[size=35]حول رمز الفراشة [/size]
بصفته أداةً للمصالحة والتنازُلات السياسيَّة في الشِّعر الدينيِّ في أواخر العصر العثماني
عبد الغني النابلسي (1143 هـ/1730 م) نموذجًا
يشكِّل حلمُ الحكيم الصيني تشوانغ تسو، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، مثالاً مبكرًا على ظهور رمز الفراشة في الفكر الإنساني المدوَّن. ففي منام شهير يحلم تشوانغ تسو أنه تحول إلى فراشة في الوقت الذي تحوَّلتْ فيه الفراشةُ إلى تشوانغ تسو نفسه! ومع أن تشوانغ تسو لم ينفِ حدوث هذا التبادل بينه وبين الفراشة ولم يعترف به في آن، فإن الناقد المعاصر جيمس ليو يرى أن هذا الحلم، الذي ترك أثرًا باقيًا على الأدب الصيني، لا يقتصر فقط على أن تشوانغ تسو قد تحول إلى فراشة وعلى أن الفراشة قد تحولت إلى تشوانغ تسو، وإنما يدل أيضًا على رؤية وجودية تشير إلى أن "كل شيء هو كلِّ شيء آخر". كما أن عدم اعتراف تشوانغ تسو ولا نفيه يعني، في حدِّ ذاته، التوقف عن التفكير في حالة إشراقية satori والسماح للكشف بأن يحيط بهذه الرؤية الوجودية أو أن يلمَّ بها. غير أن التعبير عن هذه الحالة الكشفية التي يتم بها إدراك أن "كل شيء هو كل شيء آخر" يقتضي اللجوء إلى اللغة لإيضاح ذلك؛ وهذا، بدوره، يشكِّل مفارقةً ضدية paradox: فتعريف الشيء يعني استبعاد ما ليس منه – وبهذا ينشطر الجوهرُ الأساسي أو الرؤية الوجودية المذكورة سابقًا[1]. وبعد ما يزيد على العشرين قرنًا من حدوث ذلك الحلم الذي يتبادل فيه تشوانغ تسو الأدوار مع الفراشة، يعمد جاك لاكان إلى الإفادة من ذلك الحلم في أحد دروسه ليوضح دور التحليل النفسي واللاوعي في الأدب[2]. فقد طبَّق جاك لاكان خبرة تشوانغ تسو الوجودية لتوضيح لماذا كان "الرجل الذئب"، أحد المرضى الذين عالجهم تسيغموند فرويد، مصابًا بمرض الخوف من الفراشات[3]. فجاك لاكان يرى أن حاجة الإنسان إلى نقل تجاربه إلى الآخر تبدأ من اللاوعي؛ وعندما يتم التماس بين اللاوعي والوعي فإن العقل يُمِدنا باللغة التي هي، في جوهرها، رموز فعالة. وعلى أية حال، فإن رفيف أجنحة الفراشة التي ظهرت في حلم تشوانغ تسو لا تزال تحرك هواء النظريات النقدية الحديثة. أما في تاريخ الأدب الغربي، فإن فراشة إدموند سپنسر (ت: 1599) أثارت جدلاً فقهيًّا حول مقاصد سپنسر ومراميه في قصيدته "قدر الفراشة": ترف الفراشة فوق الحقول الخضراء وفوق الأرياف المنبسطة. وعندما تحط على الأوراق الحريرية فإن أرجلها الصغيرة لا تترك أثرًا، تتذوق الرحيق دون أن تلحق بالأوراق ضررًا.[4] هذه الفراشة المسالمة تقع ضحية شباك نسيج العنكبوت – مما دعا النقَّاد إلى التأمل في مصيرها: فقد ذهب بعضهم إلى أن ما أصابها لا يعدو أن يكون عقابًا كونيًّا عادلاً لروح أفرطت في الانغماس في الملذات الدنيوية، ومنهم مَن رأى أن السعادة تحمل في طياتها جرثومة الدمار، بينما أشار فريقٌ ثالث إلى أن ما حلَّ بها هو ظلم وَقَعَ على روح لم تفعل شيئًا سوى استجابتها لما فُطِرَتْ عليه من حبٍّ للزهور[5]. يكشف هذان المثالان السابقان عن تجربتين أدبيتين: إحداهما شرقية ذات بُعد فلسفي، والأخرى غربية ذات بُعد أخلاقي. وسوف أتحول في هذه الدراسة إلى عرض مثال من الموروث الأدبي العربي ينطوي على بُعد سياسي، يتخذ فيه المؤلِّف من الفراشة وسيلةً للمصالحة والتنازُلات السياسية compromise. تقتضي المصالحة أو التسوية بين قوَّتين متصارعتين موهبةً وإخلاصًا. وتكون أصعب عندما يتعلق الأمر بإقامة انسجام بين السياسة والتصوف. وعلى الرغم من ذلك، فإن المصالحة قد نُشِدَتْ شعريًّا خلال القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي، وذلك عندما سعى بعض علماء دمشق إلى تنقية التصوف مما لحق به من "عدمية" حلاجية؛ وكانت المحصلة تحولاً metamorphosis فريدًا في طبيعة رمز الفراشة المتوارَث في الشعر الصوفي. وجد الشعراء العرب، منذ وقت مبكر، في ظاهرة انجذاب الفراش إلى النار عنصرًا شعريًّا، فاصطنعوه في الهجاء والمديح والعشق. فالشاعر الأموي جرير بن عطية التميمي (ت: 111 هـ/729 م) ينتقي هذه الصورة للغضِّ من شأن الفرزدق وأصحابه: أزرى بحلمكم الفيـاشُ فأنتـم مثل الفراش غشين نار المصطلي[6] وعندما يجهر االمتنبي (ت: 354 هـ/965 م) بمديح أبي العشائر، فإن السيف يلتهب في الظلمة ساطعًا على الجماجم المحترقة، مبددًا أيدي الأعداء: كأنَّ على الجمـاجم منه نارًا وأيدي القوم أجنحة الفراش[7] إن هشاشة الأعداء وجهلهم قد كُثِّفا شعريًّا في صورة فراشة ضعيفة تسعى إلى حتفها. فصورة الفراشة قد ارتبطت في الذهن بالجهل والضعف والموت. إلا أن ذلك لم يمنع بعض الشعراء من تشبيه نفسه بالفراشة. فالشاعر الأيوبي سليمان بن عبد المجيد العجمي (ت: 656 هـ/1258 م) يكشف، كغيره من شعراء عصره، عن ولعه بالصنعة وتلاعبه بالألفاظ، فيتحول إلى فراشة عاشقة، متجاهلاً مآسي الغزو المغولي وهلاك الناس بالطاعون: لهيب الخـدِّ حين بدا لعيـني هـوى قلـبي عليه كالفراش
فأحـرقه فصـار عليه خـالاً وها أثر الدخان على الحواشي[8] حينما ابتكر العجمي هذه الصورة الشعرية، كان عنصر الفراشة moth motif قد تشعَّب واكتسب معنى آخر. فالفراشة يمكن فهمها على مستويين: إما أن تكون صورةً لفؤاد شاعر غَلَبَه جمالٌ مراهق فهوى في أتونه، شأنه في ذلك شأن الفراش المتهافت على نار جاحمة، أو أن تُفهَم على أنها رمز إلى رحلة روح المتصوف وتلاشيها في الجمال الإلهي[9]. فالتحول في الصورة الشعرية وجهةَ الرمز يُعَد خفقةً أساسية في النبض الإبداعي الأدبي، حيث تتجسد المجرداتُ في صور حسِّية ملموسة[10]. ينقسم الرمز في الشعر العربي إلى قسمين: أحدهما رمز أدبي، يكتسب من خلال السياق فضاءً خاصًّا، والآخر رمز صوفي مبيَّت. فمن الأمثلة المبكرة الدالة على صهر صورة الفراشة في رمز صوفيٍّ فعال ما وَرَدَ في كتاب الطواسين: يطير [الفراش]
حول المصباح، لم يرضَ بضوئه وحرارته فيلقي جملته [في]
حقيقة الحقيقة [...]
. فحينئذٍ يصبر متلاشيًا متصاغرًا متطايرًا، فيبقى بلا رسم وجسم واسم ووسم.[11] لقد ارتبط تصرُّف الفراش المهلِك بالمعتقد الصوفي القائل بإمكانية الفناء والتوحيد في الذات الإلهية. فرحلة روح المتصوف قد جُسِّدَتْ رمزيًّا في رحلة الفراشة إلى اللهب. إلا أن هذا قد أدى عمليًّا إلى حدوث شرخ أو صدع في الرأي الإسلامي: فقد اتضحت لعلماء السنَّة معالمُ العدمية الحلاجية الصوفية التي أشرفت بالتصوف على شفير الزندقة[12]. وليس من وكد هذه الدراسة معالجة ما نشأ من خلاف دينيٍّ حول قضية "الفناء الصوفي"، وإنما الفحص عن محاولة شعرية رامت رأبَ الصدع والمصالحةَ عن طريق الرمز. لقد استمر رمز الفراشة رافًّا في الشعر الفارسي، بعيدًا عن طائلة الشاجبين من علماء السنَّة للتطرف العدمي الصوفي. فقد وجد الشاعر السلجوقي عمر الخيام (ت: 517 هـ/1123 م) وقتًا ليفيق من خمرياته ويتأمل في خصوصية المفارقة paradox المتمثلة في المصباح والفراش: مصبـاحُ قلبي يسـتمد الضياء مـن طلعة الغيد ذوات البَهـاء
لكنَّـني مثـل الفـراش الـذي يسـعى إلى النور وفيه الفناء[13] أما فريد الدين العطار (ت: 617 هـ/1220 م)، فمع ميله إلى اتخاذ الطير رمزًا إلى الروح في كتابه منطق الطير، إلا أن رمز الفراشة، بما ينطوي عليه من سلبية حلاجية، غالبًا ما يرف في ثنايا الكتاب: هوى ثم علا من نشوة الوله وامتزجتِ الروحُ في رقصه باللهب، وطالت النيرانُ أطراف جناحيه، فجسمه، فرأسه، وعند ذاك توهَّج في حمرة ضاربة الشفافية.[14] وأما جلال الدين الرومي (ت: 671 هـ/1273 م)، فعلى الرغم من كثرة استعانته بعناصر الطبيعة وصورها للتعبير عن اعتقاده بفكرة الحلول، فإنه لم يستعمل رمز الفراشة إلا نادرًا. وفي القصيدة التالية من ديوان شمس تبريز، يتخذ من بحر الهزج وسيلةً لتكريس مفهوم النهاية الحتمية لسلوك الفراشة/الفؤاد: ينـادي خدَّ شـمعته إلـى فراش فاحترق
فيا قلباه كـي ترقص فويق ذبالة الشَّـمعة
تعجـَّـلْ ولتكنْ طوقًا والقِ النفسَ في الوهج
فلن تحيـا بلا لـهبٍ إذا أدركتََ ما النَّشوة[15] وبعد مرور خمسمائة سنة على صلب الحلاج، ظلَّ الرمزُ عمليًّا كما كان، دون أن يطرأ عليه أي تبدل جذري، كما هو جلي في شعر عبد الرحمن الجامي (ت: 898 هـ/1492 م): جذبتِ الشمعةُ الوهجَ وأغرى الوهجُ الفراشةَ بالاحتراق قربانًا.[16] فتهافُت الفراشة على النار قد أمسى جزءًا من الرمز الصوفي في الشعر الفارسي. وأسهمت النزعةُ الشيعية وغيابُ الضغط السنِّي المناهض للمضامين العدمية في تجذُّر رمز الفراشة واستمراره. كما أنه لم يكن ثمة ما يدعو الشعراء المتصوفة العرب إلى نبذه أو تجنُّبه: فقد استطاع التصوف، الذي أضفى عليه الغزالي كامل "المشروعية السنِّية"، أن يحظى بتشجيع السلاجقة والمغول والمماليك وأن يتغلغل في نسيج البنية الاجتماعية في مصر وبلاد الشام، حتى وصل إلى حدِّ تدخُّل شيوخ المتصوفة في تعيين طومان باي سلطانًا مملوكيًّا في أواخر العصر المملوكي[17]. وقد ظل نفوذ المتصوفة المتطرفين على استمراره، إلى أن تحول به العثمانيون وجهةً أخرى. فقد عمد العثمانيون، في أثناء سعيهم الدؤوب إلى تسويغ شرعيتهم السياسية، إلى استنهاض شعور سنِّي مناوئ للدولة الصفوية الشيعية الفارسية بتبنِّي طريقة معتدلة. وكانت الطريقة النقشبندية مواتية، فاعترف بها العثمانيون رسميًّا نظرًا "لأهميتها، من وجهة نظر إسلامية، في تعزيز ارتباط الشعب التركي بالتقاليد السنِّية"[18]. فقد كانت الطريقة النقشبندية، الخاضعة للتعاليم الشرعية والرافضة للنمط الحلاجي السلبي، أداة فعالة استخدمَها العثمانيون عقديًّا ضد عدوهم الصفوي الشيعي الفارسي، فيسَّروا شيوعَها بين سكان الأناضول وبلاد الشام[19]. وفي بلاد الشام، كانت دمشق في أواخر العصر العثماني حاضرةً حافلةً بنشاط أدبي متنوع، وكان من بين شعرائها المكثرين في أواخر القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي العارف النقشبندي عبد الغني النابلسي (ت: 1143 هـ/1730 م)[20]. وعلى الرغم من شحوب الجانب الفني في نَظْمِه الديني التعليمي، المتذبذب بين الزهد والشطح، فإن ظهور رمز الفراشة في نَظْمِه ظهورًا جديدًا يجعله وثيق الصلة بهذه الدراسة. ففي القصيدة التالية من ديوان الحقائق، يستخدم النابلسي رمز الفراشة استخدامًا فريدًا: فراشتي رأتِ النـورَ الَّـذي ظَهَرا نور الوجود الحقيقي يخطف البصرا
وهاجها النفخُ في الناي الرَّخيم وقد بـانَ الجمـالُ من الوجه الذي بَهَرا
فألقتِ النفـسَ منها فيه فاحترقتْ فلم تغـادرْ لـها عيـنًا ولا أثـرا
هذا الرمز الحلاجي يعود إلى الظهور في مطلع هذه القصيدة، مذكِيًا حزازاتٍ تاريخيةً بين علماء السنَّة وشيوخ المتصوفة، مازال أوارها متقدًا في عصره؛ إذ لقد شارك شعريًّا في تلك الخصومة. فلماذا يثير النابلسي دخان تلك المشاحنات؟ يظهر من بقية القصيدة أن هدفه لم يكن تكريس الرمز التقليدي المبتذل الدال على فكرة فناء الروح، وإنما يروم، على ما يبدو، إنقاذ الفراشة من الفناء: هذا ومن عجـبٍ أن الفراشـة لا تبقى على حالها لمَّا قضتْ وطرا
وكلَّـما سقطت في الأرض مُحرَقة عادت كما هي داعي سرها جهرا
حتَّـى تعـود إليه وهو يحرقهـا وبـاطلٌ هي وهو الحق قد ظهرا
بهذه القفزة في الخيال، يبارح الرمزُ معناه المتوارث: تحوُّل الفراشة عن طبيعتها وفقدانُها خصوصيتها مخالفٌ للقوانين. فليس من المعهود أن تغشى الفراشةُ نارًا وتتحول إلى رماد، ثم تخرج ثانية دون أن يمسَّها سوء! إلا أن هذا التصرف ممكن في وجود آخر[21]. فهذا الرمز يتسق مع نظرية أستاذه محيي الدين بن عربي (ت: 738 هـ/1240 م)، القائلة بديمومة تكرُّر الوجود والمتضمنة الجمع بين فكرة الفناء السلبي وفكرة البقاء الإيجابي، وأن "كلَّ فناء لا يعطي بقاءً لا يعوَّل عليه". وفي ذلك تأكيدٌ على أهمية الشريعة للسالكين ونفيٌ للفناء التام[22]. هذه النظرية تخدم الأهداف العثمانية الساعية إلى منح التصوف قبولاً بين علماء السنَّة. فقد استطاع النابلسي أن يقدِّم خدمته لولاة أمره العثمانيين في شكل رمزي: فقد كثَّف مفهوم ابن عربي المجرد والقائل بأن "كلَّ تجلٍّ يعطي خلقًا جديدًا ويذهب بخلق: فذهابه هو الفناء عند التجلِّي والبقاء لما يعطيه التجلِّي الآخر". في عبارة أخرى: "إن الخلق سلسلة من التجلِّيات الإلهية: كل حلقة منها ابتداءُ ظهور صورة من صور الوجود واختفاء صورة أخرى."[23] ويبدو أن النابلسي قد وُفِّق، إلى حدٍّ ما، في تكثيف فكرة أستاذه ابن عربي. فهل استطاع أن يرأب الصدع بين الفقهاء والمتصوفة؟ فبعض فقهاء دمشق الذين شاجرهم في ديوانه الشعري لم يكونوا على قناعة تامة بسُنِّية ابن عربي[24]؛ ويبدو أن إدراك النابلسي لهذه الحقيقة، إضافةً إلى تحمسه لفكرة المصالحة والتسوية بين متطرِّفي المتصوفة وفقهاء السنَّة[25]، قد دفعاه إلى اللجوء في خطابه الشعري إلى التوسل بضمير الجمع ودمج نفسه مع المتلقِّي على مستوى العاطفة الدينية: نحن الفراش جميعًا حول شعلته نطوف لكنْ دَرَتْ عشاقُنا الخبرا
فإن ساوَرَ المتلقي شكٌّ في مصداقية ما يقول، فإنه سريع إلى دعم مصداقية رمزه الجديد بإحالة قرآنية: كما أتى في كتاب الله يوم يكون الناس هم كالفراش البث منه طرا
دعك من ركاكة العجز. فالإحالة هنا إلى الآية الرابعة من سورة القارعة: "يوم يكون الناس كالفراش المبثوث." فالنابلسي، في عجلته إلى دعم رمزه الجديد، يُخِلُّ بمصداقية الرمز. فالآية القرآنية تشبِّه الناسَ بالفراش "في الكثرة والانتشار والضعف والذلة"[26]. فالفراش، في تطايُره، يجسِّد صورة الكثرة والضعف والفزع والانتشار، وليس الطيران نحو النار قصدًا. فمحاولة النابلسي لم تحزْ سوى إعجاب المقتنعين بنظرية ابن عربي. فإنْ لاح في تصرف فراشة النابلسي نوعٌ من التناقض، فربما يعود ذلك إلى التباس تصرفات رمزه بتصرفات مخلوق آخر. فقد ورد في كتاب الحيوان أن "السمندل طائر هندي [...]، فيه آية غريبة وصفة عجيبة داعية إلى التفكير وسببًا إلى التعجب، يدخل النار ويخرج فلا تحترق له ريشة"[27]. والسمندل أو العنقاء من عجائب الهند؛ فالمصادر الكلاسيكية تجعل الهند مقرَّه[28]. وفي الهند أيضًا تلقَّى مجدِّد الطريقة النقشبندية مراد بن علي البخاري أسرار تلك الطريقة[29]، ثم ترحَّل في البلاد الإسلامية، حتى استقر به المقام في دمشق. ربما يمكن القول، إذن، إن النابلسي قد تسامى، على مستوى الخطاب الأسطوري الشعري، إلى مستوى آخر من الوعي المتعذر قياسه، لوقوعه خارج نطاق الخبرة البشرية، إنما من الممكن فهمه واستيعابه على مستوى "اللاوعي الجمعي"[30]. فرمز النابلسي الجديد ينطوي على بُعد متسامٍ transcendental ويتضمن "خلفية" هندية. وربما يوحي ذلك بنموٍّ في العلاقة الثقافية بين الهند ومثقفي القرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلادي[31]. فهل أخفى النابلسي في قصيدته "عنقاء" لا تستمد مصداقيتها من القرآن، ولكنها تتصرف على نحو يوضح نظرية ابن عربي؟ أم أنه، باتخاذه موقفًا وسطًا بين علماء الشريعة ومتطرِّفي المتصوفة، قد اضطر إلى خلق مفارقة ضدية أدبية؟ فالمفارقة الضدية "هي جوهر الإبداع الشعري، حيث تقع بين طرفين متنافرين، وتلغي المنطق، وتبدو كما لو كانت مناقضةً للعلم ومنافية للمعقول [...]، حيث تلحم النقيضين معًا"[32]. ربما تكون المفارقة الضدية إبداعًا على مستوى المخيِّلة، إلا أنها قد لا تكون وسيلة عملية للمصالحة compromise بين قوَّتين تتصارعان على إحراز هيمنة سياسية وقانونية. كما يمكن القول، أيضًا، إن مهمته مستحيلة. فمع أن أتباع النقد الكلاسيكي الأرسطي ربما قبلوا هذه الاستحالة مادام "المستحيل ينبغي أن يبرَّر: إما تبعًا للتأثير الشعري، أو لتحسين واقع موجود، أو لتسويغ تقليد شائع"[33]، فإن محاولة النابلسي تكشف عن معضلة أدبية: كيف يأمل في رأب صدع عن طريق التلاعب برمز كان في أساسه سببًا لذلك الصدع؟ فمن محاذير الرمز، أحيانًا، أنه يفصل الناس بعضهم عن بعض (لاكان). تلك بعض الإشكالات التي يثيرها تحوير النابلسي لرمز الفراشة. مهما يكن من أمر، فإن من الصعوبة معرفة ما إذا كان واقعه السياسي قد أجبره على خلق مفارقة ضدية، أو تمويه، أو ارتباك شعري. ولكن الذي يمكن ملاحظته أنه خلال فترة الركود الأدبي في أواخر العصر العثماني كان ثمة رفيف خلاق تجلَّى في محاولة عبد الغني النابلسي الفريدة والساعية إلى المصالحة compromise بين علماء السنَّة ومتطرِّفي المتصوفة على مستوى الرمز.