعب الرؤيا والتشكيل.أعني قصيدته ( الفراشة) التي تماهى فيها روح أمه بفراشة بيضاء في غرفته بعد أن أهال آخر حفنة فوق التراب من التراب.
( فراشة) شمس الدين تُخرج الشاعر من رؤية حزنه العادي المألوف إلى رؤيا ذات فضاء صوفي يتجاوز به المعنى الحرفي للموت ، بتمثلات وتقنيات شعرية تقيم ألفةً ما ، مع الموت ، وتردم هوة العلاقة الفاجعة معه كما في ديوانٍ آخرَ كبيرٍ مألوف.
وتجارب الشعراء المعاصرين مع الموت تشف عن معاناة إبداعية تعيد تشكيل اللحظة. فنازك الملائكة مثلاً كتبت ثلاث مراث لأمها: أغنية للحزن- مقدم الحزن - الزهراء السواء. وفي تقديمها كتبت: (( قد يكون الشعر بالنسبة للإنسان السعيد ترفاً ذهنياً محضاً، غير أنه بالنسبة للمحزون وسيلة حياة. وقد كانت القصائد الثلاث التالية محاولة للتعزي لجأت إليها على إثر وفاة أمي في ظروف محزنة عانيت منها معاناة خاصة. ولم أجد لألمي منفذاً آخر غير أن أحبه وأغني له)).
ثمة حب للألم وغناء له، وصورة أخرى للحزن، ولعل فراشة شمس الدين تعبر عن تفاصيل أخرى خاصة ، في حميمية العلاقة بين الابن وأمه واسترجاع صورتها غير النمطية وتناصّ تسميتها المتماهية في صورة روحانية تضفي على النص بهاءً ، يفضي إلى طمأنينةِ إشراق:
رأيتُ ثمة وجه أمّي
ويقال إن الله سمّاها على اسم الرحمة الأولى
فآمنةُ التي مثل الحمامة لم يشُبْها السوءُ
مازالت الأسماء رحمتها
وتسحب في مدار الشمس رايتها العظيمة
فالسلام على التي ولدت محمد
( وهو نور النور)
واغتسلت ضحًى بالماء
فانبعثت على الأشياء صورتها البهية... وليس لرؤية الفراشة مدى سوى الحلم، فأمه هي الحلم الذي يقهر الزمن الفيزيائي، إذ تتمثل له: ورأيت رؤيا: في الليل
في الحلك العظيم
وبعدما ألقيتُ آخرَ حفنةٍ
فوق التراب من الترابِ
ولم يعد في القبر غير جمالها العاري
رأيت فراشةً في الضوء تخفقُ
فاتّبعتُ جناحها بين القبور
وعدتُ نحو البيتِ
كي أجد السرير
سريرها الملكي
مرتجفاً
وتغمره الدموع
وأنّ فراشةً
حطّت هناك على السرير
كنقطةٍ بيضاء في الحلك العظيم
سألت نفسي:
هل رأيتَ؟
وهل سمعتَ؟
وهل تعود لكي تراني؟
وسألت نفسي:
أين تذهب روحها البيضاءُ؟
كيف ومن سيؤويها إذا ما أقفلَ الحفّار حفرتَها
و(( رنَّ المعولُ الحجريُّ )) في هذا الفراغ
الجوهريّ من الزمان؟
ومددتُ كفّي...
نقطة الضوء الفراشة لم تخَفْ
وأخاف، لكنْ..
ليس بَرداً ما يصيب أصابعي،
وأخاف ، لكنْ ،
ليس حُمّى...
فجمالُها المُضني على الأسلاكِ ،
شرّدَني ،
وقد أبصرتُ رؤيا:
في الليلِ ،
في الحلَك العظيمِ ،
وعند تشابك الأحياء بالموتى ،
وولولة السماءِ ،
رأيتُ أمّي. تبدو فراشة شمس الدين مستحضَرة لدى قراءة التفاتته النقدية إلى ( سيدة التفاحات الأربع ) للشاعر يوسف الصائغ الذي كتب زوجته الراحلة قصائدَ تجاوزت فيزياء الزمن والجسد ، فهي حلم متجدد في زمانه، ورفيقة لا تريم في تفاصيل يومية. ولعل صورة الصائغ وسيدة التفاحات مستدعيةٌ نزار قباني وقصيدة بلقيس التي أفردها ديواناً خاصاً، فـ( الشعر يسأل عن قصيدته التي لم تكتمل كلماتها ..ولا أحد يجيب على السؤال)، وتنداح دائرة الاستدعاء بصورة أخرى للشاعر ياسين رفاعية إذ يصدر ( ديوان الحب والمراثي) مشتركاً يضم قصائد زوجته الشاعرة أمل جرّاح وقصائده في رثائها، فينضاف بعدٌ آخرُ إلى رؤيا الشاعر متغزلاً - بأثرٍ رجعيّ - بزوجةٍ لا يعترف بفقدها ، كرؤية شمس الدين فراشته البيضاء التي تعود لكي تراه.